15 ديسمبر… يوم ولدت أمّي متأخّرة 64 عامًا

جملةٌ كانت تردّدها أمّي دائمًا بحسرة، على مدى ستّين عامًا؛ جملةٌ حفظتها عن ظهر قلب منذ طفولتي:
“كلّ العالم عنده عيد ميلاد إلّا أنا”.
ثمّ كانت تُتبِعها بسخريةٍ مفتعلة، كي لا نشعر أنا وأخوتي بالأسى تجاهها. لكنّ كلماتها، على رغم كلّ شيء، كان صداها يرتدّ في قلبي وعقلي بحسرةٍ مضاعفة.
ليتني أستطيع معرفة تاريخ ميلاد والدتي لأفرح قلبها، كما تفرحنا بأعياد ميلادنا.
أمّي، البالغة من العمر 64 عامًا، من بلدة تربيخا، أيّ “الجبل المقدّس”، التي تبلغ مساحتها 18.563 دونمًا، وتقع ضمن القرى السبع المحتلّة، وتُعرف اليوم باسم مستوطنة “زرعيت”. عشرات المرّات، اصطحبتنا في طفولتنا إلى محاذاة الشريط الحدوديّ لتدل بيدها وتقول: “هون طربيخا… بلدتي المحتلّة”. كنّا نلتقط صورة تذكاريّة قرب اللافتة التي تحمل اسم البلدة، وقبل أن نغادر، كانت تطلب منّا أن نرمي حجرًا إلى الداخل، مردّدة: “كبّوا حجر على إسرائيل”.
عائلة بجنسيّات مختلفة
أعرف من الأحاديث العائليّة، التي لا تُروى كاملة، أنّ جدّي أُخرج مع مئات العائلات الفلسطينيّة من أرضهم خلال النكبة العام 1948، وكان يومها في الثانية عشرة من عمره. لجأوا إلى بلدة حدوديّة تُدعى المنصوري، التي أصفها دائمًا في كتاباتي بأنّها “مسقط قلبي”، ولا تبعد سوى نحو 10 كيلومترات عن الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة. هناك استقرّ، لكنّه لم يحصل على الجنسيّة اللبنانيّة، إذ توفّي قبل صدور مرسوم التجنيس العام 1994.
استفادت بعض خالاتي من القرار وحصلن على الجنسيّة اللبنانيّة، أمّا والدتي فنالتها بعد زواجها من والدي، كون زواجهما تمّ في السنة نفسها التي صدر فيها المرسوم. في المقابل، بقي أخوتها من دون جنسيّة لبنانيّة، إذ كانوا قد هاجروا إلى ألمانيا قبل صدور القرار، وحصلوا لاحقًا على الجنسيّة الألمانية. وعلى رغم ذلك، لا يمتلكون أيّ وثائق لبنانيّة، والمفارقة أنّهم، عند كلّ زيارة إلى لبنان، يُجبرون على الحصول على إذنٍ خطّيّ من مخابرات الجيش لاجتياز حاجز “العامريّة”، القريب أمتارًا من المنصوري، بوصفهم “أجانب”.
وُلدت أمّي العام 1961، الابنة الرابعة، كما تشير هويّتها، من دون أيّ تاريخ آخر يُذكر. حُرمنا من الاحتفال بعيد ميلادها، على رغم محاولاتنا المتكرّرة للتحايل على هذا الغياب، واختلاق تاريخ نحتفل فيه بميلادها. كنّا نقول لها:
“خلص، اختاري تاريخ وبصير عيد ميلادك”،
لكنّ الغصّة كانت دائمًا حاضرة.
صار لأمي عيد ميلاد
منذ مدّة، قرّرنا أخوتي وأنا البحث جدّيًّا عن هذا التاريخ الذي ربّما أغفل المختار تسجيله، أو لم تعره الدوائر الرسميّة أيّ أهمّيّة. وكانت المفاجأة أنّنا وجدنا تاريخ ميلادها مسجّلًا لدى دوائر “الأونروا”، في المكان الذي لم يخطر ببالنا يومًا، ولم نكن نعلم أساسًا أنّ أمّي تملك فيه أيّ وثائق.
أخبرنا أخي علي عبر رسالة على “واتساب”:
“وجدت تاريخ ميلاد ماما”.
كدتُ أبكي وأنا أقول لرفاقي الذين كانوا حولي في تلك اللحظة:
“عرفت إيمتى عيد ميلاد ماما”.
أتخيّل أمّي بعمر سنة واحدة، وهي تُطفئ شمعتها الرابعة والستّين للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل
فرحتُ وكأنّنا استعدنا لها جزءًا من هويّتها التي طمستها النكبات المتتالية، تلك التي مرّت على من عُرفوا باللاجئين الفلسطينيّين، والذين شرّدتهم الحروب وسلبتهم أبسط حقوقهم، حتّى حقّ الالتفاف حول قالب حلوى للاحتفال بأعياد ميلادهم.
15/12/1961، ليس تاريخًا عابرًا، ولن يكون يومًا عاديًّا.
حين نحتفل بأمّي للمرّة الأولى بعد عمرٍ كامل لم تعرف فيه فرحة الميلاد، سيكون عيدها الأوّل. أتخيّلها بعمر سنة واحدة، وهي تُطفئ شمعتها الرابعة والستّين للمرّة الأولى منذ زمنٍ طويل. سنحتفل بها عن كلّ مرّة كانت الغصّة تخنقها وهي تتناول الموضوع بطرافة، فيما تلمع دمعةٌ في عينيها.
قرار مثير للجدل
يقول أحد مخاتير مدينة صور، إبراهيم دهيني، “إنّ حالة والدتي ليست استثناءً، بل واحدة من آلاف الحالات التي يُسعى اليوم إلى تصحيحها عبر المحكمة المدنيّة”. ويوضح أنّ “التعقيد ازداد في السنوات الأخيرة، لا سيّما في ما يتعلّق بالسفر، إذ باتت بعض السفارات ترفض المعاملات التي لا يتضمّن فيها تاريخ الميلاد كاملًا على الوثائق الرسميّة”.
ويضيف دهيني أنّه مع انطلاق موجة التجنيس بموجب المرسوم رقم 5247، الصادر في الـ 20 من حزيران (يونيو) 1994، في عهد رئيس الجمهوريّة آنذاك إلياس الهراوي، مُنحت الجنسيّة اللبنانيّة لآلاف الأشخاص المصنّفين “أجانب”. وشمل المرسوم فلسطينيّين، غالبيتهم من أبناء القرى السبع، إلى جانب سوريّين، ومكتومي القيد، وأشخاص من جنسيّات عربيّة وأجنبيّة أخرى، ما جعله واحدًا من أكثر القرارات إثارةً للجدل.
وخلال تلك المرحلة، وقعت أخطاء كثيرة، أبرزها أنّ مقدّمي طلبات التجنيس لم يرفقوا طلباتهم بوثائق ولادة، واكتفوا بالأوراق والهويّات الفلسطينيّة التي لا تتضمّن تاريخًا محدّدًا للولادة. ونتيجةً لذلك، مُنحتهم جنسيات لبنانية لا تحمل سوى سنة الميلاد. وفي ظل غياب الوعي وبساطة الناس آنذاك، لم يُنظر إلى الأمر على أنّه مشكلة، إذ كان الهمّ الأساسي هو الحصول على الجنسية، فيما اعتُبر تاريخ الميلاد تفصيلًا ثانويًا.
ويشرح دهيني أنّ “الفلسطينيين المولودين قبل العام 1950 لا يملكون، في الأساس، وثائق ولادة رسميّة. أمّا اليوم، فيتقدّم كثيرون بطلبات إلى المحكمة المدنيّة لتصحيح قيودهم، ليُحوَّل الحكم لاحقًا إلى دائرة الأحوال الشخصيّة، وبموجبه يمكن إضافة يوم وشهر الولادة إلى الهويّة. وتستغرق هذه الإجراءات ما بين ستة أشهر إلى سنة كحدّ أقصى”.
ويختم دهيني بالإشارة إلى أنّ “هذه المشكلة شائعة، لكنّها لا تحظى بما يكفي من الضوء أو الاهتمام الإعلاميّ”.
حجر رميناه لحقّ مسلوب
بين حجرٍ كنّا نرميه طفولةً نحو بلدةٍ محتلة، وتاريخٍ وجدناه مصادفةً في أرشيف الأونروا، تمتدّ حياة كاملة عاشت معلّقة بين هويّةٍ ناقصة وذاكرةٍ مثقوبة. تاريخ ميلاد أمّي ليس مجرّد رقم أُضيف متأخّرًا إلى سجلّ رسمي، بل استعادة رمزيّة لحقٍّ بسيط سُلب منها، كما سُلب من آلاف غيرها: الحقّ في أن يُقال إنّهم وُلدوا في يومٍ ما، في زمنٍ ما، وأن تُحتسب أعمارهم كاملة لا منقوصة.
حين نُشعل شمعتها الأولى بعد أربعة وستّين عامًا، لا نحتفل بذكرى ميلاد وحسب، بل نحتجّ على كلّ ما اعتُبر “تفصيلًا ثانويًّا” في حياة اللاجئين والمجرّدين من الحقوق. نحتفل لأنّ التاريخ، مهما تأخّر، لا يسقط، ولأنّ الأسماء والأعمار والتواريخ ليست أوراقًا إداريّة فقط، بل ذاكرة، وكرامة، واعترافٌ متأخّر بأنّ لهؤلاء الناس حياة تستحقّ أن تُوثَّق… وأن يُحتفل بها.



