معرض عادل قديح “منمنمات معاصرة” بموروثات إسلاميّة

تتمحور معظم أخطاء التواصل الجيّد والإيجابيّ حول خلط الخاص بالعام. فكم يكون محرجًا لطفلٍ أو طفلة أن تُوبّخه/ها أمّهُ/ها، وهذا بالطبع شأنٌ خاص، في مكانٍ عام، كحافلة نقل عام، كما حدث أمامي ذات مرّة. ولو اعتبرنا أنّ فنّ المنمنمات هو تقنيّة تخوّل الفنّان ولوج التفاصيل الصغيرة فلكونها مساحات خاصّة للعناصر البشريّة (وغير البشريّة) وزجّها في سجن المساحات العامّة.
اعتمد الفنّان عادل قديح بمعرضِه المُقام بغاليري Scap في الأشرفيّة من الـ 15 من أيّار (مايو) ولغاية الـ 13 من حزيران (يونيو) الجاري، تقنيّة المنمنمات، بوصفها من الموروثات العربيّة الإسلاميّة، وقد كسر بجرأته “التابو” الذي وضعته التقاليد الاجتماعيّة ذات الأذرع الدينيّة. والتابو الذي أقصد، لا يطفو على سطح الجسد العاري أو الهويّة الجنسيّة للرجل والمرأة الشرقيّين. بل مواضيع التقطها الفنّان من واقع مُعاش، لكنّه مسجون في مخيّلاتنا المريضة، وحمّلها صفة “معاصرة”.
منمنمات وزخارف
ظهر أقدم نموذج لهذا الفنّ نحو سنة 690 (ميلادي)، ثمّ تتطوّر بين عامي 1000 و1200. كان فنّ المنمنمات الإسلاميّة يعنى بالرسوم والرموز والزخارف الإسلاميّة العريقة التي نجدها محفورة في عديد من الآثار الإسلاميّة الشهيرة، فكلمة منمنمة تعني الرسوم والزخارف التي ترمز لشيء ما. وتمّ استخدام هذا الفنّ بغية توضيح وشرح نصوص معيّنة، وذلك عن طريق الصور والرسوم والزخارف، وكانت تتمّ الإستعانة بهذا الفنّ العريق لتزيين بعض الصفحات والأوراق المهمّة في هذه العصور وذلك عن طريق ما يسمى بالتصوير الإسلاميّ.
في الأغلب تشير الرموز والعلامات والزخارف إلى معنى ما، وتستخدم لتوضيح رسالة معيّنة أو نصّ معيّن، ويطلق البعض على هذا الفنّ اسم فنّ تزويق المخطوطات، لأنّه كان يستخدم بشكل كثيف في تزيين الأوراق والمخطوطات الهامّة، إذ مال الناس لتفريغ تلك الأشكال من المضمون، ليقدّروا قيمتها التقنيّة، جمالاً وزخرفةً.
أمّا الفنّان عادل قديح، فقد استخدم التقنيّة ليملأ موضوعاته المُستقاة من واقع حاليّ بعد أن ألبسه قناعَ الأحلام وقناع الأوهام أحيانًا، وفي أحيان أخرى ارتدت لوحاته (من أحداث الواقع) لباس الذكريات، لتظهر بمشاهد متحرّكة، فتحرّك الواقع في اللوحة على أمل الوصول إلى المُبتغى.
“أحلام عارية”
يتنقّل الفنّان بين العام والخاص، على نغمة الحسّ النقديّ، مُستخدمًا موهبته وفلسفته الفنّيّة ليعلن في أعماله عن حقّه في العيش كمواطن مُتّزن بمواطنيّته، وفي الوقت عينه، حقّ الوطن في أن يتبادل المواطنيّة مع أبنائه. ففي لوحة “أحلام عارية” (28.5 سم × 19.5سم) يظهر جسدان لامرأتين عاريتين، متعاكستين كما “الملكة” في ورق اللعب (الشدّة)، وليس التشبيه إلّا لفت نظر إلى بُعدنا عن الواقع في تقديرنا للمرأة. ويؤكّد ذلك وجود امرأة في الزاوية تميل إلى الأمومة الواعظة لبناتها لملامسة أجسداهنّ كفعلٍ محرّمٍ عليهنّ.
فالجسد بالموروث التقليديّ يُشكّل “تابو”، وقد أضاف الفنّان تابو آخر حرّمته الأديان وهو كلمة “حُلم” لأنّ الأحلام (المتعلّقة بالرغبة الجنسيّة بخاصّة) ممنوعة التحقيق في زمننا ومحتّمٌ عليها البقاء في دائرة الأحلام المستحيلة. لذا سأستعير كلمة حُلم لألفت الإشارة إلى جمعيّة حلم للمثليّين، فيصبح المستحيل من الواقع والدين والمجتمع. وتكمن أهمّيّة أعمال الفنّان في رحلتها التي تنتقد الأسطورة الدينيّة المحميّة من التاريخ والمجتمع، وهذا التواطؤ بين الدين والمجتمع يحتمي بصفة الموروث التاريخيّ ليدافع عن هويّة تتناسل مكوّناتها كي تعيد ترسيخ التعسّف الثقافيّ الشعبيّ فيصبح الفنّان المُبدع منبوذًا عند طرحه لأفكار غير مألوفة عند الجماعة.
“امرأة وحقول”
وفي لوحة “امرأة وحقول” (28.5×19.5) تظهر المرأة بملابسها وخلفها شجرة، فتُشير إلى انخراط المرأة في العمل، وبخاصّةً في المجتمع الريفيّ، الذي طالما ظلمها. ولكنّ الإشارة واضحة إلى حقّ المرأة في تلبية حاجتها الجنسيّة، وذلك من خلال تصوير امرأة عارية يمرّ فوق رأسها شريط يُظهر مجموعة رجال بوضعيّات توحي، ليس بالتحكّم بل بتبادل العلاقة العاطفيّة من خلال فتح اليدين بشكل مستعدّ للضمّ والاحتضان.
إنّ استخدام لغة- تقنيًّا- تُسهّل عمليّة النقد للجهة المطلوبة. فالظلم الواقع على المرأة نتيجة الموروث الدينيّ المجتمعيّ وصم المرأة في التاريخ بهويّة منقوصة. ومن الأحلام الموهومة، لوحة “أحلام موهومة” (28.5×19.5سم) ثمّة امرأة تداعب شعرها أمام رجل أشبه بأمير يجلس رافعًا يده كمن يقدّم وردة، يجلس في محيط وثير وفي مُخيّلته الأحلام الموهومة أزواج يهيمون في قُبلٍ تعكس سعادة من خلال ألوان زاهية.
والألوان الأزهى والأنصع تُفضي إلى العائلة المعاصرة لتُظهر أبًا وأُمًّا وطفلة تتودّد إليهما بحبّ من خلال ضم يديها. ثمّة طفل يلهو رافعًا راية السباق لخوض العالم، وهو يتميّز بلونه ورايته التي تتفوّق على الأشخاص المُتكرّرين، ليقول إنّ الولد ليس نسخة مُكرّرة عن غيره. إنّ أحلام العائلة ليست نسخة تقليديّة تواجه عنف الرجل الحامل فأسًا، بل العائلة أطفال يلعبون وينتجون أشياء مُلوّنة وجميلة.
“مدينة بلا ملامح”
أمّا المدينة التي تبدّلت ملامحها، فهي “مدينة بلا ملامح” (28.5×19.5سم) فتجدُ أفرادًا نساء ورجالًا ملّونين لكنّهم منفردين، كأنّهم بعيدون عن الحبّ الذي يبني عائلة جميلة. والعائلة في المنزل تتواصل مع العائلات في الخارج من خلال النوافذ “عائلة ونوافذ” (28.5×19.5سم). يستعرضُ الفنّان شؤون العائلة في حالاتها المأزومة وغير المأزومة من حالات حلزونيّة ( مدينة حلزونيّة) إلى تجلّيات (تجلّيات المدينة) إلى تقاطعات تلتقي في (تقاطعات المدينة) إلى لقاء الأحلام المٌتشابهة (أحلام نساء ورجال) إلى انتظار هبوب الفرح، إلى محاولة الانتفاض، وتصرخ أمرأة رافعة كفّ يدها وتقول: “يكفي”، وكأنّها تخاطب هموم الناس من قهرٍ وحزنٍ وغضب وخوف وهذا ما جسّدته الشخصيّات في اللوحة لتكون الـ “يكفي” صرخة الرفض.
في لوحة “مدينة بلا ملامح” (28.5×19.5سم) نجدُ أفرادًا نساء ورجالًا ملّونين لكنّهم منفردين، كأنّهم بعيدون عن الحبّ الذي يبني عائلة جميلة.
تترواح الرمزيّة في أعمال الفنّان بين التفاؤل والتشاؤم، وتحاكي الرموز الحياة الواقعيّة للإنسان. فالوردة المتفائلة تحوط المرأة العارية المنهمكة في حمل مسؤوليّة لا يشاركها فيها أحد؛ بينما تعزل جمالها وأنوثتها عن الرجال، لا بل عن الناس أجمعين، الذين يمرّون كشريط سينمائيّ محيط يحوطها.
“تفّاحة الحياة”
أمّا عن أسطورة التفّاحة، فيظهر في لوحة “تفّاحة الحياة” (28.5×19.5سم) رجلٌ يدفع التفاحة وآخر يحمل تفّاحة صغيرة وآخر يقضمها، كأنّه استخفاف بإغوائها، وأنا أقرأ وراء اللوحة الدعوة إلى توازن العلاقة بين الرجل والمرأة بعيدًا من الأساطير. فالمرأة حاضرة بجمالها الداخليّ والخارجيّ. وما العين التي تراقب الحراك “عين تراقب الحراك” (28.5×19.5سم) سوى تذكير بملاحظة الواقع من بعد، لأخذ الدروس والاستفادة منها للمستقبل. وترك بصمة جميلة محاطة بالأزرق السماويّ الذي يقضي إلى استقرار وحياة هادئة على الرغم من ألم المرأة وحزنها وخوفها “بصمة الحياة” (28.5×19.5سم).
في لوحة “السمكة رمز الحياة” (28.5×19.5 سم) تطفو السمكة على رغبات مكبوتة عند الرجل والمرأة اللذَين ينكفئان عن العلاقة الزوجيّة بانفراد يعكسُه تكوّر الجسد في رسمهما كُلٍّ على حدة. وجه أسد و”حراك بلا أفق” (28.5×19.5سم) لوحة تُظهر محاولة المرأة من خلال حملها “عصا” لمواجهة عنف الذكر (الأسد)، لكنّ عنوان اللوحة “حراك بلا أفق” يعلن عن عدم جدوى هذا الحراك، لكنّ المرأة اتّخذت فرار المواجهة بوجه المجتمع الذكوريّ.
“حمامة بلا سلام”
يدعو الفنّان المرأة (تحديدًا) وهي الطرف المظلوم إلى السلام المفقود رمزيًّا (حمامة بلا سلام) ومن خلال اللوحة تستفرد المرأة مع مساحة تسيطر عليها بحجمها الذي يفوق حجم الرجل. وتبقى مُحتفظةً بالمفتاح لتديرَه كيفما شاءت.
وأخيرًا يمكنني أن أستعرض “ذكريات شيخ” (28.5×19.5سم) كشريطٍ يمرّ فوق رأس العجوز المبتسم ابتسامة الحسرة على الماضي الجميل: حمامات السلام وغصن الزيتون، البنايات الجميلة والحقول المزروعة الملّونة السمك والقطّة… حسرة على حياةٍ فقدناها، ونتمنّى أن تستمرّ.
عادل قديح فنّان استخدم لغة من الموروث الفنّيّ الذي كان يُستخدم لتزيين المخطوطات الفارسيّة (المنمنمات)، ليقول إنّ فقدان الفنّ لغته الوطنيّة، لا يمنعنا من الإفصاح عن خواء مواضيع فنّيّة لنقد الواقع المرير. فالفنّ للمجتمع حتّى لو استخدم لغة ثقافيّة مغايرة. وهذا ما جعل المنمنمات القديمة “منمنمات معاصرة”.
وُلِدَ الفنان عادل قديح في النبطية جنوب لبنان في العام 1947. حصل على شهادة الدكتوراه من جامعة باريس الثامنة- سانت دنيس. وله خبرة في الرسم والنحت لأكثر من ثلاثين سنة. انجز ما يزيد عن ال1200 عمل فنّي.