محمد طرزي في “ميكروفون” الشخصيّة الصوريّة وتحوّلاتها

يعرف عن الرواية عمومًا أنّها الحاضنة للتفاصيل والوقائع والمشاهد التي تسمح للأحداث بخلق نوع من السجال أو التواصل بين القارىء والكاتب أو بين المتلقّي والشخصيّات، والحقّ أنّ وصف الروائيّ السوريّ حنّا مينا الرواية بأنها ديوان العرب، بدأ يترجم اليوم عبر بدء عدد من الشعراء وكتّاب القصص والمتحدّرين من عالم النشر والكتب بتدوين ذواتهم وأفكارهم وبناء مشاريعهم الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة في عالم النّص الروائيّ.

لم تبدأ الرواية العربيّة تتشكّل بالشكل الصحيح سوى بعد الحرب العالميّة الأولى، والرواية اللبنانيّة تجلّت بفطرتها وعفويّتها مع ثلّة من الروائيّين والروائيّات الذين سعوا إلى إيصال رؤاهم إلى العالم ووعيهم الممكن للقضايا عبر النّص المفتوح على عدّة سرديّات وأحداث، أمّا الرواية العامليّة- الجنوبيّة فقد امتزجت في أحايين كثيرة بفكرة المقاومة والأرض وتقاطعت مع سرديّات الروائيّين الفلسطينيّين بطبعها الكلاسيكي: غسّان كنفاني، يوسف السباعي، إلياس خوري، وما بعد الحداثة (ابراهيم نصرالله أنموذجًا).

أمّا محمّد طرزي (37 عامًا) فقد أخرج من خلال روايته “ميكروفون” الصادرة سنة 2023 عن الدار العربيّة للعلوم- ناشرون، الرواية اللبنانيّة العامليّة من حصريّة الحديث عن المقاومة والأرض والعدوان إلى دنيا الواقع الاجتماعيّ والديمغرافيّ الجنوبيّ اللبنانيّ المغيّب عن أيّ عمل أدبيّ ولا سيّما الرواية.

رواية “ميكرفون” الحائزة على جائزة كتارا للرواية

قدّم محمّد طرزي الفائز أخيرًا عن روايته “ميكروفون” بجائزة كتّارا عن فئة الرواية العربيّة المنشورة، وجائزة نجيب محفوظ رؤية سوسيولوجيّة واقعيّة سياسيّة لمدينة صور تتجاوز خارطة المدينة الجنوبيّة نحو كلّ مدينة عربيّة تعاني الظلم والاستبداد والفقر ومن مسلسل قتل الطموحات، وقد بنيت الرواية على نقطتين جوهريّتيْن على الأقل: بناء الشخصيّة الجنوبيّة الشابّة بأدوات إنسانيّة والنقد الاجتماعيّ السياسيّ للبيئة الجنوبيّة بلغة سرديّة سلسة لا تخلو من الترميز والتلميح.

الشخصيّة الصوريّة الشابّة وتحوّلاتها الانسانيّة

بدءًا من مطلع الرواية- وبمعزل عن الاستهلال أو التوطئة التي وضعها طرزي والتي تشير إلى الجماعة وضرورة تجاوز كواتم الصوت والثورة على الظلم والخوف- استطاع الكاتب أن يستقطب المتلقّي من خلال التفرّد بالصوت الروائيّ، أيّ جعل السارد عليمًا بكلّ الأحداث مستخدمًا ضمير الغائب للإشارة إلى سلطان الشخصيّة الجنوبيّة الصوريّة الشابّة التي تقاتل من أجل الهجرة إلى كندا بعدما يئست من التغيير أو الإصلاح في المدينة.

لم يكن سلطان بحدّ ذاته هو المستهدف سردًا، بل جيل بأكمله تقصّد الكاتب تلخيصه بشخصيّة تترنّح بين تكوين مبادئها والحفاظ على طموحاتها وأحلامها من جهة، والرضوخ إلى الواقع الذي يكرّر نفسه من جهة ثانية.

عمل محمّد طرزي على ربط سلطان بمفهومين: المغامرة والمدينة، فالمفهوم الأوّل الذي يرتكز على تبادل الأفكار أو الاحتكاك بنماذج اجتماعيّة وثقافيّة مغايرة أو حتّى اتّخاذ قرار بتغيير الأيديولوجيا التي بنى الفرد نفسه عليها شخصيّته وهويّته مستمدًّا المعايير من موروثات أسريّة وعائليّة عدّة، ولعلّ التحوّل الذي شهده صديق سلطان وبيته من الناحية الأيديولوجيّة والانتقال من الخانة الحزبيّة اليساريّة إلى الخانة الإسلاميّة الدينيّة ليكون الثمن هو الشهادة عن اقتناع، خير دليل على وجود أشكال جمّة من المغامرة.

قدّم محمّد طرزي الفائز أخيرًا عن روايته “ميكروفون” بجائزة كتّارا وجائزة نجيب محفوظ رؤية واقعيّة سياسيّة لمدينة صور تتجاوز خارطة المدينة الجنوبيّة نحو كلّ مدينة عربيّة تعاني الظلم

المدينة– المرآة

لم تكن المدينة في نظر محمّد طرزي مجرّد مكان أو مسرح للصراعات والتحوّلات الإنسانيّة بل مرآة تعكس ثقافة بأكملها، فتسليط الضوء على منطقة الخراب في صور حيث الخيم البحريّة للصيّادين والمطاعم والحارة القديم التي تمتزج فيها الثقافتان الدينيّة والتربوية المتباينة، نتحّدث عن الديانتين المسيحيّة والإسلاميّة، وعن التفاوت في الديانة الواحدة من ناحية الطائفة (الطائفتان السنيّة والشيعيّة).

توسّل محمّد طرزي من خلال إبراز التحوّلات والمتغيّرات التي طرأت على ظروف سلطان واحتكاكه بشخصيّات ثانويّة مثل الغانية والمحيط المجتمعيّ ككلّ أن يظهر حال المدينة، من الإهمال الانمائيّ، انقطاع الكهرباء والمياه، التلوّث، قمع الحرّيّات، ظواهر أشار إليها طرزي وجسّدها لتجعل من نصّه عدسة تظهر أسباب انتفاضة الشعب أو الشعوب اللبنانيّة، وهو ما دفع طرزي خلال تكريمه في منتدى صور الثقافي للإشارة إلى 17 تشرين (الأول)/ أكتوبر وميدانها ومدى قدسيّة هذه الحال الثوريّة اللبنانيّة بالنسبة إليه وبالنسبة إلى الرواية وشخصيّاتها.

جهد محمّد طرزي كي يجعل سلطان شخصيّة تمثّل مجتمعًا متخبّطًا يحتضن هويّات مختلفة تحاول التآلف بعضها مع بعض من دون جدوى، ما يجعل المدينة تألف الخراب وتتأقلم مع الفساد المستشرس.

النقد الاجتماعي السياسي للبيئة الجنوبيّة

اختار محمّد طرزي في روايته أن يجعل من المدينة بحالها الاجتماعيّة والسياسيّة وثيقة لانتقاد التراكمات والفساد المنتشر والذي كانت نتيجة خيارات المنطقة السياسيّة والانتخابيّة، ولعلّ الزيارة التي يقوم بها سلطان إلى صديقه ويلحظ فيها التغيير الجذريّ الذي أصابه وانتقاله وأسرته إلى ضفّة الإسلام السياسيّ المتمثّل بالمقاومة والذي رفع لواءها، يقودنا إلى إعادة نقد ما حملته هذه البيئة التي تشمل مدينة صور من مفهومين متناقضين، العمل السياسيّ ومقاومة المحتلّ، وكأنّ تنصلّ صديق سلطان وأسرته من الفكر اليساريّ يعكس اعتقاد بيئة بأكملها بأنّ المقاومة ذات ارتباط دينيّ بالدرجة الأولى.

في المقابل يتّسم البعد الأخلاقيّ الاجتماعيّ وكسر الأعراف من خلال العلاقة مع صاحبة الحانة وارتباطها بالجنس الذي يشكّل مهربًا لها ولسواها من المشكلات الاجتماعيّة المتراكمة كالفقر والتهديد بالحرب وانقطاع الكهرباء والطلاق وغيرها.

تمثّل صور الورقة الجغرافيّة التي خرجت بالرواية الواقعيّة من التباهي بالمقوّمات السياحيّة والتراثيّة وخرجت من منطق معالجة شؤون المدينة المحلّيّة وشجونها إلى عالم المشكلات الإنسانيّة المزمنة، وبالتالي فإنّ محمّد طرزي أراد جعل روايته تتكلّم بلغة الإنسانيّة، وهو ما منحها جائزتين لأنّها انطلقت من المعاناة المشتركة عبر الترميز واللغة السرديّة الواضحة غير المباشرة، وهو ما جعل من المدينة تخرج من بعدها المناطقيّ التقليديّ نحو البعد العالميّ المتماهي مع جعل العالم قرية كونيّة صغيرة تتشاطر فيها الشرائح البشريّة الهموم والتطوّرات والتحديثات.

تشكّل رواية ميكرفون كاتم صوت، نقطة تحوّل في مقاربة التفاصيل السرديّة في الرواية الواقعيّة العربيّة، وتتحرّر من المناطقيّة والقوميّات المصغّرة من ناحية نقد الأحوال الاجتماعيّة والسياسيّة التي تعاني منها الشعوب والتي تتمرّد فترة بعد أخرى من أجل التخلّص منها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى