الفضاء الرقميّ مسرح عنف جندريّ لخطاب الكراهيّة ضدّ النساء

في عصرٍ تشكّل فيه الشاشات امتدادًا لحياتنا وواقعنا الاجتماعيّ، ربّما لا تخلّف الكلمات جرحًا ظاهرًا، لكنّها تترك ما هو أعمق: زعزعة الثقة في النفس وإضعاف الشعور بالأمان، وتقييد الحرّيّة في الفضاء العام، خصوصًا بالنسبة إلى الفتيات والنساء لأنهنّ أكثر تعرّضًا وتأثّرًا بخطاب الكراهيّة الآخذ في التصاعد خلال السنوات الأخيرة.
وتُشير تقارير صادرة عن “هيئة الأمم المتّحدة للمرأة” و”منظّمة العفو الدوليّة” إلى أنّ النساء والفتيات، خصوصًا من ينشطن في الشأن العام أو يتبنّينَ آراءً سياسيّة أو نسويّة، يواجهنَ نسبًا عالية من العنف اللفظيّ الرقميّ مقارنةً بالرجال.
وكشف تقرير صادر عن “هيئة الأمم المتّحدة” العام 2021، أنّ هذا النوع من الخطاب يؤدّي إلى إسكات النساء، ويمنع كثيرات من المشاركة في الحياة العامّة أو التعبير عن آرائهنّ بحرّيّة. كذلك أفادت إحصاءات قوى الأمن الداخلي في لبنان أنّ 80 في المئة من ضحايا العنف الرقميّ بين عاميّ 2020 و2023 كنّ فتيات ونساء، ما يشير إلى تصاعد هذه الظاهرة المقلقة.
فمع اتساع وزيادة حضور المرأة اليوميّ على وسائل التواصل، لم تعد الكراهيّة تجاههنّ في حاجةٍ إلى سلاح وعنفٍ مادّيّ، بل يكفي منشور أو تغريدة أو تعليق يحمل في طيّاته تمييزًا أو احتقارًا، يستهدفها لمجرّد كونها امرأة.

وسائل التواصل أدوات للتهميش والإقصاء؟
غيّر التطوّر المتسارع الذي نشهده في مجال التكنولوجيا طبيعة الخطاب العام بخاصّة تجاه النساء. وأطلقت المنصّات الرقميّة العنان لأشكالٍ مختلفة من العنف المبطّن الذي يساهم في تهميشهنّ وإقصائهنّ. أيضًا يُضعف قيم المساواة ويكرّس التمييز ويُرسّخ صورًا نمطيّةً مسيئة في حقّهنّ، حتّى تحوّلت هذه المنصّات إلى مساحات يتصاعد فيها العنف والتشهير والتهديد بوتيرةٍ خطيرة.
إنّ الطابع التفاعليّ المباشر الذي يسيطر على البيئة الرقميّة، بالإضافة إلى إمكانيّة إخفاء الهويّة وطول مدّة الأرشفة، جميعها عوامل وفّرت تربةً خصبةً لازدهار خطاب كراهيّة ضدّ الفتيات والنساء يتجاوز حدود النقد إلى التحقير والتجريد من الإنسانيّة. وهي نتيجة طبيعيّة للسياقات الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة التي تُقلّل من قيمهنّ، وتعزّز التسلّط الذكوريّ.
لذلك، لا يمكن اعتبار خطاب الكراهيّة ضدّهنّ مجرّد مظهرٍ جانبيّ لحرّيّة التعبير، بل هو نظام متكامل يشرعن إقصاءهنّ ويروّج للعنف ويغذّي السلوكيّات المتطرّفة. فحين تُوجَّه إليهنّ نداءات عنصريّة أو تمييزيّة أو جنسيّة في هذه المساحة المكشوفة للعالم، لا يمكننا اعتبار الكراهيّة هنا كلمات عابرة أو مجرّد رأيٍ مغاير، بل منظومة من التهميش والاستضعاف التي تُمارس في حقّهنّ يوميًّا، وتمسّ كرامتهنّ وأمنهنّ وحرّيّتهنّ في التعبير والمشاركة.
حين تُغذي الخوارزميات الكراهيّة؟
في الفضاء الرقميّ، لم يعد ينتشر أيّ محتوى بسبب قيمته أو أهميته، بل تقرّر مدى انتشاره خوارزميّات تتحكّم في ما نراه على شاشاتنا. فمنصّات مثل “فيسبوك” و”إنستغرام” و”تيك توك” و”يوتيوب”، تعتمد خوارزميّات صُمّمت لتحفيز التفاعل وإبقائنا متّصلين بغضّ النظر عن طبيعة المنشورات، حتّى وإن كان ذلك على حساب الأمان الرقميّ أو الكرامة الإنسانيّة.
في حين يُفترض أن تُجسّد منصّات التواصل فضاءً حرًّا، إلّا أنّها في كثيرٍ من الأحيان تنقلب إلى مساحات ملوّثة بالتحريض والتمييز، والوصم القائم على النوع الاجتماعيّ.
في هذا السياق، أصبح المحتوى الاستفزازيّ الذي يثير الغضب أو الجدل أكثر جذبًا للخوارزميّات من أيّ مضمونٍ آخر، لأنّه ببساطة يخلق تفاعلًا أكبر. وهنا تكمن المفارقة الخطيرة: التحريض والتمييز والكراهيّة أصبحت موادّ مُربحة بالنسبة إلى هذه الوسائل، ومخيفة وخطيرة بالنسبة إلى الفتيات والنساء.
هكذا، حين يكتب أحد المستخدمين تعليقًا عنصريًّا أو مسيئًا ضدّ المرأة، يثير تفاعلًا، سواء بتأييد هذه المنشورات أو رفضها، فيُقرأ من قبل الخوارزميّة على أنّه محتوى ناجح. وتبدأ المنصّة تلقائيًّا بتوسيع نطاق انتشاره من دون النظر إلى أثره أو ضرره، لأنّه يخدم هدفها الأساسيّ: إطالة زمن التصفّح وزيادة الإعلانات.
فهذه الخوارزميّات تعمل من خلال تحليل النقر، والإعجاب بالمنشور ومشاركته والتعليق عليه. ولا تميّز بين التفاعل الإيجابيّ والسلبيّ لأنّ كليهما يعني اهتمامًا بالمحتوى، ولأنّ الجدل في حدّ ذاته يُعدّ نجاحًا بالنسبة إلى المنصّة التي نشرته.
آليات التضليل والكراهيّة الرقميّة
في حين يُفترض أن تُجسّد منصّات التواصل فضاءً حرًّا، إلّا أنّها في كثيرٍ من الأحيان تنقلب إلى مساحات ملوّثة بالتحريض والتمييز، والوصم القائم على النوع الاجتماعيّ.
فيتحوّل خطاب الكراهيّة إلى رسائل عدائيّة يُعاد إنتاجها لتبدو وكأنّها رأي عامّ، بينما هي في الحقيقة نتيجة عمل تكنولوجيا منحازة بطبيعتها نحو كلّ ما هو موضع تجاذب حادّ، ويُصبح صاحب هذا الخطاب صانع محتوى “ناجح”!
أمّا الفتيات والنساء فيُصبحن أهدافًا مكشوفة أمام ملايين من المتحرّشين والمحرّضين. ويتعرّضن إلى مستويات مختلفة من العنف الرقميّ، تبدأ بالتهكّم والشتائم ولا تنتهي بالتهديد بالقتل والاغتصاب.
وتزداد حدّة هذه الخطابات حين تكون النساء ناشطات أو صحافيّات أو نسويّات، يُستهدفن بسبب هويّاتهنّ وآرائهنّ. فالحملات المنظّمة ضدّهنّ و”التريندات” التي تعكس طابعًا تحريضيًّا أو تحقيريًّا في حقّهنّ، تشكّل نمطًا يتكرّر مع غياب المحاسبة الرقمّية وضعف التشريعات المحلّيّة.
وتستخدم خطابات الكراهيّة ضدّ الفتيات والنساء أدوات مثل الحسابات الوهميّة، وبرمجيّات الروبوت والتلاعب بخوارزميّات النشر، لزيادة مدى الانتشار وخلق تربة خصبة للتنمّر الإلكترونيّ والدعوة الصريحة إلى العنف. وفي بيئةٍ كهذه، تغدو حرّيّتهنّ مهدّدة فعليًّا ليس فقط بسبب العنف، بل بسبب الطابع البنيويّ لهذا النظام الذي يُعيد إنتاج التمييز بصيغ مغلّفة بلغة السوق والتفاعل.
الثمن الخفيّ لخطاب الكراهيّة
يتجاوز تأثير خطاب الكراهيّة الفضاء الافتراضيّ ولا يترك أثره على الشاشة وحسب، بل يتسلّل إلى دواخل الفتيات والنساء ليزرع الخوف في نفوسهنّ ويُغذّي العزلة. ويمتدّ ليصيب صحّتهنّ النفسيّة، فيعشن تحت وطأة الخوف من الاعتداء الرقميّ أو فضح الهويّة.
ويُظهر تقرير صادر عن منظّمة “الأمم المتّحدة” في العام 2021، أنّ 73 في المئة من النساء تعرّضن لنوع من العنف الرقميّ، نصفهن تقريبًا شعرن بتأثيره على صحّتهنّ العقليّة والنفسيّة ورفاهيّتهنّ الشخصيّة.
أشارت دراسة أجرتها جامعة “ستانفورد” العام 2021، إلى أنّ الفتيات والنساء المعرّضات إلى خطاب الكراهيّة يكنّ أكثر ميلًا إلى الانسحاب من المشاركة الرقميّة، ما يؤدّي إلى انكماش تمثيلهنّ في النقاشات العامّة والسياسيّة
وتتحدث كثيرات ممّن تعرّضن إلى هجماتٍ إلكترونيّة، عن شعورهنّ الدائم بالتوتّر والتهديد، وربّما يصل الأمر أحياناً إلى ظهور أعراض اكتئاب، اضطراب قلق مزمن، شعور مستمرّ بالذنب، تقلّبات مزاجيّة، اضطراباتٍ في النوم وفقدان الاهتمام والثقة في النفس. وفي بعض الحالات، ينتقل الخطر من العالم الافتراضيّ إلى عنفٍ فعليّ يُمارس على الأجساد، وليس عبر الكلمات أو من وراء الشاشات فقط.
ويُستخدم هذا الخطاب للتشكيك بمصداقيّتهنّ أو حتّى سلوكيّاتهنّ، ما يدفع كثيرات إلى إغلاق حساباتهنّ على هذه المنصّات بالكامل، أو تجنّب النشر أو حتّى تغيير الهويّة الرقميّة أحيانًا. وهي سلوكيّات تعكس استجابات شائعة يلجأن إليها لمحاولة حماية الذات، لكنّها في الوقت نفسه تُتَرجم كتراجع قسريّ عن مشاركتهنّ في هذه المساحة الافتراضيّة.
وأشارت دراسة أجرتها جامعة “ستانفورد” العام 2021، إلى أنّ الفتيات والنساء المعرّضات إلى خطاب الكراهيّة يكنّ أكثر ميلًا إلى الانسحاب من المشاركة الرقميّة، ما يؤدّي إلى انكماش تمثيلهنّ في النقاشات العامّة والسياسيّة.
حماية النساء من الكراهيّة الإلكترونيّة
أمام ما تُخلّفه الكراهيّة الرقميّة من جراح وآثار عميقة، أصبحت حماية الصحّة النفسيّة للفتيات والنساء في العالم الافتراضي شرطًا أساسيًّا للعدالة والمساواة في التعبير في هذا الفضاء، وحقًّا لا يُمكن اعتباره ترفًا أو اختزاله خلف الشاشات.
هنا، يصبح السكوت تواطؤًا والتهاون خطرًا مضاعفًا، ولم يعد يكفي التنديد بهذا الخطاب المُدمِّر، بل لا بدّ من تعزيز الدعم النفسيّ الرقميّ عبر منصّات آمنة تراعي الخصوصيّة وتمنح الفتيات والنساء مساحة للبوح والتعافي.
لذلك، برزت الحاجة الملحّة إلى تشريعات صارمة تُجرّم العنف الرقميّ القائم على النوع الاجتماعيّ، وتُلزم شركات التكنولوجيا بتحمّل مسؤوليّاتها في حماية المستخدمين، وضمان المشاركة المتكافئة.