ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج (4)

كيف سطع نجم أمراء آل حرفوش في التاريخ البعلبكيّ السياسيّ

في القسم الرابع والأخير من تحقيق “ناحية بعلبك قبل 500 عام ازدهار اقتصاديّ وفائض إنتاج (4)” يعرض الدكتور عبدالله سعيد لزعامة آل حرفوش في التاريخ البعلبكيّ السياسيّ في القرنين السابع والثامن عشر، ويختم بـ “استنتاج في الاقتصاد السياسيّ” يعرض فيه لتطوّر نشأة المنافسة المقاطعجيّة، وللالتباس التنظيريّ الذي وقع به عديد من المؤرّخين في لبنان في عرضهم من أنّ النظام في لبنان إبّان الحقبة العثمانيّة كان نظامًا إقتصاديًّا إقطاعيًّا على النمط الأوروبّي، بينما الوثائق العقاريّة على أنواعها البسيطة والقديمة جدًّا تُثبت أنّ التبادل العقاريّ في جميع النواحي والمقاطعات التي تشكّل منها لبنان الحاليّ كان تبادلاً حرًّا بكامل حقوق الشراء والبيع والتعاقد الحرّ.

“المحرّر”

كيف تحوّل الإقطاع الماليّ، أيّ من أصحاب الرساميل النقديّة، إلى إقطاع عقاريّ ريعيّ، أيّ إلى أصحاب الملكيّات الزراعيّة الكبيرة (الإقطاعيّة)، وكشريك طفيليّ للفلاحين والزرّاع؟ وكيف سطع نجم أمراء آل حرفوش في التاريخ البعلبكيّ السياسيّ في القرنين السابع والثامن عشر، مع أنّهم كانوا مغبونين في القرن السادس عشر؟

مع بداية الحكم العثمانيّ، وفي إحصاء 1525، لم يرد اسم أيّ شخص من آل حرفوش في دفتر الطابو تحريريّ رقم 430، بينما ورد، في تعداد ذكور قرية سرعين للعام 1535، اسم الأمير محمّد حرفوش (“وِلْد أمير حرفوش محمّد”)، وولداه موسى وعيسى، ووِلد موسى، حسين (دفتر رقم 401، ص 182). وفي إحصاء 1552، سجّل كاتب الدفتر رقم 383، أسماء من آل حرفوش: محمّد في قرية نحله، (ص 38) وموسى وعلي ومحسن وسلّوم في قرية سرعين (ص 47)، وذلك بدون ذكر لقب أمير أمام أيّ اسمٍ منهم.

أمّا في إحصاء 1569، فوردت أسماء من آل حرفوش بدون ألقاب أيضًا، في كلّ من قرية نحله: وِلد حرفوش، أبوطاقيّه، وأحمد، وفي عمشكا: وِلْد حرفوش موسى، وفي عرسال: وِلد حرفوش، أحمد، وعزالدين (دفتر رقم 543، ص 71 و73و106 و111). مع العلم أنّه في هذا الإحصاء الأخير لم يُدوّن أيّ اسم من آل حرفوش في تعداد ذكور قرية سرعين التي كانت موطنهم الوحيد في إحصاء 1525 (دفتر 543، ص524-525)، ولا في تعداد نفوس مدينة بعلبك في الإحصاء نفسه (دفتر رقم 543، ص 36-69). فلماذا تركوا سرعين؟ وإلى أين ذهب أمراؤهم؟ هذا ما ستكتشفه دفاتر الطابو العثمانيّة اللاحقة إذا توافرت دراستها.

دراسة القمح على البيادر كان معتمدًا حتى وقت قريب في القرى والأرياف
ملكية الطواحين

كما أنّه، لم تتضمّن دفاتر الطابو التحريريّ، خارج تصرّف الأمير موسى في إحصاء 1552، سوى طاحونٍ واحدٍ على حجرين لا غير في قرية قنا (بيد حرفوش)، (دفتر رقم 383، ص44)، وطاحونين في إحصاء سنة 1569، واحدة في قنا بيد حرفوش، والثانية في جنتا، بيد أمير موسى وشريكه (دفتر 543، ص 76و 79). هذا ومع العلم أنّه في إحصاء 1535، كان في قرية قنا ثلاث طواحين في يد سيدي علي (دفتر 401، ص194/401 )، وفي جنتا مطحنة واحدة بيد حاج يوسف أحمد بن علي وشريكه (دفتر رقم 401، ص 192) ممّا يدلّ على أنّ موسى حرفوش اشترى حصّة حاج يوسف أحمد. كذلك لم تتضمّن دفاتر الطابو أيّة إشارة لملكيّة أمير من آل حرفوش لأيّ قطعة أرضٍ بالمقاطعة أو لمزرعةٍ صغيرة، أو لأيّ تعهّدٍ بجباية الخراج والديموس قبل العام 1569 (دفتر 543).

منافسة شديدة على التزام الجباية

جلّ ما تضمّنه هذا الدفتر، هو المنافسة الشديدة بين حسين وسلّوم ولدي الأمير موسى الحرفوش وبين ميرآلاي الشام (قائد لواء الشام العسكريّ، ميرآلاي= رتبة عميد حاليًّا) على التزام جباية عائدات الديموس والخراج السنويّ المقطوع لبعض المزارع وليس كلّها. وذلك كاحتمال لأنّ تكون قدرتهم الماليّة النقديّة، آنذاك، ضعيفة نسبيًّا. فبعد أن فاز الأميران مجتمعين أو إفراديًّا بتعهّد جباية عائدات خراج مزارع: صاليان/حاليًّان (5000 أقجة) وكفرسرعين (4500 أقجة) التي كانت بيد أهالي سرعين، ومزرعة ناصريّة بيد أهالي يماسه (3500 أقجة)، ومزرعة حزين/جزين بيد أهالي مرعبون وبليتار (14000 أقجة)، (دفتر رقم 543، ص 75 و79و82)، لم يستطيعوا الفوز بتعهّد إضافيّ لجباية عائدات مزارع كلّ من مغرايا وشحيميّة وكنيسة الأشراف، بسبب المزايدة على قيمة ضريبة كلّ منها من قبل ميرآلاي الشام.

فعلى سبيل المثال كانت مزرعة مغرايا/مصرايا بيد أهالي طبشار وسرعين، وتعهّد بجباية قيمة خراجها المقطوع مع حقّ المرعى البالغة آنذاك، نحو 3000 أقجة، سلّوم وعلي ولدا موسى حرفوش، فزاد عليهما الأميرآلاي بواسطة كاتبه علي أفندي، دفعة واحدة، 1500 أقجة لتصبح القيمة 4500 أقجة، فحاول الأمير حسين حرفوش استلحاق الأمر وانتزاع تعهدّها من يد الأميرآلاي بمبلغ 4800 أقجة، أيّ بزيادة 1800 أقجة عن مرتّبها الرسميّ، ولكنّ الأخير رفع التعهّد إلى 5000 أقجة أيّ ما يقارب ضعف عائداتها الواقعيّة، ممّا قطع الطريق على تعهّد حسين حرفوش.

وما ينطبق على مزرعة مغرايا يصحّ أيضًا على مزرعة شحيميّة التي كانت عائداتها الخراجيّة وقفًا لديكر بغا الحافظي كراتب له، وملكًا لأهالي سرعين، بحيث بلغت قيمة البروجه المقطوع في السنة مع حقّ المرعى ورسم الطاحون بحجرين نحو 5000 أقجة، تعهّد جبايتها، بهذا المبلغ، من الأهالي سلّوم وحسين أولاد حرفوش، ولكنّ التعهّد في النهاية رسا على أميرآلاي الشام بمبلغٍ مقداره 6000 أقجة، بعد أن زاد على قيمتها الفعلية دفعة واحدة 500 أقجة لتصبح 5500 أقجة، فزاد حسين حرفوش عليها فقط 100 أقجة، وأصبحت 5600 أقجة، ولكن في المقابل زاد الأميرآلاي 400 أقجة (دفتر رقم 543، ص79).

المزايدة في الجباية

وهكذا دواليك، ففي حين كانت حصّة الخاص الهمايونيّ أيّ السلطانيّ من عائدات كنيسة الأشراف 5937 أقجة كخراجٍ مقطوع مع حقّ المرعى، والتزم تعهّد جبايتها كاتب الأميرآلاي بقيمة 6500 أقجة، حاول الأمير حسين حرفوش تعهّدها بقيمة 6700 أقجة ولكنّها رست أخيرًا على الأميرآلاي بقيمة 7000 أقجة. (دفتر رقم 543، ص74 و79). وهكذا بينما كانت المزايدة من الأمراء الحرافشة لا تتعدّى الـ 300 أقجة كحدٍّ أقصى كان الأميرآلاي يزيد بالآلاف.

ولم تقتصر المنافسة للأميرين سلّوم وحسين حرفوش على أميرآلاي الشام، بل كان لهما أيضًا بالمرصاد، القاضي عمر ابن القاضي تاج الدين، الذي زاود، العام 1569، على تعهّدهم لجباية عائدات حاصل خراج مزرعة تلّ الضيعة التابعة لقرية وردين وحقّ المرعى فيها، والبالغة قيمتها مجتمعةً، آنذاك، نحو 1800 أقجة وتعهّدها مع شريكه حاج علي ميّاس بقيمة 2400 أقجة، أيّ بزيادة مقدارها 600 أقجة دفعة واحدة ممّا أعجز الأميرين عن تخطّي هذه القيمة المرتفعة على مزرعة صغيرة (دفتر رقم 543، ص 124).

من هنا، يتبيّن أنّه لم يكن عند أمراء آل حرفوش حتّى العام 1552، المال النقديّ الكافي لشراء التزام عائدات مزرعة صغيرة وليس قرية، مع العلم أنّ عائدات غالبيّة المزارع الضريبيّة كانت أقلّ من ألف أقجة. ولكن كيف استطاع أولاد الأمير موسى الحرفوش، في العام 1569، جمع ثروة نقديّة مكّنتهم من التعهّد بجباية عائدات خراج أربع مزارع دفعة واحدة بلغت قيمتها مجتمعة 27000 أقجة. وهذه القيمة النقديّة كانت تعتبر آنذاك كبيرة لأنّها كان بإمكانها أن تشتري نحو 193 غرارة من القمح، أيّ نحو 13896 مدًّا تقريبًا، أيّ أكثر من 250 طنًّا. كذلك، فإنّ هذه الكمّيّة من القمح كانت تكفي تغذية حوالي 1390 شخصًا في السنة. ولكن إذا عرفنا أنّ التعهّد بالجباية، لا يعني تسديد المبلغ المُتعهّد به دفعة واحدة في لحظة المزايدة، بل يتطلّب من المتعهّد أو الملتزم فقط تأمين نصفه سلفًا، والنصف الآخر بعد جمع قيمة التزامه من المزارعين.

“على عهدة الأهالي”

كذلك فإنّ آل حرفوش كانوا لا يملكون الأراضي والمزارع الكبيرة، ولا ينتجون إلّا مثلهم مثل جميع أهالي قرى بلاد بعلبك الشرقيّة الذين كانوا يملكون أراضيهم الخراجيّة، ويتعهّد معظم أهالي القرى بدفع الرسوم والضرائب إلى إدارة ماليّة السلطنة في الشام بواسطة التيمارجيّة والجباة وضبّاط الأوقاف الذين يطوفون القرى على المواسم مع نهاية الصيف لجمع العائدات الضريبيّة؛ بحيث سُجِّلَت عبارة “على عهدة الأهالي”، أو مثلًا على “عهدة أهالي قرية حربتا” (دفتر رقم 430، ص 54)، وقرية يماسة وقرية بغدانه وقرية حربتا ونبحا وراس وقاعة وعين (دفتر رقم 543، ص 74و75و80 و90 و95و 116 و123 و520)، وذلك كتأكيد على عدم وجود وسيط بينهم وبين إدارة الجباية في الشام.

ولكن بما أنّ أمراء آل حرفوش لم يكن عندهم، آنذاك، المال النقديّ الكافي لشراء التزام عائدات مزرعة يفوق حاصلها على 5000 أقجة، فكيف استطاعوا إذن ابتداءً من سنة 1569، تأمين الأموال ليفوزوا في القرن السابع عشر، وفي ما بعد، على ذمّة بعض المؤرّخين والكتب التاريخيّة العامّة والمرويّات المتداولة، بالتزام عائدات منطقة بعلبك الضريبيّة بكاملها. ولم يكتفوا بذلك بل أصبحوا يزاودون بالأموال النقديّة وينافسون غيرهم من المقاطعجيّين كالأمير فخرالدين المعنيّ وأبن فريخ وآل سيفا وآل الحمرا… ألخ. لذا تصحّ عليهم تسمية المقاطعجيّ أيّ الشخص صاحب الجاه والمال النقديّ والسطوة الاجتماعيّة الذي يتحكّم برقاب الناس وقوّتهم المعيشيّة، فيفرض الرسوم والضرائب أضعاف أضعاف قيمتها الرسميّة الواقعيّة، ويحدّد لهم ما يزرعونه وما لا يزرعون وأين يزرعون ويسكنون.

آل حرفوش كانوا لا يملكون الأراضي والمزارع الكبيرة، ولا ينتجون إلّا مثلهم مثل جميع أهالي قرى بلاد بعلبك الشرقيّة الذين كانوا يملكون أراضيهم الخراجيّة

وفي مجال التعهّدات الضريبيّة، أيضًا، دخلت طائفة من اليهود لتستغلّ عرق أهالي بعض القرى البعلبكيّة، بحيث زايد كلّ من عيسى محمّد وكمال ومحمّد حاج حسين من قبيلة بكلش حاملو، أو جاملو على تعهّد أهالي معربون الذين كانت بأيديهم أراضي كلّ من: مزرعة نوريّة بحاصل خراجها البالغ، آنذاك، 260 أقجة مقابل 600 أقجة، ومزرعة شعيبيّة التي كانت قيمة حاصلها 2000 أقجة، فتعهّدوها مقابل 2200 أقجة، ومزرعة كرخا الفوقا، التي رفعوا حاصلها الضريبيّ مع حقّ المرعى من 520 أقجة إلى 600 أقجة، وكرخا التحتا من قيمة 60 أقجة إلى مقدار 200 أقجة. (دفتر 543، ص 86 و88).

كيف كانت تُحتسب الجباية

لذا، ماذا تعني المزايدة والتعهّدات الضريبيّة في نظام الاقتصاد الزراعيّ لعصر ما قبل الرأسماليّة الحديثة؟ إنّها تعني رفع قيمة الضرائب والرسوم الرسميّة السنويّة المخمّنة من قبل خبراء تقدير الإنتاح بعد احتساب متوسّط جمع حاصلات غلّة ثلاث سنوات متتالية، وتحديد قيمتها النقديّة المتوجّبة للسلطنة، فيتعهّد أهالي القرية بتسديد تلك القيمة فقط بواسطة شيخ القرية أو المختار أو كبير العائلة، فيسلّمها بدوره للجابي المكلّف أو للتمارجيّ، أو لضابط (ناظر) الوقف دفعة واحدة أو مقسّطة على ثلاثة أقساط.

حتّى هنا تمشي الأمور بدون مشاكل ولا استغلال، فيدخل بعدئذ الوسيط الثالث أو الشريك المضارب والطفيليّ، فيُغري الإدارة الماليّة العثمانيّة بإمكانيّته تعهّد قيمة الديموس والخراج المُقدّرة على هذه القرية أو المزرعة أو تلك بمالغ إضافيّة، وبتسديدها مسبقًا كاملةً لحظة الفوز بتعهّده، فتوافق تلك الإدارة طالما ستكسب أموالًا إضافيّة مضمونة. ولكنّها لا تسأل عن العدل وعن حقوق المُنتجين في حال إرهاق أراضيهم بكمّيّات إضافيّة من الرسوم بغير حقّ قانونيّ، بل كانت تساهم في صناعة الزعامّة والجاه لهذا الأمير أو الشيخ المقاطعجيّ صاحب الرأسمال النقديّ ولمالك القصور الفخمة والسطوة الجسديّة والبلطجيّة على حساب فقراء الريف.

استنتاج في الاقتصاد السياسيّ

بناء على ذلك التعهّد في جباية عائدات الديموس والخراج، نشأت المنافسة المقاطعجيّة الدمويّة أحيانًا كثيرة للفوز بجباية عائدات مزرعة صغيرة أو عدّة مزارع، وبالتراكم النقديّ عبر السنوات كانت العُهدة تكبر وتتمدّد لتصبح مقاطعةً كبيرة بقراها ومزارعها وعدد فلّاحيها. ومع الزمن حلّت هذه المقاطعة مكان الناحية العثمانيّة ابتداءً من منتصف القرن السابع عشر حتّى العام 1861، أيّ قبل صدور قانون الولايات وعودة العمل بتسمية الناحية أو المديريّة كوحدة إداريّة من القضاء واللواء المُشكّل من عدّة أقضية.

ولكن استعمال كلمة العُهدة (على عهدة الأهالي، أو فلان الفلاني) من قبل الإدارة الماليّة العثمانيّة، أوقع الباحثين والمؤرّخين في الالتباس التنظيريّ لنظامٍ اقتصاديّ إقطاعيّ على النمط الأوروبّي. نظامٌ اعتبروا فيه أن الفلاحين الأحرار هم برعاية وعهدة المقاطعجيّ على النمط الفيودالي. بينما في الواقع هو نظام ريعٍ عقاريّ وحرفيّ بامتياز، كانت عائداته الماليّة النقديّة التراكمّيّة من نتاج كدح وعرق المالكين المنتجين لخيرات تلك الأراضي الزراعيّة والمشاغل الحرفيّة التي أُرهقت بالرسوم والأتاوات حتّى افتقرت وبارت وتخرّبت بدلًا من أن تزدهر وتتطوّر وتدخل عصر الحداثة، ونظام الرأسماليّة كما جرى في أوروبّا بعد الثورة الصناعيّة الأولى أو الثانية، أو في اليابان بعد ثورة الأمبراطور ماجي، وليس عصر الرسملة كما عندنا.

فالوثائق العقاريّة على أنواعها البسيطة والقديمة جدًّا تُثبت أنّ التبادل العقاريّ في جميع النواحي والمقاطعات التي تشكّل منها لبنان الحاليّ كان تبادلًا حرًّا بكامل حقوق الشراء والبيع والتعاقد الحرّ. وما التراكم الماليّ والعقاريّ من قبل كبار أصحاب الرساميل الريعيّة النقديّة إلّا نتاج النفوذ والسطوة الريعيّة لهؤلاء الكولاك المحلّيّ، بالمزايدة على قيمة تعهّدات المزارعين وضبّاط الأوقاف، لجباية أضعاف أضعاف رسوم وضرائب الإنتاج الزراعيّ والحرفيّ المقدّرة واقعيًّا.

بين الأمس واليوم

وأخيرًا، مع بداية الحكم العثمانيّ اعتمدت السلطة نظام التعاقد الوظيفيّ (التعاقد الإلتزاميّ) مقابل عائدات ضريبيّة سنويّة يجبيها هؤلاء المكلّفون القيام بالمهام الإداريّة المدنيّة والعسكريّة من رسوم تُفرض على الإنتاج الزراعيّ تحت اسم خراج أو ديموس وعادة حماية وعادة دورة ورسوم على تربية النحل والماعز وعلى المعاصر والمطاحن ودواليب الحرير. وكانت تلك العائدات موزّعة بدقّة، ولكلّ مسؤولٍ وفاقًا لمهامه، حصّته النقديّة.

لكن، وبعد أكثر من 400 سنة على قيام ذلك النظام الوظيفيّ القائم على الإلتزام بجباية العائدات الضريبيّة كرواتب ومصاريف لتلك الوظائف الحكوميّة الإداريّة والعسكريّة يُطرح هذا النظام من جديد في لبنان، كنظام متّبع في بعض الدول الرأسماليّة، مقابل أن تَجبي السلطات الحكوميّة العائدات الضريبيّة وتوزّعها على المحظوظين والأزلام والمحاسيب من المتعاقدين معها لتسيير شؤون رعاياها في القرن الواحد والعشرين.

إنّ نظام الريع العثمانيّ القديم القائم على الجباية الماليّة النقديّة، وليس العينيّة، وعلى التكافل والتضامن القرويّ، والتكافؤ في تسديد الرسوم والضرائب الشرعيّة، تقمّص بعد أكثر من 400 سنة في نظام الريع اللبنانيّ الحاليّ، أيّ نظام الرسملة وليس الرأسماليّة، نظام هيمنة أصحاب الرساميل النقديّة والعقاريّة التي قوّضت كلّ أنظمة التكافل الاجتماعيّ والعقاريّ القديم للملكيّات الزراعيّة الصغيرة والمتوسّطة، وللمؤسّسات الوقفيّة والمشاعات القرويّة الزراعيّة أو الحرجيّة والبيادر وساحات القرى والينابيع ذات المنفعة القرويّة العامّة.

إنّ نظام الريع العثمانيّ القديم القائم على الجباية الماليّة النقديّة، وليس العينيّة، تقمّص بعد أكثر من 400 سنة في نظام الريع اللبنانيّ الحاليّ، نظام هيمنة أصحاب الرساميل النقديّة والعقاريّة التي قوّضت كلّ أنظمة التكافل الاجتماعيّ والعقاريّ القديم للملكيّات الزراعيّة الصغيرة والمتوسّطة

تلك الينابيع التي نشأت القرى بجوارها ونمت وتطوّرت بشريًّا وعمرانيًّا، لينشأ بدلًا من ذلك النظام الاقتصاديّ، نظامٌ هجينٌ، ليس هو إقطاعيًّا كما كان في أوروبا الإقطاعيّة، حيث الهيمنة الكلّيّة للمالك الإقطاعيّ على الأرض وما عليها من بشر وحجر وشجر، والفلاحون مجرّد أقنان وأتباع لديه، يُباعون ويُشترون مع الإقطاعة أو جزءٍ من أراضيها. أمّا عندنا في المشرق بشكلٍ عام، وفي المقاطعات التي تشكّل منها لبنان الحاليّ بشكلٍ خاصٍ، كانت الأراضي الزراعيّة ملكًا خاصًّا لمستثمريها من الفلاحين الأحرار. ولكن مع الزمن وبفعل التطوّر الاقتصاديّ المشوّه، وُلِد في بلادنا نظام الرسملة الذي يقوم على ركيزتين اثنتين: رساميل نقديّة، وملكيّات عقاريّة كبيرة، أُكتسِبَت جراء تراكم تلك الرساميل وأُستُثمِرت بعقود المغارسة والشراكة على أنواعها وبخاصّة عقود نظام المساقاة، كنمطٍ من أنماط الرأسماليّة المتخلّفة.

ففي معظم الدول الأكثر تطوّرًا في أنظمتها الرأسماليّة ما زالت الأحراج والغابات أملاكًا عامّة للدولة الأمّ التي تستفيد من عائدات ريعها في سبيل تطوير البنى التحتيّة والمؤسّسات التعليميّة والاستشفائيّة للقرى المحيطة بها، وما يفيض من تلك العائدات عندئذٍ يدخل خزينة الدولة. فالقاعدة في تلك الدول على أنواعها أن تؤجّر تلك الأراضي العامّة والمشاعيّة من أفراد أو شركات تستثمرها لمدّة تراوح بين 50 ومئة سنة، وفاقًا لنوع الاستثمار، شرط أن تبقى ملكيّة الرقبة للدولة أو للقرية صاحبة المساحات المشاعيّة، ولإهاليها من الأجيال المتنامية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى