كيف ننجو من ارتدادات انتحار مَن نحبّ؟

عادةً ما تنتهي قصص الانتحار بقتل الضحيّة نفسها، باختيارها إنهاء حياتها. هكذا تنتهي القصّة، وما من أحد يتحدّث عن معاناة عائلة الضحيّة وأصدقائها، بعد أن قرّرت مفارقتهم إلى الأبد.

أُنس كان صديقي البريء الذي ينجح دومًا في إضحاكي. يتّصل بي من باريس ليخبرني بتفاصيل يومه، وفي كلّ مرّة يعود فيها إلى لبنان، يُخبرني فورًا بعودته كي نلتقي في بدارو ونتشارك الأخبار التي فاتتنا ونحوّلها إلى نكاتٍ تُضحكنا حتّى البكاء.

لم أحفظ التاريخ الذي قرّر أُنس إنهاء حياته فيه، ولا أعرف تحديدًا كم مرّ من الوقت على تلك الحادثة المشؤومة. بالنسبة إليّ، ما زلت أشعر وكأنّها حدثت يوم أمس. أيضًا، إنّ اسم صديقي لم يكن أُنس، لكن أعتقد أنّه في مجتمعٍ لا يرحم، تتردّد عائلة صديقي من الاعتراف بأنّها فقدته انتحارًا، فاخترت أن أسمّيه أُنس احترامًا لخصوصيّة عائلته. أوليس أصدقاء العمر هم أُنسنا؟

الانسحاب الصامت… الإشارة الأولى

قبل سنة من إنهاء أُنس لحياته، قرّر التوقّف عن التواصل معي، ولم يقدّم أيّ مبرّرات، ولم أعتقد أنّه كان هناك سبب منطقيّ كي يفعل ذلك. لم أحاول التواصل معه كي يتراجع عن قراره. ربّما تواصلت معه بضع مرّات، وبشكل رسميّ، في محاولةٍ للإشارة إليه: “أنا موجودة، في حال أردت التراجع عن قرارك”.

لم أكن الوحيدة التي قرّر أُنس قطع علاقته بها، فتزامنًا مع الوقت الذي قرّر فيه الابتعاد عنّي، كان قد ابتعد عن يارا، صديقتنا المشتركة، وبعد وفاته، علمنا أنّه كان قد قطع علاقته مع جميع أصدقائه الآخرين. لكن أظنّ أنّني أنا الوحيدة التي كانت تعلم بأنّ قصّة أُنس سوف تنتهي بالانتحار.

أظنّ أنّه من الطبيعيّ أن يأكلني الذنب، ولا أكترث لمن يقول إنّه مهما كنت قد فعلت، كانت ستكون النتيجة ذاتها. هذا ما يحدث للبشر بعد أن يقرّر حبيبٌ لهم إنهاء حياته

حقيقة السقوط

حين اتّصلت صديقتنا يارا لتخبرني بأنّ أُنس توفّى، ظننت أنّهما تصالحا، وأنّه يجلس بجانبها، وقد اتّفقا على أن ينصبا مقلبًا لي. ظننت أنّ كلّ شيء سيعود إلى حاله، وأنّ اتّصالاتنا الهاتفيّة من باريس إلى لبنان سوف تعود، كما جلساتنا الصباحيّة في المقاهي، تلك التي كانت تصيب عضلات وجهي بالألم من كثرة الضحك. لكنّ أُنس لم يكن بجانب صديقتي، ولم تكن صديقتي تمازحني. كنت أتسكّع في المقهى، وشعرت بحاجة ملحّة كي أعود إلى المنزل، وفي طريقي، أدركت أنّ أُنسَ اختار الموت بنفسه.

أرسلت رسالة إلى يارا أسألها عن سبب وفاة أُنس، فأجابتني:
“تقول عائلته بأنّه سقط من الشرفة”.
“لم يسقط، بل رمى بنفسه”، أجبتها.
بعد بضعة أيام، اعترفت عائلة أُنس لأصدقائي بأنّه رمى بنفسه من الشرفة ولم يسقط.

لم يحدّثني أُنس يومًا عن أفكارٍ انتحاريّة، لم يخبرني بأنّه مكتئب، لكنّني كنت أستشعر الحزن العميق الذي يسكن قلبه، والذي من المعجزة أن ينتهي بغير الانتحار. كان رقيق القلب، حسّاسًا، سريع التعلّق، يحلم بأن يصبح ممثّلًا مشهورًا وعالميًّا. خذلته الحياة مرارًا: العلاقات العاطفيّة، وتجارب الأداء، وقسوة الحروب، وربّما أنا خذلته أيضًا، سمحت له أن يتخلّى عن صداقتنا بسهولة.

الذنب صديقي الجديد

بعد مرور أقلّ من ساعة على خبر وفاة أُنس، اجتاحت صوره هاتفي، إذ إنّ جميع من عرفه نشروا صورًا مرفقة بكلمات الرثاء. أمّا أنا، فلم أنشر أيّة صورة ولا كلمة. لم أزر عائلته، ولا حتّى مرقده الأخير. كيف لي أن أقوم بواجبي تجاهه بعد وفاته، وأنا لم أقم به وهو حيّ؟ لم أسأله عن سبب ابتعاده عنّي، لم أطلب منه أن يعود، لم أسأله إن كان بخير، أو إذا كان يحتاج إلى المساعدة. كان غروري أكبر من حبّي.

أظنّ أنّه من الطبيعيّ أن يأكلني الذنب، ولا أكترث لمن يقول إنّه مهما كنت قد فعلت، كانت ستكون النتيجة ذاتها. هذا ما يحدث للبشر بعد أن يقرّر حبيبٌ لهم إنهاء حياته: يتملّكهم الذنب، تعود مجموعة مواقف إلى أذهانهم، ويتساءلون عمّا كان يحصل لو تصرّفوا بطريقة مختلفة. يصبحون أكثر تسامحًا وليونةً مع الأحياء، فعند كلّ خلاف، يتساءلون عمّا قد يحصل لو أنّ الطرف الآخر أنهى حياته وهو على خلافٍ معهم. يصبحون أكثر هشاشة.

قبل أن يموت أُنس، كانت تخالجني الأفكار الانتحاريّة مرارًا. لكن بعد وفاته، تأكّدت أنّني لن أقدم على هكذا فعل أبدًا، إذ إنّني لا أريد لمن أحبّهم أن يشعروا بما أصابني بعد وفاة أُنس.

شوقٌ مغلّف بالشتائم

ما زلت غاضبة منه حتّى اليوم. أشتمه لأنّه أنهى حياته، ثمّ أشتاق إليه، فأرسل له أغاني فرج سليمان على حسابه الخاصّ على منصّة “إنستغرام”. كان يحبّ أغانيه، وكان يتّصل بي من باريس ليغنّي لي:

“حكيلي شو عندِك أخبار
حكيلي شو عندِك نميمة”
ثم يضحك وينعتني بالنمّامة.

أحيانًا أهوّن الأمور على نفسي فأفكّر بأنّه من الجيّد أنّ أُنس توفّى قبل أن يرى قلبه الرقيق الحرب التي خيّمت على لبنان، وأحيانًا أخرى أتمنّى لو أنّه ما زال هنا، وما زال يغنّي لي وينعتني بالنمّامة. لم أفكّر للحظة بأنّ ما فعله أُنس كان جبنًا، بل على العكس تمامًا. كان رقيق القلب، وفي عالمٍ قاسٍ كعالمنا، من الشجاعة أن يكون المرء حنونًا وحسّاسًا وطيّبًا. لم يحتمل قلبه قساوة هذا الكوكب، فاختار أن يتخلّى عن عالمنا، بدلًا من أن يقسو كما يفعل الجميع.

هذا ما يواجهه البشر الذين يفقدون حبيبًا لهم انتحارًا: أحكامٌ مسبقة وظالمة، تجبرهم على ابتلاع حزنهم حتّى يتقيّأوه ليلًا وهم وحدهم.

عزاءٌ مُحاصر بأصابع الاتّهام

المجتمع لا يرحم من يقرّر إنهاء حياته، ولهذا، أتجنّب الحديث عن أُنس مع من حولي. في اليوم الذي مات فيه، لجأت إلى شخصٍ مقرّب منّي لأشاركه حزني وذنبي، فقال لي:

“لا تشعري بالذنب، فإمّا أنّه يتعاطى المخدّرات، أو أنّه غير متوازن في عقله، فلولا ذلك لما انتحر”.

لكنّني أعرف صديقي جيّدًا، أعرف أنّه لا يجرؤ على تجربة المخدّرات حتّى، وأعرف أنّه سويٌّ في عقله وفي قلبه. بسبب ذلك الشخص السريع في حكمه، أخذني كثير من الوقت كي أستطيع البوح من جديد عن الحزن الكبير الذي تركه أُنس خلفه. في المرّة الثانية التي بُحتُ بها في القليل، قال لي أحدهم:

“لو كان قريبًا من الله لما فعل ذلك”.

لكنّني أعتقد أنّ روح أُنس الخفيفة كانت أقرب إلى الله أكثر من جميع هؤلاء الذين يصدرون أحكامًا على شخصٍ مات ولم يعرفوه.

“تركني عالأرض وراح”…

هذا ما يواجهه البشر الذين يفقدون حبيبًا لهم انتحارًا: أحكامٌ مسبقة وظالمة، تجبرهم على ابتلاع حزنهم حتّى يتقيّأوه ليلًا وهم وحدهم.

أخاف أن يمرّ الوقت، أن أكبر، وأنسى أُنس. أخاف أن ينساه أصدقاؤنا، أن يتوقّفوا عن ذكره في الجلسات والأحاديث. أفكّر أحيانًا أنّ شعور الذنب الذي يرافقني ليس سوى وهمٍ أخلقه لنفسي كي تشعر بأنّها طيّبة وغير أنانيّة. وحينًا آخر، أفكّر بأنّ رحيل أُنس قد علّمني كثيرًا: أن أكون أكثر تفهّمًا للآخرين، أن أتعاطى معهم وكأنّ غدًا هو يوم أحدنا الأخير. أصبحت أُذكّر أحبّائي يوميًّا بأنّني أحبّهم، وما عدت أسمح لكبريائي أن يقود علاقاتي بالآخرين.

أتساءل أيضًا: ليتني تعلّمت كلّ هذا من دون أن أخسر أُنس؟

وفي كلّ مرة تُشرف عاصفة الأفكار هذه على الانتهاء، أختمها مؤكّدة: كلّ هذا لا يهمّ، المهمّ أنّ أُنس اختار الرحيل، وما زال رحيله يُفجعني.

للمساعدة في حالات تتصل بالانتحار يمكن الاتصال بجمعية “إمبريس” على الخط الساخن (1564) للدعم النفسي والوقاية من الانتحار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى