هيمنة حزبيّة على البلديّات والسياسة تتجاوز الإنماء

وفق الولاءات السياسيّة والحزبيّة والعائليّة، لا وفق الحاجات المجتمعيّة تُدار الانتخابات البلديّة، ولعلّ ذلك يشكّل العطب الرئيس في مفهوم العمل البلديّ وتغييب دوافعه الحقيقيّة، بما تشكّل من إدارة محلّيّة ترعى شؤون المواطنين، إذ تتحوّل في لبنان إلى ساحات نفوذ حزبيّ، بعيدًا من العمل الإنمائيّ. هذا الواقع المتجذّر في الاستحقاق البلديّ، والذي تكرّس بقوّة مع عودة الانتخابات البلديّة في العام 1998، لم يتبدّل الآن في العام 2025، إذ ما زالت الدوافع والآليّات والأهداف هي ذاتها، تطيح بمبدأ الاستقلاليّة، وتصادر القرار البلديّ لصالح منظومة تحكم قبضتها على مفاصل الدولة، من الأعلى إلى أدنى الحلقات.
“حكومة مصغّرة”
في هذا السياق، يوضح الباحث والمستشار القانونيّ قاسم البستاني في حديث لـ “مناطق نت”، الإطار القانونيّ والدور التنمويّ المفترضين للبلديّات في لبنان، معتبرًا أنّ البلديّة “بمثابة حكومة مصغّرة نظرًا إلى قربها من الناس وتمتّعها بصلاحيّات قانونيّة تخوّلها قيادة التنمية المحلّيّة وتحسين شروط العيش ضمن نطاقها الجغرافيّ”. وبحسب البستاني “يمنح القانون البلديّات صلاحيّات تغطّي معظم جوانب الحياة العامّة، وتشمل جمع النفايات، صيانة الطرق، إدارة المستوصفات، إنشاء المدارس والمكتبات، إنشاء المستشفيات والمسابح ودور السينما وغيرها، باستثناء الأمن والسياسة الخارجيّة، ما يدلّ على قدرة المجلس البلديّ نظريًّا على تجاوز حدود الخدمات اليوميّة نحو التنمية المجتمعيّة الفعليّة”.
غير أنّ هذه الصورة المثاليّة تصطدم بواقع مأزوم ومشوّه. فبحسب البستاني “غالبًا ما يُختصر عمل البلديّات في خدمات مباشرة ومحدودة، كإصدار رخص البناء، أو إنارة الشوارع، أو تنظيم السير، في حين تغيب السياسات الإنمائيّة الكبرى، والسبب في ذلك يعود إلى التركيبة الانتخابيّة والسياسيّة للبلديّات نفسها”.
يمتدّ الأمر إلى ممارسة الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة على الناخبين، فالعائلات الكبرى، وبدعم من الأحزاب، توزّع المنافع والخدمات وتستخدم نفوذها لضمان ولاء الأصوات
ويُعزي البستاني هذا القصور في الأداء البلديّ “إلى طبيعة تكوين المجالس التي تُفرَض، وفق اعتبارات سياسيّة وعائليّة لا تنمويّة، ما يُفرّغ البلديّات من دورها الإصلاحيّ والتنمويّ”. موضحًا أنّ “هذا الواقع يكرّس النفوذ السياسيّ على حساب الإصلاح المحلّيّ، إذ يؤدّي إلى تهميش أصحاب الكفاءات لمصلحة المحسوبيّات والانتماءات”. ويشير كذلك إلى أنّ “المناصب تُوزّع وفقًا للعرف الطائفيّ السائد، وأنّ اللوائح تُشكَّل بتحالف بين الأحزاب الكبرى والعائلات النافذة”.
ممارسة ضغوط وتوزيع منافع
لا يقف الأمر عند حدود تشكيل اللوائح، بل يمتدّ إلى ممارسة الضغوط الاجتماعيّة والسياسيّة على الناخبين، فالعائلات الكبرى، وبدعم من الأحزاب، توزّع المنافع والخدمات وتستخدم نفوذها لضمان ولاء الأصوات. وفي هذا السياق، يشدّد البستاني على أنّ “بعض الأحزاب تستخدم الموارد البلديّة ليس لتطوير الخدمات العامّة، بل لتعزيز الولاءات السياسيّة والمحسوبيّات، وهو ما ينعكس سلبًا على فعاليّة الإدارة المحلّيّة ويكرّس الفساد”.
أمّا المستقلون، فيجدون أنفسهم في موقع هشّ، إذ “نادرًا ما يتمكّن المرشّحون غير المنضوين ضمن المنظومة الحزبيّة أو العائليّة من اختراق اللوائح التقليديّة” كما يقول البستاني. ويضيف: “حتّى عندما ينجح بعضهم، يُجبرون على التعاون مع القوى النافذة لتنفيذ مشاريعهم، في ظلّ كلفة ماليّة مرتفعة للعمليّة الانتخابيّة، وعقبات بيروقراطيّة تحدّ من قدرة المجتمع المدنيّ والشباب على الترشّح”.

التزكية تكريسًا للنفوذ
من ناحيته، يربط محمود أبو شقرا وهو الرئيس السابق لبلديّة عمّاطور بين تهميش المستقلّين واستحواذ القوى السياسيّة على العمليّة الانتخابيّة، معتبرًا أنّ هذه “القوى تتعامل مع الانتخابات البلديّة كجزء من شبكة مصالح ممتدّة منذ أكثر من ثلاثين عامًا. ويُترجم هذا الاستحواذ عمليًّا من خلال ظاهرة التزكية”، التي يصفها أبو شقرا بأنّها “أداة تستخدمها القوى السياسيّة لتكريس نفوذها، عبر فرض لوائح موحّدة تمنع التغيير وتعيد إنتاج المنظومة نفسها”.
ويُشير أبو شقرا في حديثه لـ “مناطق نت” إلى أنّ هذه التزكيات ليست بريئة، بل تخفي وراءها مخاوف من خرق محتمل من قبل قوى التجديد والإصلاح، ما يدفع الأحزاب إلى تشكيل تحالفات متناقضة في المضمون ولكن موحّدة في الهدف. ويقول: “أصبح الآن من الممكن أن تتّفق جميع القوى، حتّى تلك التي تختلف جذريًّا في ما بينها، كما حدث في بيروت، بهدف قطع الطريق على أيّ قوى بديلة، سواء كانت من قوى التغيير أو المبادرات المدنيّة المستقلّة”.
ويؤكّد أبو شقرا أنّ هذا “النوع من التزكيات يُفرغ العمليّة الديمقراطيّة من محتواها، فيُحرم الناخبون من حقّهم في الاختيار والتقييم، وتُفرض عليهم سلطات بلديّة خاضعة للمحاصصة والزبائنيّة”. ويضيف أنّ “الهيئات التي تعود وتنتج نفسها بالشكل ذاته تعجز عن خوض معركة التنمية، وتعيد البلديّة إلى منافع ومصالح شخصيّة بدلًا من أن تكون أداة للتنمية المتوازنة واللّامركزيّة الفعليّة”.
لتحييد البلديّات عن الزبائنيّة
انطلاقًا من هذا السياق، تبرز الحاجة إلى مقاربة مختلفة في إدارة العمل البلديّ، وهو ما يسلّط عليه الضوء الإعلاميّ يزبك وهبي، داعيًا عبر “مناطق نت” إلى تحييد البلديّات عن الزبائنيّة الحزبيّة وضمان الشفافيّة والعدالة في توزيع الخدمات. ويشدّد على ذلك بقوله: \*\*”\*\*يجب عدم رهن أيّ خدمة تقدّم في البلديّة إلى أيّ زبائنيّة سياسيّة أو أيّ دعم حزبيّ يلقاه المرشّح هذا أو ذاك، فالمطلوب من رؤساء البلديّات أن يكونوا شفّافين، وألّا يميّزوا بين فريق قريب منهم، وفريق غير قريب”.
وعند الحديث عن دور الوزارات والصناديق المانحة، يوضح وهبي أنّ “التمويل الخارجي خضع في الماضي لاعتبارات سياسيّة”، ويشرح: “في ما يتعلّق بالتمويل الخارجيّ، كان في السابق تمييز واضح بين منطقة وأخرى، تبعًا لأهواء الوزير وميوله، سواء كان وزير الماليّة أو وزير الداخليّة، إذ كانت تؤثّر بشكل مباشر في توزيع هذا التمويل”. لكن، يُشير وهبي إلى أنّ “هذا الواقع بدأ يتغيّر في السنوات الأخيرة بفعل ضغوط المجتمع المدنيّ والمساءلة الإعلاميّة”.
ويُرجِع وهبي هذا التراجع أيضًا إلى “الفصل التدريجيّ بين النيابة والوزارة”، معتبرًا أنّ “غياب النوّاب عن الحقائب الوزاريّة خلال السنوات الستّ الأخيرة أسهم في الحدّ من التمييز المناطقيّ، إذ خفّف من حجم الولاءات السياسيّة والدعم الانتخابيّ الذي كان يُمنح لمناطق معيّنة على حساب أخرى”.
تحدّيات ماليّة وتنظيميّة
وفي موازاة الحديث عن تأثير العوامل السياسيّة على توزيع الموارد، تبرز أيضًا التحدّيات الماليّة والتنظيميّة التي تواجه المستقلّين، كما يوضح المرشّح المستقلّ في منطقة حاصبيا ساري سعسوع لـ “مناطق نت” أنّ “قلّة عدد الشباب المشارك في الماكينة الانتخابّية، كالمندوبين مثلًا، تعود إلى انعدام القدرة الماليّة لدى المرشّحين، وعدم التمكّن من تأمين التجهيزات اللوجستيّة الأساسيّة”. ويرى أنّ هذا “الخلل يضعف البنية التنظيميّة لحملات المستقلّين، ويؤثّر سلبًا على فعاليّتهم في إدارة الانتخابات ميدانيًّا”.
سعسوع: غياب قوانين واضحة لمراقبة الإنفاق الانتخابيّ يلعب دورًا كبيرًا في ترجيح كفّة المتموّلين، الذين يستخدمون أموالهم لدعم مرشّحين بعينهم
وفي ما يخصّ التحدّي الإعلاميّ، يؤكّد سعسوع أنّ “أيّ نشاط إعلاميّ أو إعلانيّ يحتاج إلى مبالغ كبيرة، وربّما تبدو وسائل التواصل الاجتماعيّ خيارًا أوفر، إلّا أنّ كلفتها ما زالت تفوق قدرة المرشّحين المستقلّين على تغطيتها من تمويلهم الفرديّ”. أمّا عن دور الإعلام التقليديّ، فينتقد سعسوع انحيازه، قائلًا: “كما نعلم، في لبنان، كلّ وسيلة إعلاميّة تابعة لجهة سياسيّة وتعمل لصالحها، ممّا يجعلها تلعب دورًا سلبيًّا تجاه المستقلّين من خلال تغطية إعلاميّة كبيرة لمرشّحي الأحزاب”.
وفي السياق التشريعيّ، يلفت سعسوع إلى أنّ “غياب قوانين واضحة لمراقبة الإنفاق الانتخابيّ يلعب دورًا كبيرًا في ترجيح كفّة المتموّلين، الذين يستخدمون أموالهم لدعم مرشّحين بعينهم”.
من أجل ديمقراطيّة الانتخابات
وفي ظلّ تصاعد هيمنة الأحزاب على العمل البلديّ وتراجع دور المبادرات المستقلّة، تبرز تساؤلات ملحّة حول سُبل استعادة القرار المحلّيّ وتحصين البلديّات من التوظيف السياسيّ.
في هذا السياق، يتقدّم الأمين العام للجمعيّة اللبنانيّة من أجل ديمقراطيّة الانتخابات (LADE) عمّار عبّود بجملة من الاقتراحات والإصلاحات الممكنة، أبرزها “إعادة هيكلة النظام الانتخابيّ البلديّ، عبر الانتقال من الترشيحات الفرديّة إلى نظام انتخابيّ لوائحيّ نسبيّ، مستوحى من النموذج الفرنسيّ”. ويعتبر أنّ “اعتماد النظام اللوائحيّ المغلق، يتيح فوز اللائحة الحائزة على الأكثريّة المطلقة، ومن شأنه أن يوفّر لها القدرة على تنفيذ برنامجها الانتخابيّ، مع الحفاظ في الوقت نفسه على تمثيل القوى المعارضة. فهذه الخطوة تُحدث تحوّلًا جذريًّا في ديناميّة الانتخابات، إذ تتيح محاسبة المجالس المنتخبة بشكل واضح، خلافًا لما هو قائم اليوم من مجالس ناتجة عن تحالفات متباينة تفتقر إلى فاعليّة القرار”.
كذلك يسلّط عبّود الضوء على ثغرات قانون البلديّات الحاليّ، مشيرًا إلى “أنّ تعديله بات ضرورة” ويؤكّد وجود اقتراحات إصلاحّية قدّمت سابقًا، من بينها دمج البلديّات الصغيرة التي تفتقر إلى القدرة الاقتصاديّة والإداريّة. ويشرح: “هناك أكثر من 650 بلديّة في لبنان، بعضُها لا تتجاوز ميزانيتُها السنويّة سبعة أو ثمانية آلاف دولار أميركيّ، وبعضها لا يملك حتّى موظّفًا دائمًا، ما يضعف قدرتها على تلبية احتياجات المواطنين”.
وفي ما يخصّ تعزيز الشفافيّة والمحاسبة، يدعو عبّود إلى تفعيل الدور الشعبيّ في الرقابة على المجالس البلديّة، عبر تعديل القوانين بما يتيح حضور المواطنين اجتماعات المجالس، ونشر محاضر الجلسات والميزانيّات على المواقع الرسميّة، وتنظيم لقاءات تشاوريّة لتحديد الأولويّات التنمويّة.