نازحو الجنوب على حافة المئة ألف وتُجار الأزمات كشّروا عن أنيابهم
تدخل أزمة النزوح في الجنوب شهرها الثالث على وقع ارتفاع أعداد النازحين من جهة، واقتراب الأزمة من حافة الانفجار من جهة أخرى، فأحوال النازحين تزداد صعوبة، والحكومة المسؤولة عن أوضاعهم في غياب مطلق، والحرب لا تزال مستمرّة، ما يعني المزيد من النازحين.
78 ألف نازح من الجنوب
أكّدت مصادر إحصائيّة لـ”مناطق نت” أنّ أعداد النازحين وصلت إلى نحو 78 ألف نازح من كلّ البلدات والقرى، “وفق الأرقام المسجّلة في اللوائح، يتواجدون بشكل عام في الجنوب، صور والنبطية وحاصبيّا وصيدا، ومدينة بيروت. يتواجد في صور ومحيطها حوالي 24 ألف نازح، يسكن نحو ألف منهم في خمسة مراكز للإيواء، في المهنيّة الرسميّة، والتكميليّة الثانية، وتكميليّة البنات، والجامعة الالمانيّة والمدرسة الوطنيّة”، بحسب المستشار في وحدة إدارة الكوارث في صور عصام هاشم.
يُشير هاشم في حديث لـ”مناطق نت” إلى “أنّ النازحين في صور وقضائها يشكّلون نحو 5500 عائلة، وهنا الحديث عن النازحين المسجّلين، أكثريّتهم يعيشون في خارج مراكز الإيواء، سواء عند الأقارب أو في تجمّعات سكنيّة، وهي عبارة عن أبنية غير مسكونة تمّ فتحها للعائلات بعد تجهيز الشقق ببعض الاحتياجات الضروريّة، أو في بيوت مستأجرة”، كاشفًا عن “أنّ القيّمين على ملف النزوح في صور يهتمّون بكامل تفاصيل عيش ساكني مراكز الإيواء، من الطعام والشراب، إلى مستلزمات النوم والنظافة وصولًا إلى الطبابة”.
ثمّة عدد إضافي من النازحين غير مسجّلين، وهذا العدد يصل إلى الآلاف أيضًا، لذلك يتحدّث البعض من متابعي ملف النزوح عن حوالي 100 ألف نازح من القرى الحدوديّة الجنوبيّة حتّى اليوم.
اقتناص على أوجاع النازحين
بعد انتهاء الشهر الأوّل على بدء النزوح في الجنوب صار الوضع أصعب بكثير، خصوصًا عند أولئك الذين يسكنون في الشقق المفروشة، ففي البداية كان هناك بعض الدعم من أصحاب الشقق التي قدّمت مجانًا، ولكن بعدها دخلت تكاليف وخدمات وجب تأمينها ودفعها، ولم يعد باستطاعة كثيرين الاستمرار. أما من توجّه منذ البداية نحو استئجار الشقق المفروشة فيشعر اليوم بحال الاستغلال الكبيرة التي تجري على قدم وساق، حيث ارتفعت قيمة بدلات الإيجار بشكل جنونيّ.
تقول “زينب” وهي فرد من عائلة مكوّنة من خمسة أشخاص، نزحت إلى مدينة صور برفقة العائلة: “بسبب القصف الذي طال قرى الجنوب، والذي سبّب استشهاد عدد من المدنيّين، تركنا منزلنا على أطراف بنت جبيل ولم نستطع أن نأخذ معنا سوى بعض الملابس”.
وتضيف: “كنّا ممّن تركوا منازلهم في الأيّام الأولى من الحرب ونزحنا إلى مدينة صور علّنا نجد الملجأ الآمن، لكنّنا فوجئنا بما قوبلنا به من استغلال واحتكار”، لافتة في حديث لـ”مناطق نت” إلى “أنّنا مكثنا في إحدى الشقق المفروشة بمبلغ خمسمائة دولار في الشهر الأوّل، ليرتفع المبلغ إلى ألف ومائتي دولار في الشهر الثاني، فلم ندفعه وأنقذنا اتّفاق الهدنة فعدنا إلى منزلنا”.
بعد انتهاء الشهر الأوّل على بدء النزوح في الجنوب صار الوضع أصعب بكثير، خصوصًا عند أولئك الذين يسكنون في الشقق المفروشة، ففي البداية كان هناك بعض الدعم من أصحاب الشقق التي قدّمت مجانًا، ولكن بعدها دخلت تكاليف وخدمات وجب تأمينها ودفعها.
تتحدّث زينب بغصّة عن أنّ “الهدنة لم يطل أمدها، وبدأت أصوات الحرب تعلو مجدّدًا، فعدنا أدراجنا نحو صور التي مكثنا فيها يومًا كاملًا على الرصيف إلى أن وجدنا شقّة لمدة عشرة أيام بمبلغ أربعمائة دولار أميركيّ. انتهت الأيّام العشرة، وبقينا في الشارع ليومين نبحث عن شقّة تأوينا، ولمسنا أنّ العدو والمؤجِّرِين ضدّنا”.
اهتدت عائلة زينب أخيرًا إلى “ميني” شقة، أو مكتب إذا صحّ التعبير، قطنته مقابل خمسمائة دولار أميركي شهريًا، وكامل الفواتير، واليوم العائلة بصدد البحث عن منزل آخر، بعد مطالبة صاحب المكتب بزيادة الإيجار. وتختم لتقول: “لا نريد حصصًا تموينيّة ولا أدوات نظافة، نريد الرأفة في الإيجارات فقط، فنحن بلا عمل منذ ثلاثة اشهر”.
في منطقة النبطية لا تزال الإيجارات أقلّ من تلك التي في صور، لكنّها ترتفع شيئًا فشيئًا ووصلت إلى معدّل 350 دولارًا أميركيًّا في الشهر للشقّة المفروشة، من دون أدنى خدمات. وهناك عوائل نازحة في النبطية تشتري المياه بشكل دوريّ، وتبلغ كلفتها نحو خمسين دولارًأ أمريكيًّا إضافيّة كلّ شهر، وهذا شكل آخر من المعاناة.
نواطير السمسرة
معاناة زينب تسري على فئة كبيرة من النازحين الذين ظنّوا أن نزوحهم سيستمرّ مدّة شهر أو أقل، فجمعوا ما بجعبتهم من مال وقرّروا استئجار الشقق المفروشة، ليكتشفوا بعد الشهر الأوّل أنّ التكافل الاجتماعيّ انتهى، وأنّ السماسرة والمستثمرين على حساب أوجاع الناس كشّروا عن أنيابهم في صور وغير صور.
مثلًا، تحوّل نواطير البنايات، من سوريّين وفلسطينيّين ولبنانيّين إلى سماسرة عقارات، يؤجّرون من يحلو لهم بحسب من يدفع أكثر، ويرفضون من يطلب شقّة للإيجار الدائم، إذ الأولويّة للنازحين ممّن يدفعون إيجارات الشقق المفروشة بما يزيد على ألف دولار شهريًّا.
الدولة في غياب تام
يؤكّد عصام هاشم “غياب الدولة بشكل كامل عن مساعدة النازحين”، ويضيف لـ”مناطق نت”: “الخطّة التي اعدّت لـمدة 45 يومًا مع بداية الأزمة، لم تُقرّ ولم تُصرف لها الأموال، وما يحصل عليه النازحون هو تقديمات جمعيّات وقطاع خاص، مع بعض الأدوية التي يتمّ تأمينها من خلال مؤسّسات الإمام موسى الصدر، ومؤسّسة عامل، وأحيانًا من مراكز الرعاية الأوّليّة التابعة لوزارة الصحّة”.
في نهاية الأسبوع الماضي، تعرّضت مدينة بنت جبيل إلى عدوان اسرائيليّ، “بعدها بساعات طُلب من السكّان ممّن كانوا لا يزالون في منازلهم مغادرة المدينة، فوصل إلى صور أكثر من خمسمائة نازح جديد، وأعدادهم مرشّحة للارتفاع، فيما “وحدة إدارة الكوارث” غير قادرة على تلبية متطلّبات النازحين، إذ تعاني على سبيل المثال من نقص في “الحرامات” بما يقدّر بـثمانية آلاف حرام، ناهيك عن المتطلبات كافّة ، لذلك يجب البدء بمقاربة هذا الملف بطريقة مختلفة لأنّنا اقتربنا من الانتقال إلى وضع جديد، ترتفع فيه الأصوات مطالبة الدولة بالاهتمام اللازم، وهذه مسؤولية أحزاب الجنوب التي تسعى إلى تدارك الوضع” يقول هاشم.
لا يزال عدد النازحين يشكّل أقلّ من عشرة بالمئة من عددهم في العام 2006، في عدوان تمّوز وآب، وبالرغم من ذلك المصيبة تكبر، فكيف في حال وقعت حرب كبرى ونزح مليون لبنانيّ من منازلهم؟ كيف ستتصرّف الدولة العاجزة عن العناية بمئة ألف نازح؟ وما حالها أمام مليون؟