مواسم الكرز في جرود عرسال تتهالك والمزارعون يستغيثون

في أعالي جرود عرسال، البلدة البقاعيّة، حيث تتعانق الأرض مع زرقة السماء، وتتلوّن الجبال والتلال بثمار الكرز الحمراء، يواجه المزارعون أزمة حقيقيّة تهدّد مصدر رزقهم الوحيد. هناك في البلدة النائية، التي لطالما اشتهرت بإنتاج أفضل وأجود أنواع الكرز في لبنان، يعيش مزارعوها اليوم واقعًا مريرًا بسبب التحدّيات البيئيّة والاقتصاديّة والأمنيّة. يخافون من غدهم بعد أن رسموه حلمًا جميلًا بمخيّلاتهم، بينما الواقع يأخذهم نحو الكابوس القادم.
المصائب لا تأتي فرادى
كأنّ الأزمة الاقتصاديّة الخانقة وانهيار قيمة الليرة، إضافة إلى العدوان الإسرائيليّ المدّمِر على لبنان، لم تكفِ المزارعين، حتّى أتى الدور على التغيير المناخيّ، فتبدّى أثره كارثيًّا في موسم الكرز الحاليّ. يشرح أبو خالد الحجيري (60 عامًا) في حديث إلى “مناطق نت” ما حصل مع المزارعين فيقول: “الأمطار كانت شحيحة هذا العام، والثلوج نادرة، ضرب الصقيع والجليد الأشجار في فترة الإزهار، فتساقطت قبل أن تُثمر”.
يُراقب المزارعون الطقس يومًا بيوم للاطمئنان على مواسمهم، فيما التذبذب في درجات الحرارة وسرعة تبدّل الطقس، تؤدّيان بهم إلى القلق، وهذا ما حصل، إذ تسبّب ذلك في انخفاض كبير بالإنتاج، وفقد كثيرون معه ما يزيد على ثلاثة أرباع محاصيلهم المتوقّعة. وفي هذا الإطار يقول أبو خالد “كنّا ننتظر هذا الموسم على أحرّ من الجمر، لكن الطقس المتقلّب الذي ضرب المنطقة في نيسان (أبريل) دمّر الزهر، وأجهز على الغالبيّة الساحقة من المحصول، فبعضنا لن يأكل ولو حبّة كرز واحدة”. ويختم بحزن وغضب: “نصف عام من التعب والعمل ذهب هباءً. لا مردود ولا تعويض”.

خسائر بالأرقام
بحسب مصادر زراعيّة محلّيّة، فإنّ نسبة الخسارة هذا العام ستتجاوز الـ 90 في المئة من الإنتاج مقارنة مع السنوات الماضية. حسن عزالدين أحد تجّار الكرز في عرسال يصف في حديث إلى “مناطق نت” مأساة الموسم هذا العام فيقول: “استلمت الموسم الماضي وحدي 1000 طنّ كرز ومشمش بمختلف أنواعهما، وذلك بِدءًا من أوّل حزيران (يونيو) وحتى الـ 20 من آب (أغسطس)، إذ تراوحت الأسعار ما بين الـ 0,40 والـ 2,50 دولارًا للكيلوغرام الواحد بحسب جودته ونوعيّته”. ويتابع “هذه السنة يبدو التراجع في حجم الموسم مخيفًا، مئات العائلات تعيش من الموسم، فماذا ستفعل وكيف ستتدبّر أمرها؟”. يتساءل عزالدين.
جدير بالذكر أنَّ حجم الموسم الواحد من الكرز في عرسال كان يراوح بين الـ 6700 والـ 7000 طنّ سنويًّا بحسب إحصائيّات تقريبيّة للتجّار. بينما هذا الموسم سيكون بمئات الأطنان في أحسن الأحوال.
غياب الدعم الرسميّ
في ظلّ هذه الظروف القاسية، التي يرزح تحتها لبنان، يشتكي المزارعون من غياب أيّ أمل بدعم حكوميّ فعّال. “لا تعويضات ماليّة، ولا مساعدات زراعيّة، ولا تسهيلات للوصول إلى البساتين بغية إنقاذ ما يمكن إنقاذه، فالمرور على حاجز الرهوة في جرود عرسال أصعب من المرور عبر معبر رفح في غزّة”، يقول الحاج أبو محمد كرنبي (80 عامًا) بحزن لـ “مناطق نت”، مشيرًا إلى أنّ “الدولة لم تبادر حتّى إلى تقدير حجم الخسائر. كذلك فإنّ البنية التحتيّة الزراعيّة شبه معدومة، ولا توجد برّادات لحفظ المحصول القليل، ولا طرقات زراعيّة تساعد في نقل الفاكهة بسلام دون تعرّض قسم منها للتلف، المأساة كبيرة جدًّا ومحزنة” يختم كرنبي.
حجم الموسم الواحد من الكرز في عرسال كان يراوح بين الـ 6700 والـ 7000 طنّ سنويًّا بحسب إحصائيّات تقريبيّة للتجّار. بينما هذا الموسم سيكون بمئات الأطنان في أحسن الأحوال
مشاكل خانقة ومآس آتية
لا تتوقّف الأزمة عند تراجع حجم الموسم، وانعدام مردوده الماليّ، فمزارعو عرسال بحسب المختار علي الحجيري “قاموا بالاستدانة عالموسم بهدف حرث بساتينهم ورشّها وتقليمها، والآن لن يعطيهم الموسم كلفة جنْيِه فكيف سيستمرّون؟ كيف يسدّدون ديونهم؟ كيف يرسلون أولادهم إلى المدارس والجامعات؟ كيف يؤمّنون مستلزمات الشتاء المقبل؟ الله وحده يعلم، وبخاصّةً أنّ مصانع الحجر متوقّفة، والجمعيّات التي سترت مئات العائلات طوال 13 عامًا رحلت كلّيًّا”.
صوت المأساة غادر صدور المزارعين، وباتت ألسنتهم تتلعثم في الحديث عنها، وتشحُب وجوههم عند ذكرها، ف. وم. الفليطي امرأتان عازبتان مسنّتان، تعتاشان من موسم الكرز كمورد ماليّ وحيد، وبحسب اقوالهما لـ “مناطق نت” فإنّهما لن تنتجا “ولو أجرة الحراثة والرشّ والتقليم البالغة 370 دولارًا”. الموسم الماضي بالنسبة إليهما المردود كان “راس براس، والإنتاج بثمن الكلفة” لكنّ هذا العام إنتاجه مخيف لهما، فكيف ستتدبّران أمرهما المعيشيّ وحياتهما؟ ترميان أمرهما على الله وأهل الخير.

نداء لإنقاذ موسم الكرز
يُعيد المهندس الزراعيّ محمّد خليل في حديث إلى “مناطق نت” أسباب ضمور موسم الكرز في جرود عرسال بهذا الحجم إلى سببين: “السبب الأوّل هو التغيير المناخيّ العالميّ، ما أدّى إلى ارتفاع درجة حرارة الأرض بسبب تراكم الغازات الدفيئة في الغلاف الجوّي، أمّا السبب الثاني فهو موجة الجليد المفاجئة التي ضربت المنطقة في شهر نيسان، وأدّت إلى تلف الزهر في مرحلة التلقيح وتكوين البرعم والثمرة”.
اليوم ومع انطلاق الموسم في أيّامه الأولى، ثمّة مخاوف من تكرار الكارثة في السنوات المقبلة، إذا استمرت العوامل نفسها. وفي هذا الإطار يطالب المختار علي الحجيري باسم مزارعي الكرز في عرسال، من خلال “مناطق نت” بتدخّل “إغاثيّ عاجل من الدولة والجهات الرسميّة المتخصّصة، كوزارة الزراعة والهيئة العليا للإغاثة وهيئة ادارة الكوارث، لإنقاذ هذا القطاع والعاملين فيه، من خلال عدّة أمور، منها توفير دعم ماليّ مباشر للمزارعين المتضرّرين، ومنها تقديم دراسات وإرشادات وأبحاث علميّة لمعرفة آليّات مواجهة التغيّر المناخيّ، ومنها أيضًا تحسين الطرقات الزراعيّة وتأمين وسائل نقل مجهّزة لنقل المحاصيل دون تلف”.
ثمار الكرز أو ” فاكهة الملوك” كما يطلق عليها، في جبال عرسال ليست مجرّد فاكهة، بل هي قصّة أشخاص نقّبوا الجبال الجرداء وحوّلوها إلى مَزارع وبساتين، هي شريان حياة لمئات العائلات. تعيش من خيراتها وعوائدها، فهل من يسمع ويصغي إلى صرخة أوجاع الناس