عن انتظارات الحرب وأشياء أخرى

أقف أحيانًا في الشارع أو على الرصيف، أو أمام نافذةٍ تنتظر وصول الشمس، وأراقب الزمن يعبر من حولي. لا شيء يحدث سوى انسياب الوقت ببطءٍ خانق. في تلك اللحظات، يمرّ الزمن بطريقةٍ مختلفة، فتمتدّ الدقائق إلى ما لا نهاية ويصبح الهواء أثقل، ويغدو صوت قلبي أعلى من المعتاد. وفي النهاية يتضخّم الصمت المحيط بي ليترك في داخلي شعورًا غامضًا بأنّ حياتي عبارة عن محطّات انتظارٍ لا يمرّ عليها قطار.

وفي بلدٍ يتقاطع فيه الماضي بالحاضر، يبدو الزمن كأنّه توقّف، لا يمضي إلى الأمام ولا يعود إلى الوراء، بل يدور في حلقة انتظارٍ لا تنتهي. فالانتظار ليس حالًا فرديةً في لبنان، بل قدر جماعيّ نتقاسمه بصمتٍ كلّ يوم. هنا، لا يُقاس الزمن بالساعات وليس بالأيّام، بل بما ننتظره وبما لا يحدث. فنحن نعيش في حال انتظار جماعيّ دائمة، كأنّه تحوّل إلى أسلوب حياة، أو إلى سلطة غير معلنة تُنظّم إيقاع يوميّاتنا، وباتت تطبّع مع العجز الذي ينخرنا.

حين يغدو الزمن مشتركًا

في هذا البلد الصغير، يُسمع صدى انتظار اندلاع الحرب في أيّ لحظة. نعيش على وقع هذا الترقّب الثقيل والمستمرّ، والاستنزاف النفسيّ. فنخاف من فقدان الأمان، ونؤجّل خططنا وجلًا من هذه المساحة الرماديّة بين الحرب والسلم التي نتفيّأ ظلالها. لكنّنا لا نخاف من الحرب فقط، بل ومن تكرارها، ومن أن تتحوّل إلى جزءٍ من إيقاع الحياة، مثل انتظار يومٍ جديد!

ليس خطر اندلاع الحرب مرّة أخرى ما ننتظره وحسب، فنحن ننتظر الكهرباء كي تعود، والماء حتّى يصل، الإنترنت كي يعمل، والعدالة لتستيقظ من سباتها. ننتظر تشكيل حكومة، انتخاب رئيس، أو أن يتغيّر غدنا.

تحوّل الانتظار نفسه إلى هويّة وطنيّة غير معلنة، ونظام يدفع الناس إلى استهلاك وقتهم في الترقّب بدل الإنتاج، ويقيس ولاءهم بقدرتهم على الصبر

هكذا، تحوّل الانتظار نفسه إلى هويّة وطنيّة غير معلنة، ونظام يدفع الناس إلى استهلاك وقتهم في الترقّب بدل الإنتاج، ويقيس ولاءهم بقدرتهم على الصبر. وهذا الانتظار المتعاقب لا يُختصر بانقطاع الخدمات أو بالحرب، بل يخلق حالًا نفسيّة جماعيّة تُشبه العيش في زمن معلّق: لا شيء يكتمل، ولا وعد يتحقّق، ومع ذلك يبقى الأمل عادة يوميّة. وربما لهذا يبدو الانتظار أثقل، لأنّه لا يُعاش وحده، بل نتشارك فيه جميعنا.

الانتظار كفعلٍ وجودي

وحين أفكّر في انتظاري الفرديّ، أجد أنّه صورة مصغّرة عن هذا الانتظار الجماعيّ الذي صار جزءًا من كينونتنا.

أنتظر دائمًا موعدًا مؤجَّلًا، خبرًا جميلًا، رسالةً لا تصل، فرصةً تلوح في الأفق ثم تختفي، يومًا أجمل ممّا سبقه، حدثًا صغيرًا يمكن أن يغيّر يومي، أو حلمًا بعيدًا أخال أنّه يقترب ثم يتوارى. لكن في جميع الأحوال، يبقى هذا الشعور حاضرًا في يوميّاتي ويتكرّر كظلٍّ يلازمني. حتّى إنّني أحيانًا أشعر كأنّي لم أفعل في حياتي سوى الانتظار الذي اختبرت خلاله عمرًا كاملةً.

بيد أنّ الانتظار ليس مجرّد فراغ عابر، بل تجربة وجوديّة عميقة تحدّث عنها الفلاسفة الذين اعتبروه جزءًا من كينونة الإنسان. فرأى الفيلسوف الألمانيّ مارتن هايدغر مثلًا أن الإنسان مشدود دائمًا نحو المستقبل، أيّ أنّنا “كائنات تنتظر”، وأنّ “وعينا بزمننا يتشكّل جزئيًّا من هذه اللحظات الممتدّة بين الحاضر والمجهول”.

على حافة الوقت

حين ننتظر، ليس الشيء نفسه وحسب، بل ننتظر أنفسنا أيضًا. نراقب كيف تتغيّر مشاعرنا مع كلّ لحظة تأخير، كيف تتبدّل توقّعاتنا مع كلّ دقيقة تمرّ. وفي صمته، نرى جانبًا خفيًّا من وجودنا: الخوف، الأمل، الصبر، وحتّى الاستسلام أحيانًا.

تعليمي الأعمق جاء من الانتظار، علّمني أن أتماهى مع البطء، أن أجد في الثواني معنى يتجاوز الوصول. علّمني أيضًا أن أراقب نفسيّ وكيف يُرهقني الترقّب

وأنا أدركت منذ زمن بعيد أنّ حياتي ليست سوى سلسلة انتظارات متتابعة. لكنّها ليست لحظات ضائعة، بل مساحة تتّسع على مهل لتكشف لي كثيرًا من طبيعتي الإنسانيّة وعن أعمق مخاوفي: نقاط ضعفي وقوّتي، هشاشتي، قلقي من غدي وأمَلي فيه في آنٍ واحد، ورغبتي المستمرّة في السيطرة على ما لا يمكنني التحكّم به.

كذلك أواجه حقيقة أنّه مرآة أتعرّى أمامها وأرى فيها وجوهي الكثيرة حين يجرّدني الزمن من الأقنعة. ففي حضرته، أصغي بعمق إلى نفسيّ وإلى ما يهمس به الكون في داخلي، وأتنفّس في فراغه الذي يصبح امتدادًا مفتوحًا على المجهول. وفي قلبه هناك حياة أخرى.

تعليمي الأعمق جاء من الانتظار، علّمني أن أتماهى مع البطء، أن أجد في الثواني معنى يتجاوز الوصول. علّمني أيضًا أن أراقب نفسيّ وكيف يُرهقني الترقّب، وأن أتعامل مع الفراغ وأُصغي إلى الصمت الذي يملأ الغرف حين يتوقّف كلّ شيء.

عالقون بين اللحظة والغياب

بعد أن يطول الانتظار، وتتشابك اللحظات في صمتٍ ثقيل، يخيّل إلينا أنّنا عالقون في زمنٍ لا يتحرّك، كأنّه يتحوّل إلى قيدٍ يحيط بنا من كلّ الجهات. هو تجربة تختبر حدود الصبر، وتكشف هشاشتنا أمام ما لا نستطيع استعجاله. فهناك انتظار ينهك الروح ويستهلكها، خصوصًا حين يتّصل بعجزٍ لا نملك تغييره، فيصبح قسريًّا ويسرق من الأحلام بريقها.

الانتظار هو الشكل الذي نعيشه به. وربّما هو الوجه الآخر للحياة نفسها: حياة لا تُعاش دفعة واحدة، بل على مراحل، بين وعدٍ مؤجَّل وخطوة تتحقّق

عندها أكره الانتظار، لأنّني أشعر أنّه يسلبني العمر في الترقّب بلا جدوى، وأكره ملامحه الجافّة والصامتة والمُرهِقة. وكم حياة تآكلت في انتظار قرارٍ مؤجّل أو فرجٍ بعيد! هنا، يصبح الانتظار لعنةً وشكلًا من أشكال الفقد البطيء.

لكن، خلف هذا السكون المُتعَب يختبئ معنى لا أراه إلّا حين أهدأ، فتبرز تلك الفسحة التأمّليّة، وهي المكان الذي ألتقي فيه نفسي، وأتعلّم كيف أكون وكيف أنصت إلى صوتي وأكتشف ذاتي ومعنى رحلتي. فحين يطول الطريق نحو ما نريد، نبدأ باكتشاف أنفسنا، نتأمّل في رغباتنا ونفرز ما هو حقيقيّ منها وما هو عابر.

لذا، ربّما يكون الانتظار مرادفًا للخذلان، لكنّه أحيانًا يفتح لنا نوافذ غير متوقّعة، لم نكن لنراها لولا توقّف عجلة الزمن عن الدوران بالسرعة المعتادة.

الحرّيّة في فراغ الزمن

حين نختار الانتظار بإرادتنا، نقرّر نحن كيف نملأ فراغه وكيف نفكّر وكيف ننمو ونحن ننتظر. فينضج القلب، ويهدأ العقل، ويتّسع الأفق، لأنّ من ينتظر بوعي يمارس شكلًا من أشكال الحرّيّة. لكن، حين يُفرض علينا يُظهر وجهه القاتم، ويتحوّل إلى سجن للروح. وحين نصبح أسرى، نفقد السيطرة على زمننا وأحلامنا.

هذا الإدراك يجعلني أتعامل مع الانتظار كمسار لا مفرّ منه. فإذا كان الزمن عينه لا يتوقّف، فالانتظار هو الشكل الذي نعيشه به. وربّما هو الوجه الآخر للحياة نفسها: حياة لا تُعاش دفعة واحدة، بل على مراحل، بين وعدٍ مؤجَّل وخطوة تتحقّق. لكنّ الطريقة التي نعيشه بها هي ما تمنحه معناه، وربّما في مكانٍ ما، نحن لا نعيش كي ننتظر، بل ننتظر كي نتعلّم كيف نعيش.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى