حروب الصهاريج في الضاحية.. ترسيم مائي بالنار

ليس جديدًا مشهد صهاريج بيع المياه وهي تتجوّل على الطرقات وبين الأزقّة، سواءً في بيروت أو بقيّة المناطق ومنها الضاحية الجنوبيّة، إذ أصبح ذلك عاديًّا وجزءًا من المشهد العام، وهذا إن عكس شيئًا فإنّه يعكس نسبة الناس المرتفعة المحرومة من مياه “الدولة” فتلجأ إلى تعويض ذلك إلى أصحاب الصهاريج لتأمين مياه الخدمة، إذ تحوّل قسم منهم (بخاصّة في الضاحية) إلى “مافيات” تتحكّم برقاب الناس وتبتزّهم بحاجتهم إلى المياه، سواء من خلال احتكار بيعها في أحياء معيّنة، أو لناحية سعر البرميل ونوعيّة المياه.

الماء وشهيّة التجّار

أدّى الانقطاع المتكرّر لـ “مياه الدولة” بسبب الجفاف ولفترة أطول من المعتاد، إلى ازدياد الطلب على مياه الخدمة من أصحاب الصهاريج في ضاحية بيروت الجنوبية، الأمر الذي فتح شهيّة هؤلاء لزيادة أرباحهم، فرفعوا الأسعار، ورسموا حدود المناطق، ووضعوا جداول بأسماء زبائن دائمة الطلب، والبعض منهم ثبّت “نباريش” (خراطيم مياه) خاصة به على المباني توفيرًّا للوقت، وكي يحجز الزبائن له، وبذلك يمنع عليهم طلب المياه من أيّ تاجر آخر وإلّا ستقع المشاكل.

تجول صهاريج نقل المياه في طرقات الضاحية الجنوبيّة بشكل يوميّ، بعضها مهترئ تنساب من خزّاناتها المياه على الطرقات، وأخرى حديثة مزوّدة بأكثر مولّدات الضخّ (موتورات) سرعة وتطوّرًا. مشهد اعتاد عليه الناس في الضاحية لكنّه يعكس أزمة انقطاع مياه حادّة، ويظهر حاجة الناس الدائمة لتأمين مياه الخدمة بأيّ شكل وسعر، فتجد الناس نفسها أمام استغلال تجّار مياه الخدمة ممّن تجمعهم “غروبّات الواتساب”، ينظّمون من خلالها خلافاتهم ويعقدون الصفقات والتسويات.

مشهد صهاريج المياه في الطرقات أصبح عاديًا
هيمنة مائيّة وتقسيم النفوذ

تشكّل المشاريع السكنيّة اليوم، ساحة صراع مفتوحة بين أصحاب صهاريج المياه، إذ تُعدّ من أكثر المناطق تنافسًا بينهم. إنّ دخول صهريج جديد إلى أحد هذه المشاريع كفيل بإشعال خلاف ربّما يتطوّر إلى تبادل إطلاق النار، أو إلى عقوبات غير رسميّة، مثل حرمان الزبون من تعبئة المياه، فقط لأنّه تجرّأ وتعامل مع منافس آخر غير صاحب الصهريج، المرجع الأساس المعتمد في المنطقة.

بين الغبيري وحارة حريك تبرز ملامح هذا الانقسام بوضوح. لكلّ منطقة “تُجّارها” الذين يحتكرون الزبائن ضمن حدود “مرسّمة” بدقّة، وإن كان ذلك غير موثّق باتفاقيّة مكتوبة. فمالكو الصهاريج في حارة حريك، مثلًا، ممنوع عليهم بيع المياه داخل الغبيري، والعكس صحيح. هذا ما لم يكن يعلمه علي صالح (اسم مستعار)، وربّ عائلة مؤلّفة من خمسة أفراد، ويعاني يوميًّا من انقطاع المياه الاضطراريّ، ما يجبره على شراء مياه الخدمة من أحد أصحاب صهاريج المياه في حارة حريك.

حين طلب صالح “نقلة” مياه لأقاربه في الغبيري، تحوّل هذا التصرُّف العاديّ إلى تهديد مباشر. يقول صالح في حديث إلى “مناطق نت”: “لقد انزعج صاحب الصهريج في الغبيري من تكرار تعبئة المياه لأقاربي من تاجر آخر في حارة حريك. إتّصل بي مهدّدًا ومتوعّدًا، بأنّه إذا شاهد صهريجًا آخر في المنطقة مجدّدًا، سيحطّمه. ولا أستبعد قيامه بذلك فعلًا”.

 من صهريج إلى إمبراطوريّة

تبدأ حكاية تجارة المياه بصهريج يتيم يقوده صاحبه بنفسه، لكن سرعان ما تتوسّع رقعة عمله فيتحوّل “المعلّم” إلى مدير شبكة صغيرة من الصهاريج والسائقين والمساعدين ممّن يتولّون تعبئة المياه للزبائن، ويراقبون في الوقت نفسه تحرّكات الصهاريج المنافسة التي “تتجاوز الحدود”.

تتراوح تسعيرة “نقلة” المياه سعة خمسة براميل ما بين 500 ألف و700 ألف ليرة، وترتفع بحسب موقع الخزّان أو بحجّة رفع سعر التعبئة من المحطّة

يتابع “المعلّم” سير العمل من هاتفه، يستقبل اتّصالات الزبائن ويرسل الصهاريج بحسب الترتيب والأولويّة، وفي أوقات الضغط لا يتردّد عن قيادة الصهريج بنفسه تلبية للطلبات المتراكمة.

وسط هذه الفوضى، ينتظر علي صالح، كغيره من الناس، دوره في تعبئة المياه، وربّما يمرّ يوم كامل دون أن يحين دوره.

في هذا الصدد يقول صالح: “لو أنّ مياه الدولة تصل بانتظام لما اضطررنا إلى الاعتماد على مالكي الصهاريج. إنّ التفلّت الأمنيّ أدّى إلى تقسيم المناطق بين تجّار الماء، فانعكس ذلك علينا نحن الناس، ننتظر ساعات طويلة بعدما كان بإمكاننا سابقًا طلب المياه من أيّ صهريج متاح دون تأخير”.

ماءٌ بثمنٍ فاحش

تتراوح تسعيرة “نقلة” المياه سعة خمسة براميل ما بين 500 ألف و700 ألف ليرة، وترتفع بحسب موقع الخزّان أو بحجّة رفع سعر التعبئة من المحطّة. هذه التقلّبات تحوّل الماء إلى عبء إضافيّ على المواطن. بالنسبة لصالح، باتت كلفة تعبئة المياه الشهريّة تقارب الـ 100 دولار، تضاف إليها رسوم “مياه الدولة” التي لا تأتي أصلًا “لقد أصبح الاستحمام مشروعًا مكلفًا!” يقول صالح بسخرية.

في غياب الرقابة الفعليّة، يتحوّل تجّار الماء إلى سلطات قائمة بذاتها، لا يخضعون لأيّ محاسبة. تحاول بعض البلديّات في الضاحية الجنوبيّة التدخّل لمعالجة شكاوى الأهالي المتضرّرين من التلاعب بالأسعار أو انقطاع المياه، لكنّها تصطدم بواقعٍ متجذّر. الحال أصبحت جزءًا من نظام اقتصاديّ غير معلن، حيث يملك معظم التجّار نفوذًا واسعًا، يصل إلى حدّ “المَونة” على موظّفين في مؤسّسة مياه لبنان.

في مخيّم صبرا وشاتيلا، تُركَّب أجهزة شفطٍ ضخمة داخل الأزقّة، ما يؤدّي إلى انقطاعٍ شبه كامل لمياه الدولة عن منطقة الغبيري المجاورة

السرقة المنظّمة للمياه العامّة

يقول أحد سكّان الضاحية إنّ بعض هؤلاء التجّار يتلاعبون مباشرة بتوزيع المياه العامّة، إذ يُقطع ضخّ مياه الدولة عن مناطق معيّنة لتسهيل عمل موزّعي الماء التجّار، أو تُحوَّل مياه الشبكة الرسميّة إلى خزّانات الشركات الخاصّة.

في مخيّم صبرا وشاتيلا، تُركَّب أجهزة شفطٍ ضخمة داخل الأزقّة، ما يؤدّي إلى انقطاعٍ شبه كامل لمياه الدولة عن منطقة الغبيري المجاورة. هناك، تنتشر تجارة المياه بشكل منظّم عبر اشتراكات شهريّة ثابتة، حيث تُحوَّل المياه القادمة من مصلحة مياه بيروت إلى مصدر ربحٍ خاصّ، في مشهد يُجسّد كيف تحوّل الحقّ العام إلى سلعةٍ محميّة بالنفوذ.

 “عين الدلبة” الغائبة

قبل خمس سنوات، امتلأت طرقات برج البراجنة بالحُفر. مدّوا أنابيب جديدة على أمل أن تصل مياه “عين الدلبة” إلى جميع الأحياء السكنيّة.

يتذكّر سعيد سليم (اسم مستعار)، من سكّان “عين السكّة”، في حديث لـ “مناطق نت” فيقول: “في حينه طال الحَفر حتّى الزواريب الضيّقة، وتفاءل الأهالي خيرًا، لكنّ مياه عين الدلبة لم تصل أبدًا”.

كما في الغبيري، تقع برج البراجنة تحت سلطة حفنة من محتكرين يتحكّمون بسوق المياه. منحهم انقطاع مياه عين الدلبة فرصة كاملة لفرض تسعيرات مرتفعة وتقسيم الأحياء في ما بينهم. أمام هذا الواقع، ابتكر السكّان حلولًا فرديّة.

يعتمد سعيد على اشتراك شهريّ من بئر ارتوازيّة يملكها أحد جيرانه، يدفع له 20 دولارًا شهريًّا مقابل مياه تُضخّ في أوقات محدّدة. بالنسبة إليه، هذا الاشتراك أكثر استقرارًا من طلب نقلة مياه من التجّار. يقول: “عديد من جيراني يعيشون تحت رحمة باعة المياه. منذ الطفولة ونحن نسمع عن مياه عين الدلبة، لكنّنا لم نرَها يومًا”.

في بعض أحياء البرج، تدور معارك صامتة حول أنابيب المياه. البعض يركّب أجهزة شفطٍ خفيّة لسرقة كمّيّة أكبر من مياه الدولة، فيحرم جيرانه من حصّتهم. يعلّق سعيد “هناك من يضع الشفّاط سرًّا، وهناك من يركّبه علنًا، بلا خوف، وعلى عينك يا تاجر”.

عطشٌ عامّ وصهاريج مسلّحة

يقول خضر حمادة (اسم مستعار)، من سكّان الكفاءات، في حديث لـ “مناطق نت”: “يختلف تعامل أصحاب الصهاريج بين شخص وآخر بحسب مكانته. الأرباح الكبيرة التي يجنيها تجّار المياه تفسّر مستوى التنافس بينهم… إلى درجة أنّ بعضهم يحمل السلاح معه في الشاحنة بشكل دائم”.

تتمدّد أزمة المياه في الضاحية الجنوبيّة كمرضٍ مزمن يطال الأحياء كلّها، من الليلكي إلى الكفاءات والمريجة وصولًا إلى المعمورة. سنواتٌ من الانقطاع الدائم جعلت السكّان أسرى تجّار الصهاريج، في ظلّ غيابٍ تامّ للمحاسبة والرقابة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى