صخور العاصي ومغاوره تشهد على مهد الموارنة وتاريخهم

في التاسع من شباط/ فبراير، من كّل عام، يحتفل الموارنة في لبنان وسوريّا والعالم بيوم القدّيس مارون أو كما يُتعارف عليه بعيد “مار مارون”، حيث تقفل المؤسّسات والمدارس اللبنانيّة الرسميّة والخاصّة أبوابها، وتقام القداديس وينثر البخّور، وتقرع أجراس الكنائس، إنّه يوم “أبو الموارنة” وشفعيهم.

وبينما يحتشد لبنان الرسميّ ومرجعيّاته الروحيّة، وخصوصًا المارونيّة، في الكنيسة التي سُمّيت على اسم القدّيس مارون في محلّة الجمّيزة، لتُقام القداديس والاحتفالات السنوية، تشخص الأنظار إلى نهر العاصي ومحيطه ومغاوره حيث الحكاية تقبع هناك.

المفارقة في أنّ الحكاية الواقعة في التاريخ الموثّقة لولادة القدّيس مارون في حمص، تختلف عن تلك الواقعة في الجغرافيا، حيث الدير أو المعبد الذي يحمل اسمه منقور في صخور العاصي والذي شكّل مهد الموارنة وتاريخ انتقالهم إلى لبنان، وذلك بحسب كتاب “مار مارون والموارنة – نظرة تاريخيّة جديدة” للكاتب سركيس أبو زيد، الذي أورد أنّ أوّل من نسب الموارنة إلى “مارون” هو مرهج بن نمرون أحد متخرّجي المدرسة المارونيّة. كما أنّ البطريرك المارونيّ الشهير أسطفان الدويهيّ (1630-1704) نسب الطائفة حينًا إلى مار مارون الناسك، وحينًا آخر إلى “دير مار مارون على العاصي”.

دير مار مارون على ضفاف نهر العاصي
على ضفاف العاصي

يختلف وقع الزيارة لدير مار مارون على ضفاف العاصي، عن القراءة عنه أو السماع به، فرهبة المكان وروحانيّته، هي أوّل ما يستوقف الزائر عند الدخول إلى تلك المغاور المحفورة بالصخر الصلد وتتدلّى من علٍّ كأنّها عيون مفتوحة على الزمان، تراقبه بخفر لتؤرّخ “الحكاية” بالرغم من أنّ الكثير من الغموض لا يزال يكتنفها، إلّا أنّها جديرة بأن تُقرأ.

زارت “مناطق نت” دير مار مارون في مغاور العاصي وجالت في أرجائه، “لم يفارقنا في تلك الجولة ذلك السؤال الذي يرتسم كيفما قلّبت ناظريك عن فعل الإيمان المقدّس في حياة الإنسان، وكيف لأشخاص عاديّين بأدوات وآلات متواضعة أن ينحتوا هذا الجبل ويجعلوه صوامع تعبّدهم؟”.

لم تبقَ زيارتنا إلى الدير يتيمة، فالأبّ ليشع رئيس الدير استقبلنا ببسمة وترحاب، حيث أخذنا برحلة في تاريخ شفيع الموارنة القدّيس مارون، مستهلًّا حديثه لـ “مناطق نت” قائلًا: “هناك خطأ تاريخيّ كبير يقع فيه البعض، القدّيس مارون لم يسكن مغارة هذا الدير ولم يزرها أبدًا (مغارة الراهب)، إنّما ولد في منطقة حمص وعاش ومات في جبال طوروس (قوروش) في سوريّا حوالي سنة 410 ميلاديّة، حيث أمضى حياته ناسكًا زاهدًا متعبّدًا، منقطعًا عن متاع الدنيا تقرّبًا للخالق، أمّا اسم مارون فهو سريانيّ الأصل ومعناه سيّد السادة أو السيد الأكبر”.

الأب ليشع رئيس دير مار مارون

يتابع الأب ليشع: “بعد وفاة مارون تكاثر تلامذته في المنطقة القورشيّة شمال سوريّا، تحلّقوا حول ديرهم الأوّل، أيّ دير مار مارون سنة 452 م. وبعد عقود قليلة بدأت طلائع الرهبان الموارنة تصل إلى جبل لبنان بقصد التبشير بالمسيحيّة”.

الدير الماروني الأوّل في لبنان

حتّم العبور من سوريا إلى جبل لبنان “على تلامذة مارون السير على ضفاف العاصي وصولًا إلى الوادي المعروف (بالمجر) حيث العين الزرقاء منبع نهر العاصيّ في خراج الهرمل، كونه الممرّ الطبيعيّ الوحيد في وسط صحراء جرداء، وقد أقاموا هنا قرب النبع، وحوّلوا المغارة في أعلاه إلى دير أطلقوا عليه تسمية مار مارون تيمّنًا بشفيعهم”.

“إنّه الدير المارونيّ الأوّل في لبنان” بحسب المطران منجد الهاشم. “وبعد الفتح الإسلاميّ في المشرق في النصف الأوّل من القرن السابع، أصبح هذا الدير نقطة انطلاق أساسيّة من وإلى الجبال اللبنانيّة”.

حتّم العبور من سوريا إلى جبل لبنان على تلامذة مارون السير على ضفاف العاصي وصولًا إلى الوادي المعروف (بالمجر) حيث العين الزرقاء منبع نهر العاصيّ في خراج الهرمل، وقد أقاموا هنا قرب النبع، وحوّلوا المغارة في أعلاه إلى دير أطلقوا عليه “مار مارون” تيمّنًا بشفيعهم.

“استمرّت الحياة الرهبانيّة في دير مار مارون” كما يؤكّد الأب ليشع، “حيث نحته الرهبان والعبّاد نحتًا جميلًا، نقروا فيه بضع غرف وأبواب وقوائم وحفروا فيه بئرًا يصل إلى النبع (سرداب)، وقد اهتمّ الرهبان بالنسّاك ممّن كانوا يعيشون في الوادي ويحتبسون في الكهوف والمغاور المطلّة على النهر ويمدّونهم بالإسعاف الروحيّ والمادّيّ، وآثار كتاباتهم لا تزال محفورة في الصخور بالأحرف اليونانيّة”.

من العاصي إلى وادي قنوبين

“طبعًا لم تكن أيّام الدير كلها رخاءً وهناءً” يقول الأب ليشع ويردف: “وبسبب الاضطهادات المتكرّرة كان رهبان الدير يضطرون للجوء إلى الجبال اللبنانيّة الوعرة، من هنا إلى دير الأحمر، ثمّ على المقلب الآخر لجبال بشرّيّ وجبّتها وصولًا إلى وادي قنّوبين، أيضًا لبكركي والديمان حيث تشكّل الجغرافيا عامل حماية إضافيّ.

يتابع: “في خلال فترة الحملات الصليبيّة تحوّل الدير إلى مركز عسكريّ، نظرًا للأهمّيّة الاستراتيجيّة لموقعه على تقاطع طرق القوافل قبالة قاموع الهرمل، وإشرافه مباشرة على نبع نهر العاصي. وقد بنى الصليبيّون بعض الجدران وغرف رماة السهام، بعدها تحوّل مرّة إلى حظيرة لمواشي الرعيان، وأحيانًا مخبأ للصوص والمهرّبين، لكن في كلّ مرة كانت العناية الإلهيّة تعيد الرهبان لتطهيره وإعادة الحياة الرهبانيّة إليه”.

محطات مهمة

استلمت الرهبانية المارونيّة اللبنانيّة هذا الدير وأعادت إنعاشه رهبانيًّا، لكن في العام 1898 استشهد فيه الراهب اللبنانيّ الأب يوسف الكفرصغابي ورمى أحد عمّال الدير جثّته في البئر. في حينه اتّخذ الأباتي مرتينوس الشماليّ قراره بعدم إرسال رهبان آخرين إلى الدير بسبب الخطر على حياتهم.

استمرّ الوضع على حاله حتّى العام 1929 حيث زار الدير الأباتي مرتينوس طربيه صحبة المطران عبدالله خوري ولفيف من أعيان المنطقة، فاستقبلهم آل حمادة (أعيان مدينة الهرمل حينذاك) بحفاوة بالغة.

لكن رغبة الرهبانيّة لم تتحقّق إلّا في العام 2018 من خلال اتفاقيّة وقّعها الأباتي نعمة الله الهاشم الرئيس العام للرهبانيّة المارونيّة والمطران حنّا رحمة راعي أبرشيّة بعلبك ودير الأحمر المارونيّة، وكلّف بعدها الأباتي الهاشم، الأب ليشع سروّع الإهتمام بالدير وإدارة شؤونه، “فعادت الحياة الرهبانيّة إليه وأعاده الله إلى الحياة”.

يختم الأب ليشع: “بعد تعييني رئيسًا للدير وزيارتي الأولى له، استقبلني الناس هنا بالترحاب، تسابق أصحاب المقاهي على استقبالي واستضافتي، قمنا وما زلنا نشجّع المؤمنين وكلّ الناس على زيارة الدير من كلّ المناطق اللبنانيّة والسوريّة أيضًا، ويأتينا الزوّار من كلّ بلدات المنطقة مسلمين ومسيحيّين، إنّ هكذا زيارات تساهم في كسر الحواجز وبناء العلاقات الأخويّة بين الناس، هكذا علّمنا شفيعنا مار مارون وهكذا سنبقى رسل محبّة ووئام نجمع لا نفرّق، نضمّد لا نجرح، نحبّ لا نكره”.

مصادر نادرة

في الاستقصاء عن القدّيس مارون نجد أنّ النصوص الموثّقة والموثوق بها شبه نادرة، يبقى أهمّها ما وصفه به وخطّه أسقف قوروش تيودوريتس “مارون زينة القدّيسين الذي مارس ضروب التقشّفات والإماتات تحت السماء دون سقف سوى خيمة صغيرة لم يكن يستظلّها إلّا نادرًا، هناك حيث تنسّك كان هيكل وثنيّ قديم، فكرّسه وخصّصه لعبادة الإله الواحد… يحيي الليالي بذكر الله وإطالة الركوع والسجود والتأمّلات في الكمالات الإلهيّة، ثم ينصرف إلى الوعظ وإرشاد الزائرين وتعزية المصابين……”

مع نجاح الحملات البيزنطّية على شمال سوريّا في القرن العاشر، اختفى الموارنة من وادي العاصي أو كادوا، ولم يبقَ لهم وجود خارج جبال لبنان إلّا حلب التي فشل الروم في أخذها، كذلك الأمر خلال انقسامات الكنيسة وفي إبّان الحملات الصليبيّة والفتح الإسلاميّ لاحقًا، بقي الموارنة يستوطنون جبال لبنان، عاشوا بين أشجارها المعمّرة، أكلوا ثمارها وعصروا زيتونها زيتًا، كذلك ألفوا وديانها السحيقة، شربوا من ينابيعها، بنوا فيها أديرتهم وكنائسهم.

وبالرغم من أنّ مصدرين تاريخيّين فقط أتيا على ذكر القدّيس مارون وهما رسالة من البطريرك يوحنّا ذهبيّ الفم موجّهة إلى مارون في منسكه العام 404 أو 405 للميلاد، وفصل من كتاب “تاريخ رهبان سوريا” لتيودوريتس أسقف قورش بين عاميّ 423 و458، إلّا أنّ لأتباعه من بعده تاريخًا طويلًا وعريقًا، حيث مغاور العاصي التي تضمّ الدير الذي يحمل اسمه، تحاكي براد القرية الواقعة في شمالي سوريا والتي على الأرجح تضمّ جثمانه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى