هواجس التشكيليّ “الخياميّ” يوسف غزّاوي من الحرب ولعناتها المتكرّرة
بشكل دوريّ، يطلّ الفنّان التشكيليّ يوسف غزّاوي على مسقط رأسه الخيام، لمواكبة حجارة بيته التي ترتفع ببطء، ويسقي الشجيرات التي تنمو بالإيقاع عينه. هكذا هي العناوين الراسخة في الأرض، نباتيّة كانت أم أسمنتيّة، تراقص الزمن بهدوء لكي تُمنَح معناها، وتستحقّ مكانتها في أدبيّات الأوطان.
العكس تمامًا هو ما تفعله الطائرات الحربيّة الإسرائيليّة، تسوّي هناك المنازل بالأرض، وتحرق البساتين، في غضون ثوانٍ قليلة. كأنّ الصاروخ فعل شاطر لمنطق الزمن، قاضم للمعادلة الزمنيّة- المكانيّة.
سحق الذاكرة الأولى
ما مِن فنّان في العالم يفقه معنى هذا العبث، مثلما يعرفه الدكتور يوسف غزّاوي الذي لم يشهد تكرار فعل الهدم لمرّات ثلاث فحسب، بل واحتراق أعماله التشكيليّة في كلّ مرّة يرتطم فيها الصاروخ بالأسمنت، فيكون أداة محو عمياء، لا يتناسل منها سوى الظلام.
كانت المرّة الأولى في العام 1978، في الخيام، حيث بيت الأهل، مرتع الطفولة، والمحاولات البكر، مع الرسم بأقلام الرصاص على الورق، كما الرسم على الجدران، والنحت على حجر الحوّار الأبيض الطريّ. كلّ هذا اختفى بقرار من الطائرة التي قصفت البيت، فلم ينجُ منه أيّة قصاصة.
مرّت الأيام، وتبدّلت الأحوال، وصار ذلك الطفل فنّانًا بشهادة من كلّيّة الفنون الجميلة، وبعدها نال الدكتوراه من واحدة من أهمّ الجامعات الفرنسيّة، ليقرّر العودة إلى البلد، ويقدّم تجربته إلى طلاب يحتاجونها.
الرماد الثاني
في المرّة الثانية جاءت الخسارة بعد سبع سنوات، في العام 1982، في منطقة صفير (الحدث)، أيضًا بقصف من الطائرات الإسرائيليّة، لتتحوّل جميع اللوحات إلى رماد. وقتذاك ظنّ يوسف غزّاوي أنّ اللعنة التي طاردت لوحاته ربّما اكتفت بوجبتها الأخيرة، “فرثيت أعمالي تلك، وصمّمت على خوض غمار الفنّ بشغف أكبر، عبر الإيغال في التشكيل بمدارسه واتّجاهاته، فسبرتُ الألوان الغامضة، وأعدتُ ترتيبها وتركيبها على الأقمشة، ثمّ انتقلتُ إلى باريس في العام 1985، كي أعيش الفنّ في عاصمته” بحسب غزّاوي.
في عاصمة الأنوار باريس عرض غزّاوي أعماله من خلال أربعة معارض فرديّة، وشارك مع فنّانين من العالم بإنجاز مجسّم لبرج إيفل، تزامنًا مع الذكرى المئويّة الأولى لبنائه، كذلك في الذكرى المئويّة الثانية للثورة الفرنسيّة، بحضور دانييل ميتران، زوجة رئيس الوزراء الفرنسي حينذاك فرنسوا ميتران، مع تغطية إعلاميّة واسعة.
أمّا في العام 1989 فقد شارك غزّاوي في مسابقة “نجوم التصوير” لينال الجائزة الأولى مع أربعة فنّانين آخرين، فحصل على منحة توازي 12 ألف فرنك فرنسيّ، وكتبت عنه صحيفة “اللوموند” مقالة إثر ذلك.
في عاصمة الأنوار باريس عرض غزّاوي أعماله من خلال أربعة معارض فرديّة، وشارك مع فنّانين من العالم بإنجاز مجسّم لبرج إيفل، تزامنًا مع الذكرى المئويّة الأولى لبنائه، كذلك في الذكرى المئويّة الثانية للثورة الفرنسيّة، بحضور دانييل ميتران زوجة رئيس الوزراء الفرنسي حينذاك فرنسوا ميتران، مع تغطية إعلاميّة واسعة.
تابع ابن الخيام مسيرته في باريس فدرس فنّ الفيتراي (الزجاج المعشّق)، لينال الدكتوراه فيه، ويشتغل في هذا المضمار على مدى سنوات عديدة، مكتسبًا المزيد من الخبرات، عاد وقدّمها إلى طلّابه في الجامعة اللبنانيّة، مؤسّسًا لهذا الفنّ، حيث لم يكن مدرجًا ضمن المنهاج من قبله.
اغتيال محترَف
لم تتوقف النكبات الفنية التي طالت أعمال غزاوي، فكانت النكبة الثالثة في عدوان تمّوز 2006! ليضيع كلّ شيء في ذاك العدوان الذي مسح الذاكرة بغمضة عين. المفارقة في النكبة الثالثة أنّ الرسّام غزّاوي كان قد تزوّج من الفنّانة الدكتورة سوزان شكرون (من كفررمان)، فانجدلت أعماله بأعمالها في معموديّة نار، “أشعلتها الطائرة الإسرائيليّة، فسقط المنزل في حارة حريك بأكمله، مع باقي البناء المؤلّف من طبقات عدّة، لتسوّى كذلك بالأرض، فتذوب وتترمّد رسوماتي وأعمالي، ورسومات زوجتي وأعمالها، وكذلك مكتبتنا الفنّيّة، مع باقي الكتب والمقتنيات الحاملة للمضامين الثقافيّة والإبداعيّة” يقول غزّاوي لـ “مناطق نت”.
ضياع الإرث التشكيلي للفنان غزاوي شكّل صدمة كبيرة جدًّا له ولزوجته، حيث بدأوا رحلة البحث عن مِزَق اللوحات بين الركام، ليجمع الزوجان بعض الأقمشة المشظّاة، ويقدّمانها في معرض استثنائيّ بموضوعه وشكله، تحت عنوان “اغتيال محترف”، في صالة قصر الأونيسكو في بيروت. يقول: “في حينه، تقاطرت وسائل الإعلام لتغطية هذا الحدث، وكأنّ العدسات تعاين جثثًا موشّاة بالرماد”.
“غيرنيكا الخيام”
بعد الصدمة الثالثة، أحجم غزّاوي مدّة طويلة عن الرسم، متابعًا التعليم كالمعتاد، وما أن برد جرح الذاكرة بعض الشيء، حتّى استلّ الخياميّ المكافح فرشاة الرسم من جديد، ليسكب انفعالاته ورؤاه، وينجز أكثر من معرض فرديّ، كان آخرها معرضًا فرديًّا لأعماله الجديدة في غاليري “إسكايب”Escape في الأشرفيّة في بيروت بعنوان “ذاكرة الغياب” في أيلول/ سبتمبر 2023 وضمّ 35 لوحة، بالإضافة إلى مشاركته في معارض جماعيّة أخرى.
لم يكتفِ غزاوي باستئناف مسيرته الفنيّة، بل عاود كتابة دراساته التشكيليّة التي نشرها في صحيفة “السفير”، ومجلّات “العربيّ”، و”فنون تشكيليّة”، كذلك في يوميّتيّ “الأخبار” و”اللواء”. مقالات تحوّلت إلى كتب، تبنّت منها الجامعة اللبنانيّة كتابين هما “رؤى تشكيليّة” 2008، و”محطّات تشكيليّة” 2018.
كنوع من الإسقاط على واحدة من الحروب الأهليّة الأشهر في أوروبّا، وتحديدًا غيرنيكا في إسبانيا، كتب يوسف غزّاوي عن حاله، وعن الخيام، والدراسة وباريس، والحب والمعارض، كتابًا وسمه بـ”غيرنيكا الخيام”، وزّع فصوله بالترتيب، “من عفويّة الطفولة حتّى أعلى مراحل الاحتراف، بلغة جوّانيّة حميمة، فيها من الأفراح قدر ما فيها من المنغّصات والصعوبات”، من دون أن يغفل الأمزجة السيّئة لبعض من تقاطع معهم مثل صاحب أحد محترفات الفيتراي في باريس، كما أحد كبار الفنّانين اللبنانيّين الذي تصرّف بنزق وصلافة مع غزّاوي ومع وغيره، لكن يوسف غزّاوي لم يذكر اسم تلك الشخصيّة لأنّه لم يبتغِ التشفّي في كتابه.
في هذا الكتاب حكى غزّاوي عن موقف طريف في طفولته، إذ رسم عملة الليرة الورقيّة وذهب إلى الدكّان وأعطاها للبائع الذي انطلت عليه الحيلة للحظات، قبل أن يعود يوسف الصغير، ويلفت البائع إلى أنّها مجرّد ورقة رسمها بنفسه.
هاجس اللعنة الرابعة
منذ بدء الحرب في غزّة، وما استتبعها من تصاعد للاعتداءات الإسرائيلية على الجنوب. منذ ذلك الحين، والفنّان غزّاوي يعيش قلق الاحتمال الأسوأ، “أخاف أن تعاد الكرّة للمرّة الرابعة، حيث لا شيء يردع الغطرسة الإسرائيلية من ارتكاب أيّ أمر في لحظات عنف وتدمير، أو قلّة تقدير، فيتمدّد الشرر إلى اللوحات التي أنجزتها في الفترة الممتدّة من بعد حرب تمّوز العام 2006 إلى الآن” يختم غزّاوي.
لكنّ التشكيليّ الجنوبيّ الذي عايش لعنات العدوان الإسرائيليّ مرّات ومرّات، دفعه هاجسه من لعنة رابعة، إلى حزم تلك اللوحات من الخيام ومن أماكن الخطر، ونقلها على مراحل إلى بيت حميّه في العاصمة بيروت، لربّما هناك تكون في مأمن من الفناء، حيث النفسُ اتّخمت بالضربات والمآسي.