مهنة الإسكافي في بعلبك تجدد شبابها
هي بعض الحرف اليدويّة التي كادت تندثر لولا الأزمة الاقتصاديّة، إذ إنّ النمط الذي سيطر على حياة الناس خلال السنوات الأخيرة دفعهم إلى الاستغناء عن كثير منها. مهنة الإسكافيّ (الكندرجيّ) واحدة من تلك الحرف التي بدأت تتراجع في العقدين الأخيرين وكادت تضمحلّ، لكنّها وبسبب الوضع الاقتصاديّ الراهن، بدأت تستعيد عافيتها نوعًا ما في قرى وبلدات محافظة بعلبك- الهرمل، بعدما لجأ العديد من أفراد الطبقة الوسطى، وحتّى الطبقة الميسورة، مجدّدًا، إلى إعادة إصلاح الأحذية التي ما زالت صالحة للاستخدام.
الإسكافيّ، عودٌ على بدء
كان الإسكافيّ قديمًا حكرًا على المدن، وكان أهالي المنطقة من قرى وبلدات بعيدة ومن الأطراف، يقصدون بعلبك لإصلاح أحذيتهم، وفي حقبة لاحقة انتشر الإسكافيّون في بلدات مختلفة، وعلى طول الاوتوستراد الدوليّ من بعلبك حتّى الهرمل والقاع. ثمّ وفي السنوات العشر الأخيرة، بدأت تتراجع كون معظم العاملين فيها هم من كبار السنّ. وها أنّها تعود اليوم وتجدّد “شبابها” بعودة الانتشار التدريجيّ، وبتنا نلحظ العديد من الإسكافيّين يستأنفون العمل في مهنتهم، وهم بغالبيّتهم في سنّ الشباب.
كان الإسكافيّ قديمًا حكرًا على المدن، وكان أهالي المنطقة من قرى الأطراف، يقصدون بعلبك لإصلاح أحذيتهم، وفي حقبة لاحقة انتشر الإسكافيّون في بلدات مختلفة، وعلى طول الاوتوستراد الدوليّ من بعلبك حتّى الهرمل والقاع.
وفي مقارنة الماضي مع الحاضر، نلحظ تفاوتًا كبيرًا في عدد الإسكافيّين، فمدينة بعلبك في فترة الأربعينيات انتشر فيها أكثر من عشرة إسكافيّين، أمّا اليوم فإنّ العدد يقتصر على ثلاثة، أحدهم يُدعى هاشم عثمان، والآخر الرفاعيّ، والثالث وهو حديث العهد، من التابعيّة الفلسطينيّة، كان والده يعمل في البويا.
إسكافيّان اثنان كانا سابقًا في بلدة العين أحدهما من آل القاضي وآخر من آل الجمال، اليوم ثمّة إسكافيّ واحد، هو محمد مصطفى إسماعيل، بالإضافة إلى إسكافيّ في بلدة النبي عثمان من آل يحيى، وإسكافي في البزّاليّة من آل البزّال، واثنان في مدينة الهرمل، هولاء هم إسكافيّو المحافظة جميعهم.
إسكافيّ بالوراثة
“حرفة الإسكافيّ قديمة جدًّا”، يتحدّث هاشم أنور عثمان وهو صاحب محلّ لتصليح الأحذية في طلعة العجمي- بعلبك، عن المهنة ويصف إيّاها بـ”المصلحة” ويقول: “إنّها قديمة جدًّا، وكان جدّي المرحوم سعيد حسن عثمان “أبو محمّد” من أوائل الذين عملوا في هذه المصلحة نحو العام ١٩٤٠، وكان دكّانه يقع في سوق اللحّامين (الجزّارين) وبقي يعمل في المهنة إلى وقت قليل قبل وفاته سنة ١٩٨٤”.
ويلفت عثمان في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّه بدأ العمل مع جدّه وهو في سنّ العاشرة من العمر “وقد عملت فيها حوالي خمس سنوات ثمّ تركتها وتوجّهت إلى أعمال أخرى، لكن عدت إليها في العام ١٩٨٩ وبقيت كذلك حتّى سنة ١٩٩٢ في المحلّ القديم، بعدها نقلت العدّة واستقرّيت هنا في دكّاني الحالي، ولا زلت أتابع الحرفة حتّى الوقت الراهن”.
أمّا حكاية الإسكافيّ محمّد مصطفى إسماعيل في بلدة العين (في البقاع الشماليّ) فتختلف دوافعها عن حكاية عثمان، إذ فيها الكثير من إرادة الحياة والعيش، حيث إنّ إسماعيل غدا وبسبب خطأ طبّيّ لا يستطيع المشي من دون عكّازين، “فاخترت هذه المهنة سبيلًا للعيش بكرامة كي لا أحتاج أحدًا”، يروي اسماعيل ويتابع لـ”مناطق نت”: “بدأت العمل في هذه المهنة منذ نحو عشرين عامًا، تسلّمت عّدة صغيرة من خالي، تكاد تكون متواضعة وموجودة في كلّ منزل، وبعد ثلاث سنوات اشتريت عدّة الإسكافيّ الكاملة من آل القاضي، الإسكافيّ القديم، وبدأت العمل في إصلاح الأحذية والحقائب المدرسيّة وصيانتها”.
ويضيف اسماعيل: “لقد حكمني وضعي الصحّيّ بالعمل في هذه المهنة، ولكنّني اعتدت عليها وأحببتها”. ويشير إلى أنّه تنقّل من مكان إلى آخر، حتّى فرد لها منذ نحو خمس سنوات غرفة من منزله “تفاديًا لعبء الاستئجار”.
عدّة من جيل إلى جيل
تنتقل عدّة الإسكافيّ من جيل إلى جيل، وكلّ جيل يسعى إلى تطوير مهاراته في الحرفة، ومواكبة ما استطاع من “الحداثة”، فالإسكافيّ عثمان ورث المهنة عن جدّه، ويعمل وشقيقه فيها، وكذلك يعلّم ابنه “علي” هذه المهنة، ولمّا يزل يحتفظ بعدّة جدّه القديمة.
ويعدّد عثمان أدواتها على النحو الآتي: “ماكينة سينجر إنكليزيّة قديمة عمرها مئة عام، بالإضافة إلى اقتناء ماكينة خياطة حديثة، مع العلم أنّ بعض الماكينات الحديثة باهظة الثمن اليوم، ولا قدرة لأيّ كان على شرائها حيث يتراوح سعرها بين ألف وخمسمائة وعشرة آلاف دولار، بالإضافة إلى الجلخ، المقصّ، خيطان ماكينة سينجر، زُنبة، ماكينة يدّ، محرز خياطة يدّ، بويا، وصباغ أحذية”.
بدوره الإسكافيّ إسماعيل يعمل بالعدّة المتواضعة التي اشتراها من الإسكافيّ القديم في البلدة (من آل القاضي)، وهي عبارة عن: “شواكيش (مطارق)، مسامير، خيطان، مخرز، سدّان، بالإضافة إلى ماكينة سينجر، لكن اضطررت إلى بيعها، واليوم أعمل على حياكة الأحذية يدويًّا، بالإضافة إلى بيع لوازم الأحذية من أسردة وضبان وبويا”.
صِنعة تستر
ازدهرت أخيرًا هذه المهنة، وتعتاش منها عائلات بحدّ ذاتها، بسبب غلاء أسعار الأحذية على نحو السلع كافّة، ويقول عثمان: “إنّ هذه المصلحة القديمة يلجأ إليها الفقير والغنيّ على حدّ سواء”، لافتًا إلى أنّ زبائنه من مناطق البقاع كافّة “ومن مختلف المستويات الاجتماعيّة، والبعض يشتري الأحذية الجديدة ويخيطها عندي قبل لباسها للحفاظ عليها”.
وقال عثمان: “طبعًا، إنّ الأزمة الاقتصاديّة التي أصابت الناس جميعها في لبنان، ومنطقتنا منها، وما رافقها من غلاء البضائع وارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة، كلّها عوامل ساهمت في ازدهار المهنة من جديد وأعادت لها مكانتها السابقة، بل وأكثر، إذ أعرف من نسبة الزبائن المرتفعة التي تقصدني يوميًّا، مدى الإقبال على تصليح الأحذية”.
عثمان: الأزمة الاقتصاديّة التي أصابت الناس جميعها، وما رافقها من غلاء البضائع وارتفاع الأسعار في السنوات الأخيرة، كلّها عوامل ساهمت في ازدهار المهنة من جديد وأعادت لها مكانتها السابقة، بل وأكثر،
وحول مردود المهنة، يستشهد عثمان بمثلٍ شائع كان يردّده جدّه: “صنعة مالك قلعة.. ما غنت بتستر.. عنزة حلّابة” ويؤكّد أنّ مهنة الإسكافيّ “إن كانت لا تغنيني فهي تسترني، إذ تعتاش من هذه المهنة ثلاث أسر”، ويلفت إلى أنّ “ما بين ثلاثين إلى أربعين زبونًا، يزورني يوميًّا”، مرجّحًا سبب الإقبال على دكّانه “كون المهنة أصبحت نادرة، وساعدني في ذلك موقع المحلّ في سوق بعلبك”.
وبحسب الإسكافيّ إسماعيل “فإنّ أحد أسباب ازدهار هذه المهنة والإقبال عليها هي الأحذية من البضاعة الصينيّة والسوريّة غير الجّيدة، والتي تحتاج إلى إصلاح، بالإضافة إلى غلاء الأحذية الجديدة كالإيطاليّة وغيرها”. لافتًا إلى أنّه يستقطب الزبائن من كلّ القرى والبلدات المحيطة ببلدة العين حتّى رأس بعلبك، “وبالرغم من كون المحل في المنزل إلّا أن ثمّة زبائن باتوا يعرفونني ويقصودنني من كلّ حدب وصوب”.
في بعلبك تستعيد هذه الحرفة التي كاد الزمان أن يطمسها مجدَها و”عزّها”، ويبدو أنّها ستنتقل مجدّدًا إلى جيل جديد يحاول احترافها والعيش من مردودها الذي بات جيّدًا.