نسيب مكارم نحّات الحروف خطّاط الجمهوريّة

إنّه نسيب سعيد مكارم، الرجل الذي وُلد تحت شمسٍ خجولة في قرية عيتات، كان أكثر من نجّارٍ يكسو الخشب بالحياة، بل رجل يحترف نحت الحروف على سطح الزمن. لم يكن القلم بين يديه أداةً جامدة، بل امتداد لروحه، ينحني معه فوق حبّات الأرز والقمح والعدس، كما لو أنّه يبحث عن معنى أعمق للوجود في أدقّ تفاصيله.

تجلّى مكارم في صمته عاملًا بهدوء، مثل ناسكٍ وجد خلاصه في دقّة الحروف وسحر التكوين. لم يسعَ وراء الأضواء، لكنّ الشهرة جاءت إليه طائعة، محمّلة بأوسمة دوليّة، وكأنّ الخطّاط ابن مقلة وقف لحظةً أمام خطّه وانحنى احترامًا.

وما كان ذلك كافيًا، إذ منحته الحياة دورًا آخر؛ شاهد الحقيقة في أروقة المحاكم، حيث كانت عيناه ميزان العدل، تقرأ الخطوط كما يقرأ الفيلسوف دروب القدر، تفرّق بين ما هو أصيل وما هو زيف. ولقّبوه بـ “خطّاط الملوك”، لكنّه لم يكن مجرّد كاتبٍ لحروف أسمائهم، بل شكّل صدىً خفيًّا لمراسلاتهم، وظلًّا عابرًا على عروشهم.

بين الملك عبدالله والملك غازي، بين فيصل وأمراء الخليج، امتدّت أنامله كجسرٍ بين الكلمات والسلطة، لكنّه، على رغم كلّ شيء، ظلّ هناك، في عيتات، حيث تلاشت الألقاب تحت ضوء المساء، ولم يبقَ إلّا الحرف، صامتًا، خالدًا، كالحياة ذاتها.

نسيب مكارم
الخطّ موهبة بالجينات

في صباحٍ خريفيّ من العام 1889، وُلِد نسيب مكارم في قرية عيتات (قضاء عاليه في جبل لبنان)، حيث تلتقي الطبيعة بالسكينة، وينمو الإنسان كما ينمو الحرف، ببطءٍ، لكن بثباتٍ لا رجوع عنه. دخل مدرسة سوق الغرب الأميركيّة العام 1903، لكنّ القدر كعادته، لم يسمح له بمسيرة هادئة؛ فبعد أربع سنوات فقط، رحل والده، وتركه في مواجهة الحياة عاريًا من الطفولة، مجبرًا على أن يكون رجلًا قبل أوانه.

امتهن النجارة، كما فعل والده من قبله، لكنّ أنامله كانت تبحث عن شيء أكثر دقّة، أكثر شفافيّة. لم يكن الخشب كافيًا لروحه، فوجد يقينه في الخطّ، ذلك الفنّ الذي لم يتعلّمه في مدارس أو على يد أساتذة، بل انبثق منه كما ينبثق النور من نافذةٍ مغلقة. كانت والدته، عذباء بنت حسين يونس، قد سبقته إلى هذا الجمال، إذ امتلكت خطًّا ساحرًا، كأنّها ترسم العالم بحروفه، ولم تكن تعلم أنّها بذلك كانت تشذّب موهبته وتعدّه ليكون سيّد الحرف.

سيّد الحرف التفاصيل

عاش نسيب مكارم حياةً مزدوجة بين النجارة التي تؤمّن لقمة العيش، والخطّ الذي يمنحه مبرّرًا للحياة نفسها. ومع ذلك كان رجلًا له جذورٌ في مجتمعه، متمسّكًا بآداب الطائفة التي نشأ فيها حتّى لُقّب بالشيخ، كأنّه بذلك يحمل ثقل التاريخ فوق كتفيه، تمامًا كما حمل أمانة الحروف.

امتهن النجارة، كما فعل والده من قبله، لكنّ أنامله كانت تبحث عن شيء أكثر دقّة، أكثر شفافيّة. لم يكن الخشب كافيًا لروحه، فوجد يقينه في الخطّ، ذلك الفنّ الذي لم يتعلّمه في مدارس أو على يد أساتذة

حين فاز بجائزته الأولى في معرض زحلة العام 1909، لم يكن ذلك سوى بداية لانتصاراته. من هناك، راح خطّه يجوب العالم: بيضة الدستور، حبّة الأرز التي قدّمها لجمال باشا، حبّة القمح التي حملت اسم الأمير فيصل، الأختام التي زينت أيدي الملوك، والقطع الخطّيّة التي تزيّن صالونات القصور. لكنّه لم يكن يسعى إلى المجد، بل كان يسعى إلى الكمال، وكأنّ كلّ حرف يخطّه هو محاولة لملامسة المطلق.

مبتكر العشريّ

في عصرٍ كانت للخطّ العثمانيّ فيه مكانةُ الذهب، تفنّن مكارم في الثلث، وبرع في الفارسيّ والديوانيّ، وابتكر الكوفيّ من جديد. لم يكن يكتفي بأن يكون امتدادًا للتاريخ، بل أراد أن يترك أثرًا، فابتكر حرفًا للطباعة عُرف باسمه: العشريّ.

وعلى رغم هذا الوهج، لم يتخلَّ عن العمل. ظلّ نسيب مكارم نجّارًا وتاجرًا ومعلّمًا، رجلًا يقبض على الحياة من أطرافها غير آبهٍ بالمناصب والألقاب التي انهالت عليه. درّس الخطّ كما لو كان ينقل طقسًا مقدّسًا، علّم التلاميذ والأساتذة على حدٍّ سواء، ومرّت تحت يديه مدارس ومعاهد لا تُحصى، لكنّه ظلّ رجلًا بسيطًا، يُمسك الريشة كمن يُمسك الحقيقة.

في بيروت، فتح مكتبًا لمزاولة الخطّ والخبرة. لم يكن الأمر مجرّد عملٍ، بل كان استمرارًا لطريقته في قراءة العالم؛ فالخطّ بالنسبة إليه لم يكن رسمًا بقدر ما كان بصمة روح. وحين طُلب إليه التحقيق في دعاوى التزوير، لم يخيّب الثقة؛ فبدا كمن يرى من وراء الكلمات، يفرّق بين الحقيقيّ والمزيّف كما لو كان الأمر حدسًا أكثر منه علمًا. حين نُسب كتابٌ للأمير شكيب أرسلان، قرأه بعين الصانع، فوجد فيه 130 دليلًا على الزيف. لم يكن غريبًا أن يُعيّن خطّاطًا فخريًّا للجمهوريّة اللبنانيّة، وللملوك الذين عرفوا قيمة الفنّ قبل أن يعرفوا قيمة السلطة. لكنّ نسيب مكارم لم يكن رجل القصور، بل كان ابن الحرف، ابن تلك اللحظة التي يلامس فيها القلم الورق، ويترك أثرًا لا تمحوه الأيام.

أوسمة الشرف

كان نسيب مكارم رجلًا يكتب الكلمات لا ليُخلَّد، بل كي يعطي للحروف حياةً تتجاوز الزمن. ومع ذلك، لم تستطع الدنيا أن تتجاهل فنّه، فتوشّح صدره بأكثر من عشرين وسامًا، وكأنّ العالم بأسره قرّر أن يضع لمسته اعترافًا بعبقريّته. من الأكّاديميّة الفرنسيّة إلى المجامع العلميّة المختلفة، كان اسمه محفورًا في سجلّات التكريم، لكنّه ظلّ، كما كان دائمًا، رجلًا يتوارى خلف إبداعه، متواضعًا أمام ما خطّته يداه.

ترك خلفه مئات وآلاف الأعمال، بعضها استحال أيقونات نادرة في فنّ الخطّ المصغّر، ومن بينها:

  • حبّة قمح قدّمها إلى متحف الجامعة الأمريكيّة العام 1919، كتب عليها قصيدة من107  كلمات، وكأنّه أراد أن يودع الكون في أصغر مساحةٍ ممكنة.
  • حبّة قمح نقش عليها جملًا عديدة، قُدّمت لجمعيّة الصليب الأحمر الأمريكيّة العام 1918، كأنّ الحروف كانت صرخة إنسانيّة من قلب الفن.
  • حبّة قمح أهداها إلى الشريف فيصل ابن الحسين، وعليها قصيدة طويلة، كما لو كانت رسالةً من الشرق إلى ملكٍ يحلم بمجد الأمّة.
  • حبّة أرز نقشت عليها قصيدة من ثلاثين بيتًا و287 كلمة بعنوان مصر وبنوها، في تجلٍّ مذهلٍ لمستحيل الخطّ.
  • حبّة أرز نُقش على وجهها قلعة بعلبك، وعلى الوجه الآخر هياكل بعلبك، كأنّه كان يوثّق التاريخ بحدس فنّان يعرف أنّ الحضارات تُقرأ بالحروف قبل أن تُقرأ بالآثار.
  • حبّة أرز كتب عليها مقطعان من نشيد المارسيلييز مع خريطة فرنسا، في تحيّةٍ فنّيّة إلى بلاد كانت تُقدّر عبقريّة الخطّ.
  • حبّة أرز رسم على سطحها ثلاث سيارات، مرفقة بأقوالٍ مأثورة لفورد، وكأنّه يضع الفنّ في سباقٍ مع الآلة.
  • حبّة أرز من فضّة نُقشت على وجهها خريطة لبنان وأسماء مدنه، كأنّها وثيقة وطنيّة في أصغر أشكالها.
  • حبّة أرز حملت جملة من كتاب مجاني الأدب، بلغت61  كلمة، وكأنّ الكلمات تأبى أن تُقيَّد بحجم.
  • خاتم ذهبيّ قدّمه إلى الملك عبد العزيز بن سعود، نُقش عليه إهداءٌ وقصيدة من خمسة أبيات، وكأنّه كان يختم التاريخ على أصابع الملوك.
  • خاتم ذهبيّ حُفر على فصّه النشيد المصريّ، متكوّنًا من 16  بيتًا و157 كلمة، في معجزة بصريّةٍ لا يجرؤ عليها إلّا مكارم.
  • خاتم ذهبيّ عليه ثلاثة أبيات شعريّة وخريطة العراق، كأنّه يؤرّخ للوطن بالحبر والذهب معًا.
  • خاتم ذهبيّ نُقش عليه النشيد الوطنيّ اللبنانيّ، في تماهٍ نادر بين الوطن والفن.ّ
  • خاتم ذهبيّ حمل النشيد الوطنيّ السوريّ، وكأنّ مكارم كان يحوك الأوطان في تفاصيل الإبداع.

لم يكن نسيب مكارم مجرّد فنّان، بل كان رجلًا يُقاوم الزمن، يحفر الكلمات في أماكن لا تتّسع لها، كأنّه يصرّ على أن يُثبت أنّ العبقريّة ليست في حجم القماش، بل في دقّة اللمسة، في روح الخطّ، في لحظة السكون بين الحرف والحرف.

وفاته

في العام 1966، حين بدأ قلب نسيب مكارم يثقل بإرث العمر، لم يعد الخطّ وحده كافيًا لمواجهة صمت الأيّام. انصرف إلى بيته، كما ينصرف ناسكٌ إلى صومعته، متأمّلًا خطاه التي تركها على صفحات العالم، مستسلِمًا لعبادة صامتة، كأنّما كانت الحروف ذاتها صلاةً أخيرةً بين يديه.

لكنّ الموت، كما الحرف، لا يأتي إلّا حين يكتمل المعنى. وفي الرابع من حزيران عام 1971، أسدل القدر ستارته، تاركًا جسده يعود إلى تراب عيتات، بينما بقي أثره ممتدًّا في كلّ حرفٍ خطّه، في كلّ وثيقةٍ حملت بصمته، وفي كلّ لوحةٍ عرضت للعالم قبل أيّامٍ من رحيله في بعبدا، كأنّها كانت وداعًا أخيرًا، توقيعًا أخيرًا على حافّة الزمن.

شيّع في مأتمٍ مهيب، كما يليق برجلٍ لم يكن مجرّد اسم، بل سيرةٌ من الجمال والنبوغ، نقشها على الورق، وتركها أبديةً في الذاكرة. مع ذلك استمرّت مسيرة خطّ في ذلك البيت، ليكون ابنه الدكتور سامي مكارم امتدادًا إنّما ليس على شكل تكرار حيث ابتدع اسلوبه الخاصّ في الكتابة ذات السموّ التصاعديّ، مسقطًا على حبره ابعادًا صوفيّة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى