ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج

ملكية الأراضي وتقسيمها، الإنتاج والضرائب (1)

بعد توقّفٍ قسريّ بسبب ظروف الحرب، تعود مواضيع وأبحاث الدكتور عبدالله سعيد لتأخذ طريقها مجدّدًا إلى النشر في “مناطق نت” كما كانت من قبل لتغوص، في تاريخ مناطقنا إبّان الحقبة العثمانيّة، وتحديدًا بداياتها 1525 – 1569 وذلك من خلال التمعّن والتدقيق بدفاتر الطابو العثمانيّة وقرائتها ودراستها والتمحّص فيها وبالتالي استخلاص الأرقام والنتائج والحقائق عن تاريخ مناطقنا التي أمعنت الكتب في شرذمته وصولًا إلى تضييعه. ولأنّ البحث كبير، لكنّه مفيد أيضًا، ارتأينا في “مناطق نت”، تقسيمه إلى أجزاء عدّة سننشرها تباعًا. وفي ما يلي الجزء الأول.

من المحرّر

خلال 50 سنة في القرن السادس عشر تخطّى متوسّط كمّيّة إنتاج القمح السنويّة في أراضي ناحية بلعلبك (الشرقيّ) مقدار 27 ألف طنٍّ، أيّ ما كان يكفي، آنذاك، لتغذية 10 أضعاف سكّان الناحية الإجماليّ. وبعد مرور أكثر من 450 سنة على إنتاج فائض كمّيّات القمح تلك، فهل ما زالت أراضي بعلبك الشرقيّ تُنتج القمح بما يكفي لغذاء أهلها؟ أم بارت الأراضي، وتعطّلت وافتقرت، وصار الأهالي يعتمدون على استيراد حاجتهم من الغلّة من الخارج؟ أم يأكلون البسكويت بدلًا من الخبز تيمّنًا بقول الملكة الفرنسيّة ماري انطوانيت للجائعين من سكّان باريس في القرن الثامن عشر؟ أم يجوعون مع أيّ حربٍ وأزمة تسبّبان بتأخّر وصول كمّيّات مستوردة كافية من القمح؟

هل ما زالت ناحية بعلبك تنتج العنب والدبس، وتنتشر بين كرومها المعاصر التي فاق عددها في القرن السادس عشر الـ 150 معصرة؟ وماذا حلّ بالطواحين المائيّة؟ فهل استبدلها الأهالي بالمطاحن الحديثة؟ أم مثلها مثل كلّ طواحين بلادنا أصبحت من الذكريات الجميلة، وأحجار رحاها للزينة في قصور الأثرياء؟

التقديم:

إذا كان النظام الاقتصاديّ العثمانيّ إقطاعيًّا متخلّفًا، كما درسنا في كتب التاريخ المدرسيّة والعامّة، وكما نَظّر له بعض المؤرّخين، فلماذا إذن غابت المبادلات العينيّة ونظام المقايضة عن هذا النظام؟ ولماذا ساد نظام السوق والتبادل الماليّ النقديّ تجارةً ورسومًا ضريبيّة؟ ومن كان يمتلك الأراضي الزراعيّة والمغالق كالمطاحن والمعاصر ودواليب الحرير، ويقرّر إنتاجها؟ هل المقاطعجي المحلّيّ؟ أم زعيم الناحية، أم أمير لواء الشام؟ أم السلطان؟ أم أهالي هذه القرية أو تلك مجتمعين؟ أم كانت الملكيّة الفرديّة هي الطاغية؟

ولكن قبل الدخول في تفصيل إنتاج أراضي ناحية بعلبك (الشرقيّ) الزراعيّة، ومن كان يملك تلك الأراضي الزراعيّة والمغالق والورش الحرفيّة؟ وكيف كانت تتوزّع عائداتها الضريبيّة؟ ولفهم تطوّر الاقتصاد الريفيّ منذ الفتح العربيّ الإسلاميّ إلى اليوم، لا بدّ من توضيح مسألة منهجيّة هامّة، ألا وهي: منذ تأسيس الدولة الإسلاميّة، أيّ بعد الفتوحات العربيّة الأولى، وُضعت بعض القواعد للتصرّف بالأراضي، التي أصبحت في ما بعد، الركيزة الأساس لأنظمة الأراضي المُتَّبَعة في السلطنة العثمانيّة، والصادرة في قانون الأراضي العام 1858، ومن هذه القواعد تقسيم الأراضي إلى خمسة أصنافٍ:

1- المباني والعَرَصات المُلحقة (العرصة: ساحة الدار؛ البقعَةُ الواسعةُ بين الدُّور لا بناءَ فيها) بها من أرض الجدار والحواكير والحدائق المُتمِّمة للسكن (مساحة نصف دونمٍ، تقريبًا 500 مترٍ مربعٍ)، والمحيطة بالأبنية وملحقاتها، وهي من الأراضي المملوكة في الإسلام استنادًا إلى القوانين الرومانيّة والبيزنطيّة الموروثة. وهذا النوع من الملكيّة يسود أرياف عالم اليوم، في أيّ تشكيلة اقصاديّة مُتّبَعَة: رأسماليّة كانت أم اشتراكيّة أم مختلطة، أم إقطاعيّة متخلّفة….

2- الأراضي الزراعيّة: وهي أراضي المسلمين العُشريّة (مملوكة)، وأراضي الصلح الخراجيّة (مملوكة أيضًا)، وأراضي الفيء والغنيمة، أيّ الأراضي الزراعيّة الأميريّة التي هجرها أهلها وعادت إلى بيت مال المسلمين، والأراضي الموات التي سمحت القوانين والأنظمة بامتلاكها مِمَّن أحياها (فمن أحيا أرضًا مواتًا بإذن الإمام أو المأمور فهي له شرعًا). والموات هي الأراضي الصالحة للزراعة، ولكّنها ليست بملك أو بعهدة أحد، وهي تبتعد عن أخر بيت مأهولٍ في القرية مسافة نصف ساعة سيرًا على الأقدام، بحيث إذا صاح جهير الصوت منها لا يسمعه أحدٌ من سكّان القرى المحيطة بها.

3- أراضي الصوافي، أو عقارات بيت المال، وهي العقارات التي اصطفاها الإمام، أو الحاكم لنفسه بوصفه رأس السلطة الحاكمة، أو بصفته الشخصيّة؛ أو العقارات التي يختارها لتكون وقفًا للمصلحة العامّة فتُغذّي خزينة بيت المال (وزارة الماليّة حاليًّا)، أيّ بمفهوم اليوم الأراضي العامّة أو الأملاك العموميّة.

منذ تأسيس الدولة الإسلاميّة، أيّ بعد الفتوحات العربيّة الأولى، وُضعت بعض القواعد للتصرّف بالأراضي، التي أصبحت في ما بعد، الركيزة الأساس لأنظمة الأراضي المُتَّبَعة في السلطنة العثمانيّة

4- أراضي الحمى والإرتفاق، أيّ الأراضي المحميّة والمُرفقة وفاقًا للشريعة الإسلاميّة وتعليماتها، وهي الأراضي المشتركة التي تُخصّص للمنفعة العامّة من بيادر ومراعٍ ومحاطب ومشارب وطرقات وأسواقٍ ومجارٍ مائيّة وينابيع وأنهار ومدافن. وهي اليوم أراضي المشاعات القرويّة التي يحاول المتنفّذون كلّ على طريقته الاستئثار بها وامتلاكها، وحرمان أصحاب حقوق الرقبة الفعليّين من منافعها.

5- الأراضي الوقفيّة: وهي الأراضي التي وقفها أصحابها على ذريّاتهم، أو على سبيل الخير. فإذا أُوقفت من الأراض المملوكة ملكيّةً خاصّة كانت أوقافًا صحيحة. أمّا إذا أُوقفت من الأراضي الأميريّة فتكون أوقافًا غير صحيحة.

أليس هذا التقسيم العقاريّ للملكية والأراضي الزراعيّة ما زال هو نفسه قائمًا في كلّ المجتمعات البشريّة وأنظمتها الاقتصاديّة: رأسماليّة كانت أم اشتراكيّة أم مختلطة؟ أو ليس هذا النظام العقاريّ هو الذي كان يحكم العلاقات الاقتصاديّة في ناحية بعلبك (الشرقيّ) خلال القرن السادس عشر للميلاد؟ حيث كانت معظم الأراضي خراجيّة ومشجّرة ومملوكة من قبل أصحابها الفلّاحين، ولم يكن هناك ملكيّات إقطاعيّة كبيرة، على النسق الأوروبّيّ، كالتي سادت منذ أواسط القرن السابع عشر لتهيَمن بقوّة في النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتّى اليوم.

مواضيع ذات صلة: بعلبك في القرن السادس عشر: أكبر مدن لبنان.. وهذه عائلاتها وأحياؤها

فمن خلال دراسة ومقارنة تسجيلات أربعة دفاتر طابو تحريريّ عثمانيّة عائدة لإحصاء السكّان والرسوم الضريبيّة في السنوات: 932- 934ه/1525- 1528م (دفتر رقم 430، ص41-80)، و942ه/1535-1536م (رقم 401، ص179-215)، و959ه/1552م (رقم 383، ص37-111، و570- 578)، و977-981ه/1569- 1574م (دفتر رقم 543 (المجلد الثاني)، ص71- 129، و513-531)، يتبيّن أن أراضي قرى ناحية بعلبك (الشرقيّة) كانت مملوكة بالكامل من قبل أهالي القرى البعلبكيّة، بحيث فُرِض على غلّتها وإنتاجها الديموس والخراج المقطوع.

وكان هذا الديموس يشمل قسمًا، وليس كلّه، من الربع أو الخمس أو السدس أو العشر أو الخمسين من غلّة الحبوب كالقمح والشعير والعدس والحمّص والكرسنّة والباقية، وخراج كروم العنب والتين وأشجار الجوز والتوت والزيتون وسائر الأشجار المثمرة.

ملاحظة: لا تدخل في قيمة الديموس والخراج قيمة الرسوم الأخرى كرسم الحماية وعادة دورة والبادهوا والعروسه ورسوم الماعز والنحل والطواحين والمعاصر ودواليب الحرير والقبّان وفتوح البيدر عند البدء بدراسَة الحبوب كلّ سنة.

1- كيف تطوّرت عائدات هذ الديموس والخراج المقطوع (بروجه مقطوع) بين سنة 1525، و1569؟

ففي سنة 1525، بلغت قيمة الديموس (ضريبة الغلّة والخراج) نحو 396815 أقجة، أيّ ما كان يشتري، آنذاك، نحو 3968.15 غرارة قمح (ثمن الغرارة 100 أقجة)، أو نحو 285706.8 مدًّا، أيّ ما يعادل نحو 5143 طنًّا، وبذلك كانت تلك القيمة بإمكانها تقديم المؤونة السنويّة لنحو 28570 شخصًا، أيّ لمقدار 3.13 ضعفًا من عدد سكّان قرى ناحية بعلبك الإجماليّ، والبالغ آنذاك نحو 9130 شخصًا.

(الغرارة: مكيال للحنطة والحبوب، وتعني حرفيًا العِدِل (العَديلَة) المصنوعة من الصوف أو الشعر، وتتسع لنحو 12 كيلًا أو 72 مُدًّا. والمّد وحدة كيلٍ مصنوعة غالبًا من الخشب أو النحاس أو التنك وتتّسع لحوالي 18- 20 كيلوغرام من القمح أو 14-17 كيلوغرام من الشعير؛ وكانت أجزاء المُّد الأكثر استعمالًا قديمًا الثُمنيّة والربعيّة).

أمّا لماذا مقارنة قيمة الديموس أو الرسوم الضريبيّة بقدرة الفرد على شراء القمح كمادّة أساسيّة كانت تدخل في صلب السلّة الغذائيّة الأساسيّة للمنتجين الريفيّين (الخبز والطحين والسميد والقمح المسلوق والفريكة، والبرغل على أنواعه، وفي التبّولة والكبّة على أشكالها واليخاني على أنواعها؛ كما تُطهى مع العدس والفاصوليا واللوبياء والحمّص، وغيرها …)؟ لأنّه إنْ أردنا أنْ نعرف إذا كان أيّ مواطن، وفي أيّ بلد يعيش ينعم بالأمان الغذائّي في ظلّ عدالةٍ اجتماعيّة فعليّة، يجب علينا أنْ نعرف القدرة الشرائيّة لقيمة الحدّ الأدنى للأجر في تأمين حاجيّات الريفيّ الأساسيّة من حليب وبيض وخبز ولحوم وحبوب أخرى.

وطالما كان الإنسان الريفيّ في القرن السادس عشر يتناول الحليب ومشتقّاته من بقراته وعنزاته، والبيض واللحم من دجاجاته، لذا لم يبقَ له آنذاك، إلّا شراء القمح، إذا كان لا يُنتجه. فعلى سبيل المثال وليس الحصر، إنّ الحد الأدنى للأجر في إسبانيا (تموز/يوليو 2024) البالغ مقداره 1200 يورو في الشهر، كان بمقدور قيمته النقديّة أن تشتري أقلّه طنًّا (1000 ليتر) من الحليب المبستر الطازج والمعلّب، بينما الحدّ الأدنى الشهريّ لأجر الموظف الرسميّ في لبنان البالغ في الشهر نفسه نحو 150 دولارًا امريكيًّا، لا يشتري إلّا مئة (100) ليترٍ فقط في أفضل حالاته. فأيّ مجتمعٍ عادلٍ وأيّ حكمٍ يسهر على أمن شعب بلاده أكثر؟ (معاينة شخصيّة)

أمّا في إحصاء 1535، فبلغت قيمة الديموس والخراج المقطوع مقدار 522301 أقجة أيّ بزيادة مقدارها 152486 أقجة (29 في المئة)، وكانت تلك القيمة تشتري نحو 4017.7 غرارة قمح على الرغم من ارتفاع سعر الغرارة إلى مقدار 130 أقجة، أيّ ما يوازي 289274 مدًّا، أو 5207 أطنان. وما يكفي لتغذية نحو 28927 شخصًا بالقمح سنويّا، أيّ لحوالي 1,8 ضعفًا من إجماليّ عدد سكّان قرى الناحية البالغ آنذاك نحو 15965 نسمة.

وفي إحصاء 1552، بلغ مجموع ديموس الغلّة والخراج مقدار 658284 أقجة، أيّ بزيادة مقدارها 261469 أقجة (66 في المئة) عن إحصاء 1525، و135983 أقجة (26 في المئة) عن إحصاء1535، وكانت هذه القيمة لتلك السنة، بإمكانها شراء نحو 5063,72 غرارة قمح (على سعر 130 أقجة للغرارة الواحدة)، أيّ نحو 364588 مدًّا (6562.5 طنًّا)، وبالتالي تؤمّن التغذية السنويّة بمادة القمح لنحو 36459 شخصًا، 1,8 ضعفًا من إجماليّ عدد سكّان قرى ناحية بعلبك البالغ في إحصاء 1552، حوالي 20115 نسمة.

وأخيرًا في إحصاء 1569، بلغت قيمة الديموس والخراج المجبيّة نحو 742749 أقجة، أيّ بزيادة مقدارها 345934 أقجة (87 في المئة) عن العام 1525، و220448 أقجة (42 في المئة) عن قيمة إحصاء 1535، و84465 أقجة (12,8 في المئة) عن قيمة إحصاء 1552. وكانت قيمة الديموس والخراج مجتمعين للعام 1569، بإمكانها شراء نحو 5305,35 غرارة قمحٍ، (على سعر 140 أقجة للغرارة الواحدة)، أو 381985 مدًّا (6875,7 طنًّا)، وتؤمّن التغذية السنويّة لنحو 38198 شخصًا أيّ لحوالي 2,37 ضعفًا من عدد سكّان قرى الناحية الإجماليّ والبالغ، آنذاك، نحو 16130 نسمة.

مواضيع ذات صلة: الاقتصاد البعلبكي في القرن السادس عشر: غرفة تجارة و7 أسواق برساميل عالية

هذا بالنسبة إلى قيمة العائدات الضريبيّة التي راوحت قيمتها الفعليّة ما بين العُشر وقسم من الرُبع
أو الخُمس، وليس الربع أو الخمس كلّه، وكمعدّلٍ افتراضيّ 12,5 في المئة، فكيف إذن تكون عندها النتيجة الفعليّة لقيمة التغذية السنويّة بالقمح تدريجيًّا في الإحصاءت الأربعة المعتمدة في هذا البحث؟

أ‌- في إحصاء 1525، تصبح القيمة النقديّة الافتراضيّة للإنتاج الزراعيّ نحو 3174520 أقجة، أيّ ما يشتري نحو 31745,2 غرارة قمح، أو 2285654,4 مدًّا، أو حوالي 41142 طنًّا تقريبًا. وهذه الكمّيّة كانت تكفي لتغذية حوالي 228565 شخصًا في السنة، أيّ لحوالي 25 ضعفًا من عدد سكّان قرى ناحية بعلبك الشرقيّ في تلك السنة.

ب‌- وفي إحصاء 1535، تصبح القيمة النقديّة الافتراضيّة لمجمل الإنتاج الزراعيّ، نحو 4178408 أقجة، أيّ ما تشتري نحو 32141,6 غرارة قمح، أو 2314195,2 مدًّا، أو 41655,5 طنًّا، وهذه الكمّيّة تكفي لغذاء نحو 231420 شخصًا في السنة، أيّ لحوالي 14,5 ضعفًا من إجماليّ عدد سكّان قرى ناحية بعلبك الشرقيّ لتلك السنة.

وطالما كان الإنسان الريفيّ في القرن السادس عشر يتناول الحليب ومشتقّاته من بقراته وعنزاته، والبيض واللحم من دجاجاته، لذا لم يبقَ له آنذاك، إلّا شراء القمح، إذا كان لا يُنتجه.

ت‌- وفي إحصاء 1552، تصبح القيمة النقديّة الافتراضيّة الإجماليّة للإنتاج الزراعيّ في ناحية بعلبك الشرقيّ نحو 5266272 أقجة، أيّ ما يشتري قرابة 40510 غرارة قمح، أو 2916720 مدًّا (52500 طنًّا)، وما يكفي لتغذية حوالي 219672 شخصًا بالقمح سنويًّا. أيّ لحوالي 11 ضعفًا من عدد السكّان الإجماليّ لتلك السنة.

ث‌- وفي إحصاء 1569، يمكن تقدير القيمة النقديّة الافتراضية الإجماليّة بنحو 5941992 أقجة، أيّ ما يشتري نحو 43443 غرارة، أو3055882 مدًّا من القمح (55006، طنًا)، وما يكفي لتغذية حوالي 305588 شخصًا في السنة، أيّ لحوالي 19 ضعفًا من إجماليّ سكّان الناحية لتلك السنة.

وهكذا، في ظلّ الظروف المناخيّة الصعبة، آنذاك، والأدوات الزراعيّة البدائيّة وغياب الحماية الحكوميّة والتصدير المنظّم، وعدم توافر المخصّبات والأدوية الزراعيّة اللازمة، كانت عائدات غلّة الإنتاج الزراعيّ في ناحية بعلبك الشرقيّ وحدها تكفي كمعدلٍ وسطي لتغذية حوالي 246311 شخصًا في السنة، أيّ لنحو 16 ضعفًا من متوسّط عدد السكّان الإجماليّ البالغ 15335 شخصًا بين سنتي 1525 و1569. فلماذا اليوم، وفي ظلّ الثورة التكنولوجيّة المتطوّرة (الجيل الخامس)، وعلم المكننة المعاصرة، وتوافر المبيدات الزراعيّة الفعّالة اضمحلّ الإنتاج الزراعيّ وأصبح شبه معدومًا في منطقة بعلبك وفي غيرها من المناطق اللبنانية عامّة؟

2-كيف توزّعت عائدات الديموس والخراج على القرى والمزارع:

من المتعارف عليه في القرن السادس عشر أنّ القرى هي التجمّعات السكّانيّة مهما كانت صغيرة (أكثر من بيتٍ واحدٍ)، بينما المزارع هي الأراضي الزراعيّة المنتشرة في الوديان والوهاد المحيطة بكلّ قرية على شكل واحات خضراء تُزرع بالقمح والأشجار المتنوّعة. ومع الزمن تحوّل القسم الأكبر من تلك المزارع إلى قرى عامرة بالعمران والسكّان.

من هنا، في إحصاء سنة 1525، بلغت قيمة عائدات ديموس القرى نحو 396815 أقجة (79,16 في المئة)، والمزارع وقطع الأرض الخراجيّة نحو 314110 أقجة (20,84 في المئة)، حيث كانت قرية سرعين تحتلّ المرتبة الأولى في قيمة عائداتها البالغة نحو 25000 أقجة، تليها قرية عين مع 23000 أقجة. بينما كان ديموس سلوقيّة الأدنى قيمةً (500 أقجة). أمّا في ترتيب المزارع بحسب مقدار ديموسها مع الخراج، فجاءت مزرعة حورتعلا، قبل أن تصبح قريةً مأهولةً، في إحصاء العام 1535، في المرتبة الأولى بقيمة مجموع ديموسها مع الخراج البالغة 8000 أقجة. في حين بلغ أصغر مجموع ديوس مع خراح بقيمة 100 أقجة في أكثر من مزرعة.

وفي إحصاء 1535، ارتفعت عائدات القرى، إلى مقدار 389721 أقجة (74.61 في المئة)، مقابل 132580 أقجة لعائدات ديموس المزارع (25,38 بالمئة). وبقيت قرية سرعين تحتلّ المرتبة الأولى في قيمة ديموسها البالغة نحو 27000 أقجة، وتليها قرية نحلة مع 24000 أقجة، وجاءت مرعبود/فرعبود في المرتبة الأخيرة بمقدار مجموع ديموسها والخراج البالغ في تلك السنة نحو 1730 أقجة. كما حلّت مزرعة حزين أو جزين كما وردت في دفتر الطابو في المرتبة الأولى بمجموع ديموسها مع خراجها المقدّر، آنذاك، 12580 أقجة، وهذه القيمة كانت أعلى بكثير من قيمة ديموس وخراج أكثر من 20 قرية في ناحية بعلبك الشرقيّ. أمّا أصغر قيمة ديموس مع الخراج فكانت قيمته 50 أقجة في كلّ من مزارع حليا وكوكب والبستان.

وفي إحصاء 1552، بلغت قيمة عائدات ديموس القرى مع خراجها نحو 480318 أقجة (73 في المئة)، والمزارع نحو 177966 أقجة (27 في المئة). وأصبحت قرية يونين هي الأكثر إنتاجًا والأعلى قيمة في تسديد الديموس مع الخراج المقطوع البالغة آنذاك نحو 50 ألف أقجة، تليها سرعين مع 32000 أقجة، بينما القرية الأقلّ إنتاجًا في قيمة ديموسها فكانت سلوقيّة مع 1540 أقجة. وبالنسبة إلى ترتيب المزارع وفاقًا لمجموع ديموسها مع الخراج حلّت مزرعة حزين في المرتبة الأولى مع قيمة 12000 أقجة، وجاءت مزارع: خربة المشارقة وقناط وشيرون/سيرون وكوكب وعين منشيّة والبستان وخمسين في المرتبة الأخيرة بقيمة 50 أقجة للديموس مع الخراج في كلّ منها.

وأخيرًا في إحصاء 1569، بلغت قيمة ديموس القرى مع الخراج حوالي 544919 أقجة (73,36)، والمزارع نحو 197830 أقجة (26,64 في المئة). وبقيت قرية يونين الأعلى في تسديد عائدات الديموس مع الخراج البالغة نحو 52 ألف أقجة، وسلوقيّة الأقلّ قيمةً للديموس مع الخراج بمبلغ 1660أقجة. بينما جاءت قرية سرعين في المرتبة الثانية مع 35000 أقجة. وفي ترتيب قيمة ديموس مع خراج للمزارع في عام 1569، حلّت مزرعة حزين/جزين في المرتبة الأولى مع 14000 أقجة. بينما حلّت نحو ستّة مزارع في المرتبة الأخيرة وقيمة 50 أقجة في كلّ منها، وهي: جديدة وقمرعيد وشيرون/سيرون وكوكب وقناط وخربة اللصوص.

وهكذا لم تكن قيمة الديوس مع الخراج المقطوع ثابتةً، كما يدّعى بعض الباحثين، فإنّها كانت تلك القيمة تكبر أو تقلّ من سنة إلى أخرى، تبعًا لتطوّر كمّيّة الإنتاج، ونمو اليد العاملة في القرية، وازدياد المساحات الزراعيّة وكمّيّات الأشجار المُنتجة فيها سلبًا أم إيجابًا.

(يتبع)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى