“بانسيونات” طرابلس المنسية.. زمن القروش وإيجار التخت الواحد

في غفلة من الزمن، تحوّلت معظم “بانسيونات طرابلس” إلى مبانٍ متصدّعة تحتاج إلى الترميم. في المقابل، يكابر بعض أصحاب “الفنادق القديمة”، فيستمرّون بالعمل فيها، بوصفها “أماكن رخيصة للسكن”. أمّا النزلاء فهم من “عابري السبيل”، والباحثين عن إقامة في قلب المدينة النابض.

تشكّل هذه الفنادق حيّزًا من المشهد العمرانيّ العام لمدينة طرابلس، وساحة التلّ على وجه التحديد، إذ تزخر بالأبنية التراثيّة المتنوّعة، التي يعود بعضها إلى الحقبة العثمانيّة، كما هو حال برج الساعة الحميديّة.

أوتيل العروبة والبدايات

تتميّز فنادق طرابلس بحجارتها المرصوفة، وشرفاتها المزنّرة بالحديد المشغول يديويًّا، ويعود بعضها إلى الحقبة العثمانيّة، فيما يرتدي الجزء الآخر “الزيّ الحداثيّ” الكولونياليّ. لا يقتصر مشهدها اللافت على ناحيّة بحدّ ذاتها في طرابلس، إذ بالرغم من كثافتها في منطقة التلّ، إلّا أنّها تنتشر في أحياء المدينة كافة، وتحديدًا في المناطق ذات النشاط الاقتصاديّ الكثيف.

من فنادق طرابلس القديمة .. أوتيل “بالاس” في منطقة التل

يروي محمد مرعبي لـ”مناطق نت” مسيرة ستّة عقود من حياة “أوتيل العروبة”، ففي العام 1962، “تملّكت عائلتي هذا الفندق الواقع في قلب المدينة القديمة، على مقربة من سوق النحّاسين، ومنطقة التربيعة التي تزدحم بمشاغل المفروشات”.

يتردد مرعبي إلى هذا الفندق مذ كان صغيرًا، و”كانت الغرف تزدحم بالنزلاء القادمين من مختلف المناطق اللبنانيّة، والدول العربيّة المجاورة، ممّن يحضرون إلى طرابلس من أجل التجارة. كما كان يستقبل السيّاح الباحثين عن جماليّات المدينة المملوكيّة القديمة، ناهيك عن أبناء المدينة ومن مختلف الأطياف الاجتماعيّة”.

ويشير مرعبي إلى “أنّنا كنّا نؤجّر الزبون تختًا واحدًا، وكان البدل يتراوح بين 50 و75 قرشًا، أيّ أقلّ من ليرة واحدة، وأخذت بالارتفاع مع مرور الزمن حتّى وصلت إلى ثلاث ليرات”.

حقبات زمنيّة ومعماريّة

يحفل تاريخ الفندق بالقصص والحكايات، التي ما زالت آثارها مزدحمة على الجدران المطليّة بمادّة كلسيّة. كذلك يضمّ جملًا عمرانيّة جميلة، من القناطر، و”الدرابزونات” المستخدمة في تسوير الدرج، والزجاج الملوّن.

نوافذ مخلّعة وجدران مرّ عليها الزمن.. هكذا هي حال فنادق طرابلس القديمة

يؤكّد مرعبي أنّ “نزل العروبة، هو أحد أقدم الفنادق في طرابلس، إذ يعود إلى أوائل أربعينيّات القرن الماضي، في إبان حقبة الانتداب الفرنسيّ، ويُقال إنّه كان يُستخدم سابقًا من قبل تلك السلطات”.

يتحدّث مرعبي عن مواسم العزّ التي عاشتها فنادق طرابلس، إذ كانت المكان المفضّل للتجّار، أو “النازحين” بصورة مؤقّتة إلى المدينة، و”مأوى لأبناء البلد ممّن يعانون مشاكل عائليّة”. يأتي هؤلاء إلى المدينة التي كانت تشكّل المركز الحضاري لمنطقة الشمال، بالإضافة إلى كونها “مكانًا تتوافر فيه مختلف الخدمات والحاجات للقادمين من قرى الضنّيّة، وعكّار، وبشرّي، وزغرتا، والكورة، والبترون، وجبل لبنان الشماليّ”.

ويقول: “نشطت حركة الفنادق بسبب عسر المواصلات، إذ كان المشوار من الريف إلى المدينة يستغرق ساعات طويلة، وأحيانًا نصف يوم، لذلك كانت النُّزُل ضروريّة من أجل المبيت”. ويستذكر أنّ “الفنادق كانت تنتظر موسم الانتخابات على أنواعها، وقدوم الأهالي من سوريّا، أو القرى المحيطة إلى مدينة طرابلس من أجل المشاركة، والاقتراع لزعيمهم السياسيّ”.

ترميم مكلف وإلّا التصدع المريب

في العام 2010، أقفل نزل العروبة أبوابه، وتوقّف عن استقبال الزبائن، بعدما تحوّل إلى مبنى غير مؤهّل لاستقبال الزبائن، بسبب التصدّعات التي حلّت به بفعل عوامل الزمن، “وكذلك لم تعد أوضاع البلد تساعد على ترميم وتأهيل المبنى، نظرًا للكلفة العالية جدًّا، بغية الحفاظ على هويّته العمرانيّة وخصوصيّته الهندسيّة، بالإضافة إلى تأثير الأزمات المتكرّرة على الجوّ العام في لبنان، وعدم قدوم السيّاح بسبب الاضطرابات الأمنيّة” بحسب محمد مرعبي، الذي يؤكّد “أنّ الفندق بات معروضًا للبيع، ويمكن تحويله إلى متحف أو مركز ثقافي بسبب موقعه في المدينة التاريخيةّ، وتصميمه المميّز”.

الفنادق كانت تنتظر موسم الانتخابات على أنواعها، وقدوم الأهالي من سوريّا، أو القرى المحيطة إلى مدينة طرابلس من أجل المشاركة، والاقتراع لزعيمهم السياسيّ

يأسف مرعبي “للحال التي بلغتها فنادق طرابلس”، ويستحضر من ذاكرته، كيف كانت وزارة السياحة والحكومة اللبنانيّة تقدّم مبالغ مالية لدعم أصحاب الفنادق والمؤسّسات السياحيّة لتطويرها وتأمين استمراريتها، ويقول: “كانت الفنادق تحصل على منحة، ولكنّها توقّفت منذ خمسة وعشرين  عامًا. كان والدي يقصد بيروت للحصول على منحة تتراوح بين 500 و600 ليرة لبنانيّة، وكان يستخدمها  في ترميم النزل وتصليح المتضرّر، واتّقاء أيّ صدوع”، متخوّفًا من أثر عوامل الزمن على الفنادق، “فهي عرضة للانهيارات المتسارعة، لأنّ غالبيتها تنتمي إلى فئة الأبنيّة التراثيّة القديمة”.

نُزُلٌ مخلّعة الذاكرة والخدمات

يشكّل شارع “البانسيونات” في منطقة التلّ العليا خير دليل على الحال التي وصلت إليها الفنادق القديمة في طرابلس. بعد الصعود على الدرج المقابل لمؤسّسة abc، وحدها لوحة زرقاء تشدّ انتباه الزائر، وتخبره بوجود فندق قديم يحمل اسم “فندق رغدان”. وجنبًا إلى جنب نجد “الفندق العربيّ الكبير”.

نتوجّه يمينًا، نحو تلك اللوحات، فنعيش حالًا من التناقض، من جهة نحن أمام عمارة عظيمة ومتقنة، ومن ناحية أخرى أبنية خاوية، يحوطها الصمت، والغبار. فهي من حقبة ربّما شاخت، وتحوّلت غالبيتها إلى أماكن مهجورة ومهملة. تشهد نوافذها ذات الزجاج المكسور، وشبابيكها الخشبيّة الرثّة على خريف عمرها. كما أنّ بعض شرفاتها أصابها الوهن، ما يجعلها عرضة للسقوط، مشكّلة خطرًا على السلامة العامة.

فندقي “العربي الكبير” و”رغدان” في منطقة التل العليا في طرابلس

يختلف المشهد قليلًا على الضفّة الأخرى من منطقة التلّ، ففي المنطقة المقابلة للمخفر وبرج الساعة الحميديّة، تقع بعض الفنادق، التي تعمل وفق مقتضيات الحدّ الأدنى. ومن أجل الحصول على صورة واقعيّة نزور عيّنة مؤلفة من: “أوتيل بّالاس”، و”نزل الحدّاد”، و”نزل الكورة”. نخرج بانطباع، أنّ ” هذه الفنادق تأثّرت إلى حدّ بعيد بالانهيار الماليّ والاقتصاديّ في لبنان”.

تمتلك هذه الفنادق تصاميم هندسيّة فخمة، وزخرفات، وأرضيّات رخاميّة بديعة، وثريّات نحاسيّة أنيقة، هذا من جهة، ولكن في المقابل، تراجعت خدماتها إلى حدّ كبير. “لكنّنا نستمرّ بفتح أبوابنا رغمًا عنّا لكي نعيش”، تقول سيّدة تستثمر واحدًا من تلك النُّزُل، مضيفةً “الخدمات تراجعت، وكذلك الماء الساخن، والنور مؤمّن في الساعات التي يزوّدنا صاحب مولد الاشتراك بالإنارة، كما أنّ تسعيرة الإقامة منخفضة، فهي في أحسن الأحوال لا تتجاوز عشرة دولارات لقاء الإقامة في الليلة الواحدة”. وتلفت إلى “أنّ أغلب النزلاء هم من الطبقات المتوسّطة ومحدودي الدخل، سواء أكانوا لبنانيّين أو سوريّين، أو سيّاحًا عابرين، وهذا لا يُمكّن أصحاب الفنادق من تحسين خدماتها”.

الجود من الموجود

تشكّل الفنادق جزءًا من المشهد الثقافيّ والعمرانيّ العام لمدينة طرابلس، ومتحفًا مفتوحًا منذ الحقبة المملوكيّة، وصولًا إلى الحداثة الأوروبّيّة، مرورًا بالفخامة العثمانيّة.

يشير المهندس وسيم ناغي (أستاذ جامعيّ) إلى “أنّ الفنادق المنتشرة في ساحة التلّ والتي لم يبقَ يعمل منها سوى عشرة تقريبًا، تعتبر امتدادًا لتلك الموجودة في المدينة المملوكيّة، التي كانت تعرف بالخانات على غرار خان الخيّاطين، وخان الصابون، وخان العسكر، وخان المصريّين، وخان البطّيخ الواقع في التبّانة”.

في أحد فنادق طرابلس

ويجزم ناغي لـ”مناطق نت” أنّ نشأتها مقترنة بالحركة التجاريّة التي تشهدها مدينة طرابلس، “وقبل أن تكون ذات غايات سياحيّة. فقد كانت تحتضن مرفأ ناشطًا، ومحطّة قطار الميناء التي استمرت بالعمل إلى غاية العام 1975، وحركة التجارة مع سوريّا، والجاليات المقيمة، وتجارة الحمضيّات وزيت الزيتون، والصابون. حيث يأتي التجّار لطلب السلع النفيسة، فيقيمون في فنادق طرابلس بضعة أيّام”.

يرجّح ناغي “أنّ هذا النشاط يعود في أصله إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر وقدوم العثمانيّين. وشهدت المدينة في خلال القرن التاسع عشر تشييد مجموعة من المباني التي حملت وظيفة فندق “نزل” أو “موتيل”، واحتضن التلّ بوصفه الوسط التجاريّ، عددًا كبيرًا من الفنادق التي توزّعت بين ساحة الكورة ومنطقة النجمة، وساحة عبد الناصر، حيث كانت قريبة من خطوط المواصلات والترامواي، وإطلاق خدمة Orient Express في العام 1912  التي ربطت طرابلس بأوروبّا”.

ويجزم أنّ “هذه الفنادق كانت متواضعة لكنّها كافية، وصولًا إلى فندق المنتزه الذي تمّ هدمه في ثمانينيّات القرن الماضي”.

في حقبة الثمانينيّات، لم تقتصر الخسارة على “فندف المنتزه” فحسب، بل خسر التلّ “بعظمته” مكانته بسبب الحرب، وتراجع الحركة، وعدم اجتذاب الاستثمارات، وغلبة الإيجارات القديمة، وامتناع المالكين عن القيام بالترميمات المطلوبة، ومعها فقدت الفنادق سمعتها، ولم تعد سوى مآوٍ للفقراء، وأبناء المناطق المحيطة، والسيّاح القادمين لاستكشاف طرابلس، وعيش التجربة الثقافيّة، وليس طلبًا للرفاهيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى