لعنة الوعي.. حينما ترى ما لا يريد الآخرون أن يروه

لو أنّني أقرأ رواية لتركتها أيّامًا كي أرتاح، أو أنهكت نفسي لأقرأها بيوم واحد، أستعجل معرفة النهاية…

ها أنا اليوم أعيش الرواية، أتجوّل في الأماكن وأرثي الزمان الذي كان، تدمع عيناي في الجنوب، أرى في وجوه الناس قهرًا، ولا أرى خوفًا، أو ربّما يكون خوفًا يُخفيه المُقتاد إلى مقصلة الإعدام.

يرون الموت في كلّ يوم، تآلفوا معه ما دام بعيدًا، ولكن عندما يقترب منهم، يفرّون متمسّكين بما تختزنه حياتهم من آلام.

كم مرّ على هؤلاء الناس، كم مر علينا ومرّ؟ هل هناك علاقة بين الفعل مرَّ والمرارة؟ وجدتها وأنا أكتب كلمة مناسبة لتصف شعوري، ثمّة عجز داخلي عن قلب الصفحة وعن الإسراع في القراءة والوصول إلى النهاية.

بين صور الدمار والضحايا

في خلال الحرب الماضية كانت آخر محطّة لنا في تركيّا، أتخذت قرارًا بالرحيل لإنقاذ أولادي ممّا لم أستطع إنقاذ نفسي منه، فرؤيتي لكل المآسي والأوجاع التي ترافق حروبنا، تفقدني القدرة على قلب الصفحة والاستمرار. أتوقّف، فلا أستطيع متابعة حياتي، لا أستطيع العيش بسبب كلّ ما رأيت وما يمكن أن أرى. خوفي من أفلام العنف التي لم أشاهدها يومًا، أصبحت واقعًا، سقط الحجاب عن عينيّ، ورؤية الأمور كما هي صعّبت عليّ مواصلة الطريق، العيش بكل ما تحمله هذه الكلمة من سرّاء وضرّاء.

لم يكن العيش بالنسبة إليّ ممكنًا بين صور الدمار والضحايا. كنت أرى ما لا يريدون أن يروه، ولكن كما قال الفيلسوف الفرنسي إميل سيوران (1911- 1995)،: “الحياة ليست إلّا موهبة العمى الموقّت؛ لأنّ كلّ من يفتح عينيه على اتّساعهما، يفقد القدرة على الحلم”، أنا فقدت القدرة على العيش، أو بمعنى أدقّ القدرة على الحياة.

مشاعر القهر ترافقني في كلّ يوم. يقولون: نعيش يومًا بيوم، وأنا لا أنفكّ أفكّر بتلك الأيّام الباقيات، بكلّ الأيتام الباقين، هل يستطيعون العيش يومًا بيوم؟

يرى سيوران أنّ الوعي يحمل لعنة، لأنّه يحوّل النعمة الظاهرة للحياة إلى عبء ثقيل يقتل الأمل، وينقل الإنسان إلى حال من اليأس والاغتراب، الاغتراب عن نفسه، عن مجتمعه، عن أحلامه، عن الاستمرار في وطن جعل منّا أعداد ضحايا تُصدرها وزارة الصحّة، وعندما تنتهي الحرب، تطوى الصفحة ونبدأ من جديد.

نعم أنا غريبة الآن، لا أعرف كيف أعيش ولمَ أعيش وكيف أهرب من هذه المرارة؟

مرّت الأيّام وانتهت الحرب التي كنت أتوقّع ألّا تنتهي. وبعد وقف إطلاق النار وجدتني أعود إلى لبنان مع عائلتي، بأغلى كلفة تذاكر سفر، وكأنّ اغترابي عن الوطن سيعيد إليّ شعوري بالحياة.

كان المهمّ أن أعود….

يقول علم النفس إنّنا ننسى الذكريات ونحتفظ بالمشاعر. أنا لا أنسى الذكريات ولا أرتاح من المشاعر.

مشاعر القهر ترافقني في كلّ يوم. يقولون: نعيش يومًا بيوم، وأنا لا أنفكّ أفكّر بتلك الأيّام الباقيات، بكلّ الأيتام الباقين، هل يستطيعون العيش يومًا بيوم؟

عرف فرنسيس بّيكون (1909- 1992) الرسّام البريطانيّ الشهير، بلوحاته ذات الوجوه الممزّقة. لم تكن مجرّد رسومات، بل حملت فلسفة عميقة، تجعل من الرؤية فعلًا دمويًّا وكأنّك كلّما رأيت أكثر فقدت شيئًا من ذاتك.

كيف عمينا عن كلّ هذا؟ عن أيّام الصيف الجميلة على ضفاف الليطاني، زوطر ويحمر (الشقيف) وقعقاعيّة الجسر وصير الغربيّة، وكلّ البلدات حول مجراه. جمعاتنا وأحاديثنا، والزيارات الجميلة لجدّتي وأقاربي. اليوم لم أعد أراهم، أضحت المسافات إليهم خطرة وموحشة.

أقلب ألبومات الصور على هاتفي.

لم يعد هناك سوى الذكريات، فالأماكن اختفت وأصبحت ركامًا.

كيف عمينا عن كلّ هذا؟ عن أيّام الصيف الجميلة على ضفاف الليطاني، زوطر ويحمر (الشقيف) وقعقاعيّة الجسر وصير الغربيّة، وكلّ البلدات حول مجراه.

خلال هذه الحرب، أدركت أنّ كلّ شيء ربّما يغادرنا: أرزاقنا، بيوتنا، حياة من نحبّ وحياتنا.

هنيئًا لنا إن متنا وبئسًا للبقيّة.

الحياة بعد موت الأحبّة عدم، والنجاة أحيانًا في أن نغمض عيوننا باختيارنا.

أسألهم كيف يقفون أمام الموت عندما يقترب منهم موشوشًا، متجسّدًا بشخص قويّ يمسح على الرؤوس لينبئهم بالخبر الأليم، ماذا يفعلون؟

قالت لي صديقة: “الله يضع في قلوبهم السكينة”، كيف عرفت؟ هل لأنّهم لا يقولون شيئًا ولا يصرخون ولا يملأون الدنيا عويلًا على من رحلوا؟ وماذا يجديهم ذلك، فمن رحل لن يعود؟

يظهر الفنّان الإسباني ّفرانسيسكو غويا، في لوحته الشهيرة التي رسمها العام 1799، رجلًا جالسًا، رأسه مغطّى ويديه متلاصقتين فوق طاولة، وخلفه تحلّق مخلوقات ليليّة كالخفافيش. هو رسم رجلًا أنهكه الإدراك، ففقد وعيه أمام هول ما رآه.

العمى في بلادنا ليس فرديًّا

أعي ما نعيشه اليوم، وأغمض عينيّ جيّدًا ولا أفصح عمّا أراه. فالعمى في بلادنا ليس فرديًّا، بل نظام اجتماعيّ ولغة وحيدة اتّفق عليها الناس، ومن يرَ ما لا يراه الآخرون يعتبر خارجًا عن الجماعة، وتهديدًا لسلامها المزيّف.

في بلدي نتّخذ من العمى عصا نتوكأ عليها كي لا نصطدم بالحقيقة، فالرؤية ربّما تخلخل توازننا، تعرّينا أمام معاناتنا المستمرّة.

قرأت راوية العمى للكاتب البرتغاليّ جوزيه ساراماغو ولن أقرأها مجدّدًا، لأنّني أعيشها اليوم. وباء غامض أصاب سكّان المدينة بالعمى المفاجئ، وتحوّلوا جميعهم إلى عميان، وتغيّرت حياتهم إلى نظام جديد قائم على رعب العجز المشترك واختاروا الاستسلام إلى عماهم والعيش غير مبصرين.

ما نعيشه اليوم خلال هذه الحرب، هو وباء، لا نعرف كيف نشفى منه، تُركنا أمام جهلنا بما يحصل، دُفعنا إلى أن نغمض أعيينا عن الحقيقة المؤلمة، عن الحزن حولنا، عن العيون الشاردة في فضاءات لا تنتهي.

لم يخبروا جاري المريض إصابته بالسرطان، تركوه يعيش في جهله عما يعتريه من ألم، تركوه يحلم بالشفاء، أنسوه الحقيقة المرّة أنّ الموت بات وشيكًا، وهو كان يرى جسده يضمحلّ رويدًا رويدًا، ولكنّه مات في سلام فوق سريره، يقول: “أرى نفسي أمشي في طريق طويل لا تنتهي”.

أمّا أنا، فلا أعرف هل أستطيع إكمال الرواية التي أعيشها، أم أضعها جانبًا لأرتاح قليلًا؟ لا أدري إن كان بوسعي أن أصل إلى النهاية خلال يوم واحد، مهما كانت هذه النهاية، فلربّما تكون مجرّد فاصلة في قصّة لم تكتمل بعد، أو تكون الموت الرحيم الذي ينتظره الجميع.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى