عندما يصبح المنزل هدفًا وكبار السنّ رهائن التحذيرات الإسرائيليّة

يدوي الرصاص مخترقًا سكون الليل في الضاحية الجنوبيّة، نُدرك حينها أنّ “أفيخاي” (أدرعي الناطق باسم جيش العدو الإسرائيليّ) نشر على حسابه في منصّة X قائمة بالأهداف التي تنوي طائرات الموت الإسرائيليّة قصفها، مع تحذير سكّان تلك الأبنية (الأهداف المحدّدة وفق الخريطة) أو القريبة منها الابتعاد مسافة 500 متر عنها. لتنتظر بعدها تلك المباني مصيرها المحتوم، وهو تنفيذ حكم الإعدام على كلّ من بداخلها إذا لم يغادروا.

يهبّ الناس مسرعين، يحملون ما خفّ من أمتعتهم وأثقل من همومهم، يأخذون أوراقهم الثبوتيّة وقرشهم الأبيض الذي خبّأوه لمثل هذه الليالي السوداء المظلمة. لكن وبينما يتسابقون للهرب إلى ملاذ آمن، تبقى صرخات كبار السنّ والمرضى وذوي الاحتياجات الخاصّة مكتومة، محتجزة بين جدران لا ترحم، وخوف يرتسم على وجوه أنهكها العمر والمرض أمام تهديدات تلقي بظلالها على ما تبقّى من كرامتهم، وهم يواجهون خيارًا مستحيلًا: إمّا البقاء تحت رحمة القصف، أو محاولة الفرار بجسد لا يُسعف الروح.

في الطابق الرابع من بناية سكنيّة ببرج البراجنة، تتشبّث “أمّ رامي” بشاشة التلفاز؛ نافذتها الوحيدة على عالمٍ يشتعل، حولها يلتفّ أحفادها، ابنها وزوجته، متمسّكين بقرار البقاء إلى جوارها. هي “طاعنة في السنّ، تعاني كسرًا في الورك”، ما يجعل فكرة خروجها شبه مستحيلة، هكذا يصف “رامي” حال والدته لـ “مناطق نت” وبكلمات موجعة قائلًا: “جسدها ثقيل، تتحرّك بصعوبة، قدماها لا تقويان على حملها”.

يتابع: “كان من المستحيل تركها تواجه هذا الخوف وحدها، آثرت البقاء معها، على الرغم من قلقي على أطفالي الصغار، لكنّني طمأنتهم بأنّهم سيسمعون صوتًا يشبه صوت الرعد، لكنّ شدّة عصفه والرعب الذي رأيته في عيونهم سيبقى محفورًا في ذاكرتهم.”

نماذج من الانذارات التي ينشرها أفيخاي أدرعي (الناطق باسم جيش الاحتلال) ويدعو فيها الناس للمغادرة
لحظات صعبة عصيبة

لا تقلّ قصّة “رندة” من بلدة كفركلا مأسويّة عن قصّة أمّ رامي. تسكن رندة بمفردها في حيّ الجاموس، تعاني من شلل الأطفال منذ صغرها، وقد اعتادت تدبير يوميّاتها بمساعدة الناطور والأصدقاء. لكن هذه المرّة كانت مختلفة، تقول لـ “مناطق نت” بصوت يائس: “عندما سمعت صوت الرصاص، فقدت توازني وتركيزي، لم أعد أعرف ماذا أفعل؟ حملتني عكازاتي إلى المصعد، بعدما أصبح المبنى شبه خالٍ. خرجت بثياب النوم، أنتظر في أسفل المبنى أن يأتيني سائق التاكسي الذي أتعامل معه. اتّصلت بسائقين آخرين ولكن دون جدوى”.

تابعت رندة: “احترت ماذا أفعل، أترقّب الغارات في مكان قريب جدًّا، أنتظر يدًا حانية تمتدّ لمساعدتي، ولكن كلّ الأشخاص كانوا يحاولون النجاة بأنفسهم، والوصول إلى مكان آمن، بعدما تعذَّر وصول ابنة خالتي لمساعدتي بسبب الزحمة الخانقة التي أغلقت الطرقات”. تتنهّد رندة قائلة: “أنا أخاف كثيرًا، وفي ذلك الوقت سلّمت أمري لله وانتظرت في مكاني حتّى ينتهي هذا الكابوس. بقيت في مدخل المبنى حتّى الساعة الواحدة ليلًا، الله لا يعيد علينا هيك ليلة”.

بمواجهة الخطر الداهم

يكشف علم النفس أنّ الإنسان، في مواجهة الخطر الداهم، يقف على مفترق طرق حاسم: فإمّا أن تدفعه غريزة البقاء نحو الاندفاع الذاتي لحماية نفسه ومن يُحبّ، وهو ردّ فعل طبيعيّ يُفسّر تسارع البعض نحو النجاة الفرديّة، متجاهلين الآخرين في سعيهم للفرار من المجهول. وإمّا أن تُوقظ فيه تلك الشعلة الداخليّة التي تدفعه إلأى مدّ يد العون.

لذلك، نرى في هذه الظروف أشخاصًا يُجسّدون أسمى معاني الإنسانيّة. ذلك الجار الذي يبحث عن كبار السنّ ومساعدتهم على الخروج أثناء الإنذار، متجاوزًا خوفه الخاص، أو ذاك الشاب الذي ينقل الأطفال على درّاجته الناريّة ليتفادى بهم زحمة السير الخانقة، مُقدّمًا احتياجات الآخرين على حماية نفسه وغيرهم من المتطوّعين.

وعلى الرغم من هذه المبادرات القيّمة إلاّ أنّها لا تخلو من المخاطر، تقول أمّ مهدي حيدر من بلدة الخيام والتي نزحت إلى بيروت لـ “مناطق نت”: “أمّي وقعت خلال عمليّة الإخلاء وكسرت سلسلة ظهرها وبقيت في المستشفى إلى أن فارقت الحياة. لم تكن كبيرة في العمر، لكنّ حالتها الجسديّة والنفسيّة تراجعت بشكل كبير جدًّا بسبب التهجير المستمرّ الذي لم تستطع تقبّله، فكبار السنّ يتعلّقون ببيوتهم وأرضهم وتفاصيل يوميّاتهم”.

لهذا تبرّر أمّ مهدي بقاء كثيرين من كبار السنّ في الجنوب خلال فترة الاحتلال: “ما يفسّر أنّ ضحايا المجازر التي ارتكبها العدوّ الإسرائيليّ كانوا من كبار السنّ، مجزرة الخيام، مجزرة حولا، وغيرها”، تستدرك أمّ مهدي: “في حرب تمّوز (يوليو) 2006 أتذكّر كيف هرع شباب الدفاع المدنيّ والهيئة الصحّيّة لنقل كبار السنّ إلى بيروت، حتّى أصحاب سيّارات الأجرة والفانات كان يساعدون في عمليّة الإخلاء وهذا ما حصل أيضًا في الحرب الأخيرة حتّى أخليت البلدة بشكل كامل، ولكنّ هروبهم من الموت في بيوتهم لم يجنّبهم الموت في أماكن التهجير”.

يعاني أبو فادي من الألزهايمر وعند كلّ تحذير يتحمّل أولاده أعباء كثيرة لعدم سهولة إبقائه في السيّارة أو في مكان عامّ، ممّا يضاعف الضغط النفسيّ والجسديّ على العائلة

قصص ومآسي

يسكن أبو فادي حمدان من كفرملكي- قضاء صيدا في منطقة السان تيريز. يعاني أبو فادي من الألزهايمر وعند كلّ تحذير يتحمّل أولاده أعباء كثيرة لعدم سهولة إبقائه في السيّارة أو في مكان عامّ، ممّا يضاعف الضغط النفسيّ والجسديّ على العائلة بأكملها ويدفعهم في كثير من الأحيان للبقاء في البيت.

أمّا أبو شادي حطّاب من بلدة عربصاليم فيعيش في منطقة الرويس في ضاحية بيروت الجنوبيّة. يعاني أبو شادي من انخفاض في جهاز المناعة بسبب خضوعه للعلاج من مرض السرطان، لذا من الخطر أن يخرج من المنزل. تقول ابنته سناء لـ “مناطق نت”: “المُرّ أهون من الأمرّ” وأمام الخطر المحدق والخطر المؤجّل نختار التأجيل”.

في خضمّ هذه المعاناة المستمرّة، لا يملك كبار السنّ وذوو الاحتياجات الخاصّة في لبنان، وبخاصّة في هذه الأيّام العصيبة، سوى الانتظار المرير. انتظار قد يطول، ترقّبًا لـ “ابن الحلال” الذي قد يمدّ يد العون ويخفّف عن كثيرين قسوة الواقع.

على رغم الإشراقة الإنسانيّة التي تبرزها المبادرات الفرديّة في زمن الشدّة، فإنّ مسؤوليّة حماية الفئات الأكثر احتياجًا، من كبار السنّ وذوي الاحتياجات الخاصّة، تتجاوز بكثير نطاق هذه الجهود الفرديّة. وهي ليست مهمّة تُلقى على عاتق شخص واحد أو عائلة واحدة وحسب، بل هي عبء يقع على كاهل الجميع، على الأفراد في كلّ حيّ وشارع وعلى المجتمعات لتوفير شبكة أمان حقيقيّة وعلى المنظّمات الإنسانيّة لتضاعف جهودها لتلبية الاحتياجات المتزايدة، وفي صدارة الجميع، تقع المسؤوليّة الأكبر على الحكومة، التي عليها أن تضع حياة مواطنيها، وبخاصّة الفئات الأكثر ضعفًا، في صدارة أولويّاتها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى