سينما حمزة… حكاية الفن السابع في بلدة جويا قبل أكثر من ٦٠ عاماً

حيدر حيدر

أن يبادر أحد أبناء بلدة جويا في منتصف الخمسينيات إلى افتتاح سينما في بلدته فهذا أمر لافت والسبب هو أنه في تلك الفترة شهد الجنوب بداية الهجرة الكثيفة باتجاه العاصمة بيروت التي كانت تعيش عصرها الذهبي، وذلك نتيجة الفقر الذي أدّى إلى تلك الهجرة إضافة إلى أسباب أخرى يطيل شرحها. تميزت بلدة جويا عن سائر البلدات الجنوبية الأخرى بهجرة أبنائها باكراً إلى أفريقيا حيث نجحوا هناك، الأمر الذي انعكس على البلدة من خلال البيوت الفخمة والمشاريع الانمائية الكثيرة التي نفذها مغتربو البلدة في بلدتهم.
حمزة هو ابن التاجر ابراهيم فوّاز الذي كان يملك فرناً ومخزناً تجاريّاً في جويّا ويبيع الطحين والحلويّات والمواد الغذائيّة، ويقصده التجّار من قرى وبلدات المنطقة كافّة. كان حمزة شاباً وسيماً، قوي البنية من «قبضايات» البلدة. عمل في التجارة مع والده، فعمد في مطلع الخمسينيّات إلى تحويل متجر والده إلى مقهى يقع في وسط البلدة بالقرب من ساحتها.
قبل افتتاحه السينما أدخل حمزة إلى مقهاه في العام 1951 أوّل راديو يعمل باستخدام «بطاريّة 20 فولت»، وكان ذلك يُعتبر حدثاً مهمّاً، وقد سبقه المغترب جميل مكّي في إحضار آلة «الفونوغراف» التي ما إن أدارها حتّى زحف أبناء البلدة جميعاً ليشاهدوا ذلك «الصندوق العفريت» الذي يغنّي!! أمّا راديو حمزة فقد شكّل وجهة يقصدها الرجال لمتابعة الأخبار والشبّان للإستمتاع بسماع الأغنيات، ويتجمهر النّاس حوله فيما بعد حين يلقي الرئيس المصري جمال عبد الناصر خطاباً.
إضافة إلى صيته كـ «قبضاي» تهابه النّاس، كان حمزة ابن عائلة ميسورة، أنيق المظهر، كثير العناية بمظهره، فملابسه كان يرسلها مع البوسطة إلى إحدى المصابغ في بيروت من أجل غسلها وكيّها.
كان حمزة مولعاً بإصلاح الأدوات الكهربائيّة بالرّغم من حداثتها، وكان من روّاد مدينة بيروت، وقد سافر إلى أفريقيا حيث يملك أخوه متجراً فيها، لكنّ نمط الحياة هناك لم يرق له، فعاد أدراجه إلى لبنان وكان دائم التردّد إلى بيروت.
في بيروت، استهوت حمزة دور السينما وأجواء الفنّ التي كانت سائدة، إضافة إلى الاختراعات الكهربائيّة، هو الذي يملك مقهى يُعتبر بمثابة ملتقى لأبناء البلدة، إضافة إلى حبّه للحياة، كلّ تلك العوامل مجتمعة دفعته إلى إنشاء سينما في جويّا دون أن يأخذ في الحسبان احتمالات الرّبح والخسارة..

العرض الأوّل
في البداية، أحضر حمزة آلة عرض السينما إلى مقهى خاله الحاج نعيم جشّي الكائن في ساحة البلدة نظراً لمساحته الكبيرة، وهناك عرض الفيلم الأوّل «غرام بغنيّة». ثمّ حوّل المقهى الذي يملكه إلى سينما بعد أن عمل على توسعته عبر بناء غرفة إضافيّة وشرفة صغيرة خصّصها لآلة العرض.
كانت «سينما حمزة» في مراحلها الأولى متواضعة، كراسيها من القشّ، لكن بفعل التجاوب والإقبال من الجمهور عليها، عمد حمزة على تطويرها وتوسيعها لتصبح كسائر دور السينما، فزوّدها بشاشة كبيرة وبمقاعد مغطّاة بقماش «المخمل» محشوّة بالاسفنج، وبات لديها ثلاثة مداخل أحدها من باب عادي وآخران جداريّان لجهة الساحة. وقد أُطلق عليها اسم «سينما دُنيا» لكنّ أبناء البلدة جميعاً كانوا يعرفونها بإسم «سينما حمزة». إضافة إلى ذلك، عمل حمزة على رفع مستوى جمهوره ونوع الأفلام، فانتقى أجمل الأفلام العربيّة والعالميّة ذات القيمتَين الماديّة والمعنويّة.
كانت السينما في ذلك الحين تُعتبر حدثاً مهمّاً، جديداً وغير اعتيادي، وهو ما ظهر جلياً خلال عرض الأفلام التي كانت تتضمّن بعض المقاطع التي تفاجئ المشاهدين وتجعلهم يُظهرون ردّات فعل لافتة.. فمثلاً حين كان بطل الفيلم يقبّل البطلة كان يعلو الصراخ مترافقاً مع التصفيق والصفير، بينما في بعض المشاهد الإباحيّة كان يسود الصمت ثمّ ما يلبث أن يطلب الجمهور إعادة تكرار المشهد مرّة أخرى، ما يستدعي تدخّلاً من حمزة الذي يعمد إلى إيقاف العرض وأحياناً إلى رفع بندقيته مهدداً بهدف إعادة النظام والهدوء إلى المكان، وفي بعض الأحيان يخضع لرغبة الجمهور الذي يطالب بإعادة بثّ المشهد مرّة ثانية، ليبدأ بعد ذلك التصفيق تحيّة إلى حمزة أبو ناجي (ناجي ابنه الأكبر، هاجر إلى أفريقيا ولم يعد). وفي بعض المشاهد، يعمد أحد اللصوص إلى مدّ يده لسرقة شيء معيّن، فتتعالى أصوات الحاضرين بالقول: «حرامي.. حرامي»!! وحين يتعرّض بطل الفيلم لهجوم من الخلف يصرخ بعض الحاضرين قائلاً: «انتبه وراك ما يغدرك»!! وفي بعض المشاهد المحزنة يبكي البعض وتبقى أحداث الفيلم راسخة في أذهان المشاهدين وتتناقلها ألسن أبناء البلدة لأسابيع.

طابع خاصّ..
كان حمزة يشتري الأفلام من بيروت وبعض الوكلاء بالقرب من ساحة «الدبّاس» ومن أقرباء له من آل فوّاز وذلك بعد عرضها في بيروت، ومن ثمّ يعرضها في جويّا بالتزامن مع عرضها في دور السينما في صيدا وصور. ويُحكى أنّه في أحد الأيّام تمّ عرض فيلم «الزوجة 13» من بطولة الممثّلة شادية في سينما حمزة بالتزامن مع عرضه في سينما دنيا في صور، لكنّ حمزة علم أنّ بعض أبناء البلدة توجّهوا إلى صور لمشاهدة الفيلم ذاته هناك، فعاتبهم قائلاً: «إنّو شادية عنّا قصيرة، وبـ صور بتصير طويلة»؟!! (المعروف أنّ الممثلة شادية قصيرة القامة).
وفي المناسبات الدينيّة المسيحيّة، ولا سيّما «ولادة السيّد المسيح» و«الجمعة العظيمة»، كان حمزة يحمل السينما، أي آلة العرض، مع بعض الأفلام التي تتحدّث عن السيّد المسيح ويتوجّه بها لعرضها في قرى «رميش» و«دبل» و«عين ابل» وغيرها…
وأذكر من بين الأفلام التي عرضتها «سينما حمزة» بين الأعوام 1967 و1972: أفلام الأخوين رحباني وفيروز، «بيّاع الخواتم»، «سفر برلك» و«بنت الحارس»، وأيضاً أفلام «هرقل»، «عنتر يغزو الصحراء،» «طرزان»، «جيمس بوند»، «صراع في الوادي»، «الأرض» وغيرها…
أمّا «الوسيلة الإعلاميّة» التي كان يعتمدها حمزة للترويج لفيلمه الجديد والإعلان عن موعد عرضه، فكانت عبارة عن لوح خشبي يحمله شابّان ومثبّت عليه ملصق الفيلم، يجولان به طرقات البلدة ولا سيّما في أماكن التجمّعات، وتحديداً في السوق والساحة والحارات، ويناديان: «هلّق بدّو يبلّش فيلم»… وأحياناً، وفي مناسبة الأعياد، كان حمزة يعمد إلى توزيع المناشير الخاصّة بالأفلام في العديد من القرى.
أسعار التذاكر في سينما دنيا أو حمزة كانت في الأيّام العاديّة تتراوح على الشكل التالي: للصغار عشرة قروش وللكبار ربع ليرة، أمّا في الأعياد فترتفع الأسعار ربع ليرة للصغار ونصف ليرة للكبار وكانت العروض مقتصرة على الذكور.
حمل ملصقات الأفلام العديد من الشبّان من أبناء البلدة، وكان حمزة يكافئهم بدعوتهم لحضور تلك الأفلام مجّاناً، وأذكر منهم من أبناء جيلي صديقَيّ في المدرسة أحمد سعيدي وجودت رشيد اللذَين كانا أكثر مَن حمل الملصقات بين العامَين 1968 و1971. كانا طويلي القامة، جميلي المظهر، صاحبَي روح مرحة، لكنّهما حين يصادفان مرور أحد الأساتذة يطرحان الملصقات أرضاً ويهربان، فالاثنان لم يُفلحا في المدرسة!! أحمد سافر إلى أفريقيا وجودت ما زال يقيم في لندن.
كان أحمد وجودت يقصّان لنا خلال فرصة الساعة العاشرة في المدرسة أحداث الفيلم الذي يشاهدانه، حيث يتجمهر الطلاب حولهما فيطلبان منهم مقابل ذلك إعطاءهما ما في حوزتهم من مأكولات: «قرص تمريّة»، كعك أو «نتشة» منقوشة لإكمال رواية الفيلم!!
نالت قصص الأفلام إعجاب الطلاب، وبما أنّني كنت أهوى الرّسم وأبحث دائماً عن أفكار جديدة، لذا عملت معهما على رسم قصص عن طرزان، وكانوا يقدّمون لي الدفاتر الخاصّة بهم حيث نعمد إلى قصّها وتصنيعها على هيئة «بكرة» الفيلم، وكنت بدوري أرسم مشاهد الفيلم، وكنّا نعتمد أسلوب التشويق والتسلسل في الأحداث لضمان حثّ الطلاب على متابعة الحلقات المتتالية. لقد كنّا نشكّل فريقاً رائعاً، كنت أتولّى الرسم، وأحمد كان يتولّى رواية أحداث الفيلم ويستفيض في الكلام، أمّا جودت فكان يبحث في جيوب التلاميذ عن المأكولات بدل أتعاب الفيلم!!
في السبعينيّات ومع بدء الاعتداءات الاسرائيليّة على جنوب لبنان، وتحديداً بلدة جويّا، بدأ وضع «سينما حمزة» يتدهور نظراً لوجود مركز قيادة المقاومة الفلسطينيّة فيها آنذاك، والذي نصّت اتّفاقيّة القاهرة في أحد بنودها على وجوب أن يكون موجوداً في جويّا، حيث كان يبعد عشرة أمتار فقط عن «سينما حمزة». ونتيجة تلك الاعتداءات بدأ أبناء البلدة ينزحون باتّجاه بيروت أو يهاجرون خارج لبنان كسائر أبناء الجنوب. وأذكر هنا حادثة حصلت في جويّا عندما احتلّها العدوّ الاسرائيلي للمرّة الأولى عام 1973 بعدما تعرّضت لقصف شديد، حينها دخل جنود العدو مركز المقاومة وقاموا بتفجيره، ما ألحق أضراراً بـ «سينما حمزة» التي خُلعت أبوابها، ثمّ انسحب العدو عند فجر ذلك اليوم. لكنّ الأستاذ حسن جشّي، وهو مدرّس في البلدة وكان من روّاد «سينما حمزة» ويقع منزله في أحد الزواريب خلفها، وقف صباح ذلك اليوم خلف باب داره بعد ليلة «متفجّرة»، يراقب ما حلّ بالبلدة ويعتريه الخوف، ثمّ ما لبث أن فتح البوّابة وخرج، فوجد الشيخ علي خانون جاره «الحيط بالحيط»، وهو من شعراء البلدة وأدبائها، قد خرج من داره أيضاً، فما كان من جشّي إلا أن أسرع باتّجاه الشيخ علي وضمّه إلى صدره وعانقه عناقاً طويلاً قائلاً: «يا شيخ كلّهم ماتوا، ما بقى في حدا غيري وغيرك»!! والجدير ذكره أنّه جرّاء ذلك الاعتداء سقط شهيدان من أبناء البلدة وخمسة جرحى.

بداية النهاية!
أعاد حمزة ترميم السينما، لكنّ جمهوره بدأ بالتناقص شيئاً فشيئاً، فتراجع وضعه الاقتصادي، لكنّ حمزة كان يملك أراضي وكروماً من الزيتون، وكان يحبّ الطبيعة ويهوى الصيد، وكان في حوزته بندقيّة صيد «جفت» من ماركة «طرزان» غالية الثمن، إضافة إلى كلبَي صيد. فأخذ يمضي جزءاً من أوقاته في الصيد خلال النّهار ويجلس في «سينماه» مساءً، ثمّ أدمن شرب الكحول وتراجعت هيبة «القبضاي»، وبدأ عصر التلفزيون وانتشر السلاح في البيوت كافّة وتدهور النظام في البلد!!…
حين بدأت الحرب الأهليّة عام 1975 بدأ انهيار السينما الجميلة في جويّا التي هاجر الجزء الأكبر من أبنائها نحو أفريقيا خوفاً من الحرب، وبدا حمزة مع سينماه كالخريف تتساقط أوراقه واحدة تلو الأخرى، ثمّ ما لبث أن أقفل السينما التي هُدمت جرّاء تعرّضها للقصف خلال الاجتياح الاسرائيلي لجنوب لبنان عام 1978، فعُزل حمزة في بيته وتوقّف عن شرب الكحول، وأمضى معظم أوقاته يتلو القرآن وأُصيب بمرض «ألزهايمر» ثمّ توفّي بصمت آخذاً معه سنوات جميلة من العصر الجميل في حياة البلدة.. ولم يبقَ من «سينما حمزة» سوى الذكريات.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى