كوكب الترند والبحث عن الانتماء: كيف نلبس ليحبّنا الناس؟

لم يكن اللباس يومًا مجرّد قماش يُغطّي الجسد، بل مرآة لهويّة الفرد وانتمائه، وأحيانًا كثيرة، طموحه. في العام 1926 كتب جبران خليل جبران: “لا تجعل ثيابك أغلى شيء فيك، حتّى لا تجد نفسك يومًا أرخص ممّا ترتدي”. في زمنٍ كانت فيه العباءات الفضفاضة والشروال القرويّ رمزًا لأصالة المناطق، فيما تسلّلت البدلات الأوروبّيّة إلى شوارع بيروت وزحلة وطرابلس، معلنةً بداية زمن جديد.

لكن بين تلك المرحلة واليوم، تغيّرت دلالات اللباس، لا بل انقلبت. ففي عصر السوشيال ميديا، لم يعد الستر هو القصد، بل “الستايل”. وهج جبران خفت، ليعلو صدى مقولة المصمّم جورجيو أرماني: “الأناقة ليست في أن يراك الناس، بل في أن يتذكروك”. فصار الـ”Oversized” اختيارًا واعيًا، والـ”Bohemian style” لا يشي بالفقر بل بحرّيّة الذات.

كيف نقرأ هذه التحوّلات؟ وكيف صارت الثياب جزءًا من صورة يطاردها الشباب، لا مجرّد تعبير عن ذوق؟ وهل ما نرتديه اليوم يعكس ما نحن عليه فعلًا… أم ما نطمح أن نكونه؟

تحوّلات ما بعد الحرب

في الماضي، كانت ملابس النساء تعكس نمط الحياة والتقاليد السائدة، خصوصًا في المناطق الريفيّة حيث كانت العباءات الواسعة والقُمصان القطنيّة الفضفاضة هي الطابع الأساسيّ. هذا الزيّ لم يكن فقط عمليًّا، بل أيضًا رمزًا للاحتشام، بما يتناسب مع طبيعة الحياة اليوميّة في الريف، بعيدًا من المبالغة أو الإسراف.

المصدر: مجلة العالم

أمّا في المدن الكبرى كبيروت وطرابلس، فقد تأثّرت الموضة بالتيّارات الأوروبّيّة، فانتشرت البدلات الرسميّة والفساتين الأنيقة ذات الطابع الغربيّ. على رغم أنّ هذه الملابس حملت طابعًا أكثر فخامة ورقيًّا، إلّا أنّها كانت تحافظ على توازن بين الراحة والأناقة، دون أن تصل إلى حدّ التكلّف أو المبالغة.

بعد الحرب العالميّة الثانية ومع بداية دخول المرأة إلى سوق العمل، بدأت الموضة تأخذ منحى جديدًا قائمًا على العمليّة والراحة. انتقل التركيز إلى الأقمشة المرنة مثل القطن والبناطيل التي تسمح بحرّيّة الحركة، لتلبّي حاجات المرأة العاملة بعيدًا من القيود القديمة. أصبحت الملابس أكثر بساطة وأكثر تناسبًا مع الحياة اليوميّة، ممّا ساعد في كسر الحواجز الاجتماعيّة وجعل الموضة في متناول الجميع.

يشير مصمّم الأزياء اللبناني طارق خيرالله في حديث إلى “مناطق نت” إلى أنّ “بعض التصاميم تزيد من أهمّيّة شخصيّة المرأة وتصاميم تقلّل من شخصيّتها”. اليوم، تحافظ الموضة على خطوطها الأساسيّة، لكن تتغيّر التفاصيل من موسم إلى آخر، سواء في القصّات أو الألوان، لتصبح أداة تعبير شخصيّة. تزداد اليوم شعبيّة القصّات التي تبرز الخصر والورك، مثل الكورسيهات، التي تمنح المرأة إحساسًا أكبر بالثقة في النفس، ضمن مزيج متوازن بين الراحة والأناقة.

اللباس كلغة جيل

في كلّ زمن، كانت ملامح الجيل تنعكس على ملبسه، فتفضح تطلّعاته وتكشف هواجسه. وإذا كانت الثياب يومًا تعكس الانتماء الطبقيّ أو المناطقيّ، فإنّها اليوم تلبّي رغبة دفينة في الظهور، لا بوصفها احتياجًا وظيفيًّا، بل بوصفها أداة لبناء “الصورة”. لم تعد الملابس تغطّي الجسد وحسب، بل باتت تحمل معه السرديّة التي يودّ صاحبها روايتها عن نفسه.

في الماضي، كان الشاب يختار ثيابه بحسب ما يتاح له، لا بحسب ما يريده. كانت السراويل الواسعة والقماش الثقيل ضرورات يوميّة، تعكس طبقات اجتماعيّة وبيئات ريفيّة أو مدينيّة لا تهتمّ كثيرًا بالتفاصيل الجماليّة بقدر ما تركّز على المتانة والستر والراحة. أمّا ملامح الوجه، فقد كان يُنظر إلى تهذيب اللحية مثلًا بوصفه ضرورة مرتبطة بالنظافة الشخصيّة، أو بمتطلّبات بعض المهن أو الانتماءات الدينيّة، ولم يكن يرتبط بالموضة أو بالهويّة البصريّة.

في السنوات الأخيرة، تغيّر كلّ شيء، صارت الثياب “هويّة مرئيّة”، والاهتمام بالشكل هو الطريق الأسرع للفت الانتباه. صار الشاب المعاصر يصنع لنفسه “Image”، يتعب عليها، يبنيها بحذر، مستلهمًا رموزًا من ثقافة البوبّ، من مغنّي رابّ أو لاعب كرة. ظهر نوع من التشابه بين الشباب، كما لو أنّ الجميع يحاول أن يكون نسخة محسّنة من نموذج واحد يتكرّر: القميص الضيّق الذي يبرز العضلات، البناطيل القصيرة الضيّقة، القلادة المصنوعة من الخرز، أساور الجلد، ساعة “الديجيتال”.

في السنوات الأخيرة، صارت الثياب “هويّة مرئيّة”، والاهتمام بالشكل هو الطريق الأسرع للفت الانتباه. صار الشاب المعاصر يصنع لنفسه “Image”، يتعب عليها، يبنيها بحذر

حتّى اللحية، تحوّلت من سمة شخصيّة إلى خيار بصريّ مدروس. في السابق، انتشرت اللحى الطويلة بوصفها رمزًا للتمرّد، ثمّ أخذت تتراجع لصالح أنماط محسوبة بعناية، تُرسم وتُقصّ بحسب ما يرتديه وجه أحد المشاهير، فصار الشاب يتّبع خطّ اللحية نفسه الذي يعتمده فنّان معيّن، تمامًا كما يتّبع قصّة شعره أو طريقته في تنسيق ملابسه.

وما يغيب عن هذه الصورة أنّ هذا “الاتّساق الظاهريّ” لا يعكس بالضرورة فردانيّة أو حرّيّة، بل ربّما يدلّ على بحث جماعيّ عن الانتماء، عن القبول، عن نموذج يُحتذى ويمنح صاحبه شعورًا بالأمان البصريّ وسط عالم سريع ومتقلّب. وبينما تغيّرت معايير الجمال، ظلّ القلق من الانطباع الأوّل كما هو، بل تضاعف، فتقنيّات “إظهار الذات” اليوم باتت أكثر تعقيدًا وتشابكًا، تبدأ من الثياب، وتمرّ بتسريحة الشعر، وتصل إلى طريقة المشي واستخدام اليدين وحتّى طريقة النشر على إنستغرام.

ملامح وتصاميم متشابهة

لطالما ارتبطت خيارات المشاهير في اللباس بفِرَق متكاملة من المصمّمين الذين يعتنون بأدقّ تفاصيل الإطلالة، إذ يُبذل جهد كبير لتصميم ما يثير إعجاب النجم ويمنحه التفرّد، ما يرفع من قيمة الموديل ويمنحه صفة “الحصريّة”. غير أنّ هذه الفخامة لم تعد حكرًا على النخبة. فاليوم، وبحسب المصمّم اللبنانيّ طارق خيرالله، الذي عمل مع عدد من الأسماء البارزة في عالم الفنّ كهيفاء وهبي، وردة الجزائريّة، زينب ديزدار وشاكيرا، أصبح بالإمكان تقليد التصاميم خلال أيّام قليلة، وبيعها بأسعار زهيدة بسبب التسارع في الإنتاج والنسخ.

هذا التطوّر وضع المستهلكين تحت ضغط دائم للّحاق بالتجدّد، وفرض على الناس، خصوصًا الشباب، هاجس الظهور وفق “الموضة السائدة”. يعلّق خيرالله في هذا السياق: “لا تهتمّوا بما هو رائج، المهم أن تختاروا ما يليق بكم ويعبّر عن شخصيّتكم”.

لكنّ هيمنة الترندات لم تقتصر على المشاهير. إذ يشكّل نجوم مواقع التواصل الاجتماعيّ اليوم نموذجًا متكرّرًا، بملامح وتصاميم متشابهة، يفرضون على متابعيهم أنماطًا جاهزة من الذوق والمظهر، ما جعل “تحقيق المعايير” هاجسًا مشتركًا. تقول لونا ماجد (21 عامًا) في حديث إلى “مناطق نت”: “للجمال والشكل والملبس معايير شبه موحّدة بحسب الترند، وكلّ من لا يطابق هذه المعايير يُعتبر خارج الزمنً.

وتضيف لونا: “لم يعد هناك فرق واضح بين الفتاة المحجّبة وغير المحجّبة سوى غطاء الرأس، إذ باتت الموديلات المعتمدة متشابهة إلى حدّ كبيرً. وهو ما يظهر بوضوح في المدن حيث تنتشر نماذج “المحجّبة الموديل” على مواقع التواصل، مقابل أساليب أكثر تقليديّة في القرى، إذ تغلب الملابس الطويلة والفضفاضة أحيانًا.

لا تتوقّف هذه المعايير عند حدود الثياب، بل تمتدّ إلى ملامح الوجه والجسد. فقد بات الأنف الصغير، العيون الملوّنة، الخدود الممتلئة والشفاه البارزة جزءًا من القالب الجماليّ المطلوب، سواء للنساء أو حتّى للرجال. عن تجربتها مع عمليات التجميل، تقول لونا، التي خضعت لعمليّة تعديل في الأنف: “أنا ضدّ التجميل الذي يغيّر الملامح، لكنّني مع إجراء بعض التعديلات إذا كانت المشكلة تؤثّر في ثقة الشخص بنفسه، شرط ألّا يتحوّل الأمر إلى هوس”.

الجسد جزء من الذوق

لا تقتصر معايير الشكل اليوم على اختيار الملابس أو مواكبة الموضة وحسب، بل تتعدّاها إلى العناية الدقيقة بالجسد، ما يسلّط الضوء على النوادي الرياضيّة كجزء من ثقافة “الذوق المعاصر”. لقد أصبح الذهاب إلى النادي الرياضيّ أو الـ”Gym” معيارًا من معايير الجاذبيّة الشخصيّة، إذ تُعتبر القامة الممشوقة والعضلات والبنية المتناسقة والمشية الواثقة من مؤشّرات الجمال السائدة في هذا العصر.

في أروقة النوادي الرياضيّة، تحضر الموضة كعنصر أساسيّ. باتت ملابس التمرين تخضع هي الأخرى إلى قواعد الأناقة، إذ يطغى اللونان الأسود والأحمر على ملابس الرياضة، وتنتشر بين الفتيات سراويل الـ”Legging” المرفقة بقمصان واسعة من نوع “Oversized T-shirts”، ما يجمع بين الراحة خلال الحركة والامتثال للمظهر العصريّ.

لكنّ أثر المظهر لا يقتصر على الجسد أو على الحياة الشخصيّة. في سوق العمل، صار الشكل جزءًا من أدوات التقييم غير المُعلنة. إذ تُؤخذ الأناقة الشخصيّة بعين الاعتبار خلال مقابلات التوظيف، في عمليّة تُخضع المظهر الخارجيّ للمعايير نفسها التي تُخضع لها المهارات المهنيّة.

عمر (وهو اسم مستعار) يروي لـ”مناطق نت” تجربته حين تقدّم إلى وظيفة في مجال التصميم الغرافيكي، فيقول: “في خلال المقابلة، لاحظت أنّ المسؤول يمعن النظر في ملابسي غير المتناسقة، وأشعرني ذلك بأنّه غير مقتنع بكفاءتي، على رغم خبرتي الطويلة”.

حين تتحول الموضة إلى هويّة

في هذا السياق، لا يمكن فصل الجمال عن رمزيّته الاجتماعيّة. فالذوق العام، وإن بدا خيارًا شخصيًّا، يعكس مفاهيم الانتماء، والتميّز، والنجاح، ويؤثّر في نظرة الآخرين إلينا، سواء في الشارع أو داخل مؤسّسات العمل. الموضة، إذًا، ليست مجرّد مظهر… بل خطابٌ معلن عن الذات.

على صعيدٍ موازٍ، تلعب الشركات العابرة للقارّات والدعاية والتسويق دورًا محوريًّا في تشكيل هذا الخطاب. فالموضة لم تعد محصورة بالملابس أو تسريحات الشعر أو الإكسسوارات، إنّما تحوّلت إلى نمط حياة كامل، قائم على الإرشاد والتوجيه، إذ صار لكلّ شخص تقريبًا مدرّب أو “Coach” ودليل وخارطة طريق.

في هذا الإطار، تقول د. رباب دبس، الباحثة في علم الاجتماع والأنثروبّولوجيا، خلال حديث خاص لـ”مناطق نت”: “لقد أصبح ‘الترند‘ هوسًا للفئات الشبابيّة التي تسعى إلى التفرّد والتميّز، من خلال بناء ما يُعرف اليوم بـ”الصورة” أو الـ Image”.

د. دبس: لقد أصبح “الترند” هوسًا للفئات الشبابيّة التي تسعى إلى التفرّد والتميّز، من خلال بناء ما يُعرف اليوم بـ”الصورة” أو الـ Image”

هذه الصورة ليست فقط ما نراه على وسائل التواصل، بل ما يُراد لنا أن نكون عليه. في عالم سريع التحوّل، تُستبعَد كلّ نسخة خارجة عن “الترند”، وتُعتبر قديمة، منسيّة، أو غير مواكِبة. فتتكرّس مقولة ديكارت “أنا أفكّر إذًا أنا موجود”، في صيغة معاصرة: “أنا أتّبع الترند، إذًا أنا موجود”.

تشير دبس إلى أنّ “سلوكيّات الشباب اليوم تعبّر عن رغبة في إشباع الميول والرغبات والأهواء عبر تكريس صورة معيّنة، تصبح بمثابة بطاقة هويّة معلّقة على الجسد”.

ومع صعود الفردية وتراجع التقاليد الشعبيّة والاجتماعيّة، ظهرت قيم جديدة للرجولة والأنوثة والجاذبيّة، تضع الصور القديمة في مواجهة مستمرّة مع ما هو معاصر. تتابع دبس: “هذا الالتباس يظهر في تمثيلات الجسد وكسوته ونحته، إذ يسعى الشباب إلى التفرّد والتمايز وسط عالم متغيّر وسريع يهدّد كل ما هو ثابت”.

الجسد مساحة للتعبير؟

تعكس الصورة اليوم، بجماليّاتها وتكوينها، مشهدًا هجينًا من الأفكار السياسيّة والاجتماعيّة والعاطفيّة، إذ يتحوّل الجسد إلى مساحة للتعبير، إلى ملصق رمزيّ يعجّ بالدلالات. في هذا الإطار، تقول الدكتورة دبس، مستشهدة بعالم الاجتماع الفرنسيّ دايفيد لوبروتون في كتابه “أنثروبّولوجيا الجسد والحداثة”: “صورة الجسد باتت أشبه ببوتقة قريبة جدًّا من الملصقات السرياليّة”.

وتُعلّق دبس: “يأتي هوس الفئات الشبابيّة بنفخ عضلات الذراعين والصدر بشكل لافت وكبير، كقوّة تعويضيّة عمّا فقدته صورة الرجولة من ثبات. فهذه الصورة باتت اليوم متذبذبة، متأرجحة بين تقاليد قديمة وترندات عابرة”.

تتوسّع تمثّلات الجسد لتشمل عناصر أخرى تتكامل في بناء “الصورة” المعاصرة. الأوشام، مثلًا، لم تعد مجرّد زينة، بل تحمل اليوم رموزًا سياسيّة، أقوالًا عاطفيّة، خرائط وطنيّة، واقتباسات فلسفيّة. أمّا تسريحات الشعر، وتحديد الذقن، فتندرج ضمن محاولة واعية لبناء صورة توحي بالوسامة، والهيبة، وأحيانًا بالغموض.

هكذا، يتحوّل الجسد إلى بيان مرئيّ، يتكلّم من دون صوت، ويقول عن صاحبه ما لا يُقال، أو ربّما، ما يُراد قوله بأبلغ الطرق.

الموضة بابعاد نفسيّة واجتماعيّة

في سياق متّصل، لا تحمل الموضة دلالات جماليّة وحسب، بل تتجاوزها إلى أبعاد نفسيّة واجتماعيّة. فاللباس، كما يوضح الخبير في مجال الترويج والتواصل كارلو جليان في حديثه لـ”مناطق نت”، هو وسيلة ترميز قويّة: “البدلة الرسميّة ترمز إلى الجدّيّة والسلطة، بينما الملابس الفضفاضة ربّما تشير إلى التحرّر أو الانتماء إلى ثقافات فرعيّة”.

يرى جليان أنّ الموضة ليست مجرّد اختيار شخصيّ، إنّما “قوة ناعمة تتحرّك بخفّة بين الأفراد والمجتمعات، تتحكّم في الذوق العام، وربّما تمثّل وسيلة للهيمنة والتوجيه الاجتماعيّ”.

يتابع جليان: “الخطر لا يكمن في الاعتناء بالذات، بل في أن يُصبح هذا الاعتناء قناعًا يطمس المعاناة النفسيّة، الاعتناء الخارجي يصبح صحّيًّا عندما يُبنى على أساس من الغنى الداخليّ، والاتّصال الحقيقيّ بالذات والطبيعة”.

لكنّ هذه “اللغة” البصريّة ليست ثابتة، بل تتحرّك بنسق دائري يشبه النَّفَس: تنفتح، ثم تنكمش. فالموضة، وإن بدت دائمًا في موقع التقدّم، إلّا أنّها في جوهرها لا تمضي قدمًا بقدر ما تدور.

دورة العودة إلى البدايات

بعد موجات متلاحقة من اللباس الضيّق، والقصّات الجريئة، والعري المفرط أحيانًا، بدأ الجيل الجديد، خصوصًا الـGen Z، يميل إلى اللباس الفضفاض والواسع. هذا التوجّه لا ينبع من الميل إلى الراحة أو من رفض قواعد الجمال الضاغطة وحسب، بل يأتي كحركة مقاومة لما يمكن تسميته “التعب البصريّ” الناتج عن استهلاك الصورة إلى أقصاها.

العودة إلى هذا الشكل من اللباس لا تمثّل تغييرًا في الذوق فقط، وإنّما تُعيد التذكير بأنّ الموضة، على رغم سرعتها الظاهرة، تظلّ دائمًا على صلة بجذورها. وكأنّها كلّما ذهبت بعيدًا في الجرأة والكشف، تُجبَر على العودة إلى نقطة البداية، بحثًا عن توازن جديد.

في هذا التكرار، تكمن قوّة الموضة وضعفها في آنٍ معًا: فهي تجدّد نفسها، لكنّها لا تخرج أبدًا من نفسها. هكذا، تبدو الموضة حركة مجتمعيّة ونفسيّة معقدة، تعكس قلق الفرد وتوقه إلى الانتماء، ورغبته في التفرّد، وحنينه الدائم إلى البدايات، وليس مجرّد زينة أو تعبير عن ذوق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى