من ألعاب جسدية لـ “بابجي” هكذا تبدّلت الرياضات جنوب لبنان

لطالما تشكّل رابط وثيق بين الرياضات والهوايات والألعاب من جهة، وبين المنطقة التي تمارس فيها هذه النشاطات، فالثقافة والتقاليد والجغرافيا والمجتمع والبيئة والقدرات الاقتصاديّة كلّها عوامل تجعل رياضات وألعاب معيّنة تنتشر وتبرز في مناطق محدّدة أكثر من مناطق أخرى.
كذلك فإنّ شعبيّة الرياضات والهوايات ربّما تزداد أو تقلّ مع مرور الوقت بسبب الظروف المختلفة، وقد يندثر بعضها تمامًا ولا يبقى إلّا في ذاكرة الكبار في السن أو ممّن عاصروها، وربّما يظهر بأوقات متفاوتة في المهرجانات والاحتفالات على نمط فولكلور مستعاد، من دون أن يكون له أيّ وجود على الأرض.
الألعاب والهوايات والظروف
في جنوب لبنان، تغيّرت خارطة الألعاب والرياضات خلال العقود الأخيرة لأسباب عدّة، منها الثورة التكنولوجيّة وظهور الألعاب الإلكترونيّة، إضافة إلى الظروف الاقتصاديّة والاجتماعيّة، وتقدّم نمط الحياة. كذلك كان للاحتلال الإسرائيليّ والاعتداءات المستمرّة أثرٌ كبير في تبدّل نمط المعيشة، بما في ذلك وسائل التسلية والترفيه.
لا تزال كرة القدم تتربّع على عرش القلوب، لعبة الفقراء والمهمّشين التي تجذب بشكل خاص أبناء الأطراف، لعبة بمتناول الجميع وفرص النجاح فيها متاحة للجميع، تمنحهم المتعة والإثارة، كذلك الحلم بطرق أبواب النجوميّة يومًا ما.

دخلت كرة القدم إلى جنوب لبنان في خمسينيّات القرن الماضي مع انتشار المدارس والإرساليّات في المدن الكبرى، وانتشرت باتّجاه القرى والأطراف منذ الستينيّات، وتأسّس عدد من الأندية مثل “الشباب الغازيّة” و”السلام صور” وغيرها، ومع ذلك فإنّ كرة القدم بقيت ضمن الإطار الشعبيّ بعيدًا من الاحترافيّة، فكانت تقام دورات رياضيّة بين القرى والبلدات وتحظى بشعبيّة عالية.
لم تعد كرة القدم كما كانت
كان الجنوبيّون حتّى سنوات قريبة يمارسون الكرة في الأزقة والساحات وعلى مساحات ترابيّة أو إسفلتيّة، يحوّلونها إلى ملاعب عبر إمكانيّات بدائية. كانت تُلعب كرة القدم على أرضيّات لا تصلح للعب، بكرات رديئة يجمع الفتية ثمنها من مصروفهم الخاص، وبأحذية غير مخصّصة للعب، ولا تنتهي المباريات إلّا بعد غياب الشمس تمامًا، من المؤكّد أن هذه المتعة التي يعيشونها هنا لن يجدوها في أيّ مكان آخر.
أخيرًا بدأت الأكاديميّات الكرويّة بالظهور، كذلك الملاعب العشبيّة المملوكة من البلديات أو مستثمرين يؤجّرونها مقابل مبلغ مادّيّ، أصبحت اللعبة أكثر تنظيمًا، ولكنّها لم تعد تلعب بالشغف نفسه، وباتت للفتية اهتمامات أخرى، كرة القدم هي جزء بسيط من طفولتهم، وهي مجرّد لعبة بالنسبة إليهم. أمّا ألعاب الفيديو فمنحتهم أيضًا فرصة لعب كرة قدم افتراضيّة دون الحاجة حتّى إلى الخروج من غرف عيشهم.
ألعاب مرتبطة بالقوّة البدنيّة
في القرن الماضي، كانت كثرة من الألعاب والرياضات في الجنوب مرتبطة بالقوّة البدنيّة، بسبب الطبيعة الجغرافيّة ونمط الحياة الزراعيّ، فكانت القوّة الجسديّة سمة يمتاز بها الشبّان، ويُعرفون بالاسم على اعتبارهم أنّهم “قبضايات البلدة”.
بعد الانتهاء من بناء المنازل الطينيّة، كان يتوجّب على أهل القرى حمل “المحدلة” نحو السقف، بهدف حدله بما يمنع تسرّب مياه الشتاء إلى داخل المنزل،. كانت المحدلة تزن بين 80 إلى 100 كيلوغرام، ويتبارى الشبّان في ما بينهم بالقدرة على رفعها والصعود بها إلى السطح عبر الدرج، أمام حشود ممّن كانوا يشجعون المتنافسين في جوّ من الحماسة.
حملُ المحدلة إلى السطح هي واحدة من رياضات القوّة والتحدّي التي ظهرت بفعل الحاجة، كذلك الأمر بالنسبة إلى تحدّي قرع جرس الكنيسة، ولعبة رمي “المخل”. والمخل هو قضيب من حديد، كان يستخدم في السابق لنقب الصخور والحجارة. ولعبة رمي المخل هي عبارة عن قيام المتبارين بحمل المخل ورميه باتّجاه هدف معيّن يكون صخرة أو مساحة ترابيّة، بشرط أن يصيب الهدف ويبقى المخل معلّقًا به.
حملُ المحدلة إلى السطح هي واحدة من رياضات القوّة والتحدّي التي ظهرت بفعل الحاجة، كذلك الأمر بالنسبة إلى تحدّي قرع جرس الكنيسة، ولعبة رمي “المخل”.
ألعاب خارج التداول
ولدى الحديث عن ألعاب القوى البدنيّة، لا يمكن إغفال تحدّي رفع الجرن، وهو حجر ثقيل مثقوب كان يستخدم لهرس اللحوم والحبوب وغيرها، وقد كان الشبّان يتبارون برفع الجرن في البلدات الجنوبيّة، كما جرت العادة أن يُشترط على العريس أو أحد أقاربه رفع الجرن فوق رأسه لكي يوافق أهل العروس على تزويجه.
لم تعد هذه الرياضات كلّها موجودة اليوم، لأسباب مختلفة مرتبطة بتطوّر الحياة وخروج المحدلة والجرن والمخل من حياة السكّان، ولو أنّها تظهر في فترات متفاوتة في المهرجانات والاحتفالات التي تنظّمها جمعيّات وبلديّات كنوع من النوستالجيا أو الحنين إلى الماضي.
كان معظم الجنوبيّين يعتاشون من الزراعة وتربية الحيوانات ورعي المواشي في القرن الماضي، وبطبيعة الحال كانت كثير من الهوايات أو الرياضات مرتبطة بنمط الحياة هذه، في ظلّ ندرة وسائل التسلية، فشاعت السباقات بين الحيوانات كالأحصنة والبغال وحتّى الحمير، وصراع الديكة ومصارعة الأكباش، وصيد العصافير بالدبق (قد يكون الصيد للتسلية فقط وليس للتجارة أو للحصول على الغذاء).
الديكة تخطف الأنظار
انتشرت لعبة صراع الديكة بشكل واسع بالجنوب في السابق، وبخاصّة في أقضية بنت جبيل وحاصبيّا ومرجعيون، ويعود تاريخها إلى مطلع القرن، حيث كان السكّان يقتنون الدجاج والديكة بهدف الحصول على اللحم والبيض، لكنّهم كانوا أيضًا يختارون بعض الديكة المميّزة لديهم، يهتمّون بها ويدرّبونها لتصبح قادرة على القتال.
كانت النزالات، والتي يسمّيها الناس أيضًا “مباطحة الديكة”، تقام في ساحات القرى والبلدات ويتجمهر الناس لمشاهدة الصراع المثير في جوّ من الحماسة والتشجيع. وقد زالت هذه الرياضة مع الوقت من الوجود، لأسباب كثيرة من بينها المطالبات المتكرّرة لجمعيّات حقوق الإنسان بإيقافها. كذلك اعتاد كثر من البلدات الجنوبيّة إقامة سباقات للحمير، وسط أجواء من المرح والضحك، حيث كانوا يزيّنون الحمير بالأقمشة والشراشيب، ولم تكن السباقات جدّيّة تمامًا، ويغلب عليها الجانب الترفيهيّ أو الكوميديّ، إذ كان بعض الحمير يخرج عن مسار السباق أحيانًا، أو يستدير ويركض في الاتّجاه المعاكس.
ألعاب مرتبطة بالأرض والطبيعة
في السابق، كانت هوايات الفتية والألعاب التي يمارسها الجنوبيّون مرتبطة بالأرض بشكل وثيق، يمكن تعداد عشرات الألعاب التي لم تعد موجودة اليوم، مثل الإكس والـ “السبع بلاطات” والغلل وشدّ الحبل والقفز فوق الحبل المطّاطي والتسابق عبر الجري أو تسلّق الجبال وغيرها.
كانت ألعاب الفتية والفتيات مجّانية وطبيعيّة، والوسائل التي يستخدمونها كانوا يجدونها في الطبيعة أو يصنعونها بأنفسهم دون أيّة كلفة. انتشرت في النصف الثاني من القرن الماضي لعبة “الحرب”، حيث كان الفتية يصنعون بنادق خشبيّة وينقسمون إلى فرق، يختبئون خلف الجدران والسواتر، ومن يرَ خصمه أوّلًا يقتله مجازيًّا عبر توجيه البندقيّة/الخشبة نحوه، وإصدار صوت مثل ” طاطاطاطاطا”.
واقع الاحتلال الإسرائيليّ رفع من شعبيّة لعبة “الحرب”، إذ إنّ فكرة حمل بندقيّة لمواجهة الأعداء كانت تسحر الفتية بشكل كبير، لعبة الحرب نفسها اختفت من القرى، واستعاض عنها الفتية بألعاب الحروب الإلكترونيّة مثل “الكاونتر سترايك” ولاحقًا “باب جي” و”فورت نايت” والتي تحمل جميعها فكرة لعبة الحرب التي يلعبها الفتية في الساحات والأزقّة والوديان نفسها.
الهوايات والألعاب الرياضيّة والذهنيّة والترفيهيّة هي مرآة تعكس الوجه الثقافيّ والحضاريّ للشعوب، وقد تغيّر وجه الرياضة في الجنوب مع تغيّر وجه الحياة نفسه، فخفت صوت الألعاب التي كانت تمارس تحت الشمس الحارقة وفي البرد القارس وتتّسخ فيها الأيدي والثياب، واستقرّت في تجاويف الذاكرة، ولم تعد تظهر إلّا في المناسبات على شكل استعادة للماضي، وحلّت محلّها الألعاب الإلكترونيّة التي تخلو من أيّ تواصل بشريّ حقيقيّ وأيّ مجهود بدنيّ أو حركيّ.




