أبو محمد عوض جبق..الصفحة الأخيرة لحكاية بعلبكية

حسين حمية

كانت حياته تجربة مدهشة، ما زلت أذكر في صغري، هذه الوثبة الهائلة التي حققها هذا الرجل مع شريكه المرحوم أبو علي حسين المقداد…حتى أواخر الستينيات كانت تفصلنا عن عالم الغنى واحتياز الثروات الكبيرة مسافات طويلة، كنّا نجتازها بعربات أحلام اليقظة وجنوح المخيلة، كان عالم الثراء مغلقا بأقفال فولاذية  بوجه أبناء المنطقة، ويشقّ (ويستحيل) على أي كان كسره أو خلعه، وقد سدّت كل المنافذ للعبور من الطبقات التحتا إلى الطبقات العليا…في ذلك الزمن، كنّا في منطقة بعلبك الهرمل، منطقة لا فرص فيها، لا أحد ينظر إلى فوق، وفوق هو مكان خاص بأناس لا تربطنا صلة بهم، كانوا حكايات ونوادر نتلهى بها عن العالم البعيد.

فجأة فعلها عوض جبق (أبو محمد)، واقتحم مع شريكه ابو علي ذاك العالم. وإذا كان السؤال كيف؟ الإجابة عليه لا تستوي إلا باستعادة القواعد الظالمة للترقي الطبقي في لبنان، وهي قواعد صيغت على شكل قوانين وأنظمة وسياسات لتكبل المنطقة بأصفاد القلّة والحرمان والفقر، وقد عرف هو وشريكه أن الامتثال لهذه القواعد، هو الخروج من اللعبة والموت اختناقا بعفن الفقر.

وإذ هذا الزمن يضيق بتزاحم أسماء أصحاب الثروات في المنطقة ولبنان والعالم، لكن في اللحظة التي كان فيها أبو محمد يطأ عتبة الثراء، كان اسما واحدا يحتكر عالم الثروة، هو المليونير اليوناني أرسطو أوناسيس، لا اعتقد أن عوض جبق قرأ الحكمة الذهبية لهذا المليونير العالمي (لم يكن وقتها هناك مليارديريين)، لكن عرف هو وشريكه أن سرّ اللعبة في المليون الأول، وكل الأغنياء لم يحتكموا للقواعد الموضوعة إلا بعد المليون الأول.

كان لافتا في تجربة أبو محمد جبق وسيرته، هو معاينة مقدار التحولات في شخصيته بعد إحرازه تلك الثروة الوافرة في ذلك الزمن، وهذه على ذات أهمية كبيرة، لإقامة الصلة بين الترقي المادي والترقي الاجتماعي، وكذلك لرصد التغيرات التي طرأت على العلاقات الاجتماعية (خصوصا في منطقة بعلبك الهرمل) في الفترة التي اغتنى فيها أبو محمد والزمن الحالي، فخلافا لإرادته ذاع صيته في المنطقة، وجاءته الوجاهة في المنطقة من دون أن يلهث وراءها أو يسعى إليها، ومع أن تحسن أوضاعه المالية فتح له أبواب الطبقة الحاكمة واسعا، إلا أنه مارس نوعا من النفوذ الناعم، استخدمه في مساعدة أقربائه وأبناء بلدته وسائر المنطقة والقيام بما يُسمى إصلاح ذات البين في منطقة تعج بالخلافات الأهلية والعائلية.

حتى نفسه الأخير، بقي محافظا على لباسه العربي (الحطاطة والعقال والغمباز)، كان مقاوما لأي استدخال على عادات وتقاليد المنطقة ولو باللباس، ومع أن بيئة اختلاطه التجارية (وحتى بيئته الأهلية أيضا) كانت تغريه بالتأنق الأوروبي، غير أنه بقي ثابتا مع عادات جيله وجيل آبائه وأجداده، تنعّم بثروته وفق ثقافته، ورفض أن يسند الترقي الاجتماعي على البعد المالي وحده، ما لم يتم تحصيله بالعمل الصالح والسيرة الحسنة والتقوى الدينية وفقا لبساطته في فهم الدين القائمة على الانفتاح على الآخر المختلف بالدين والمذهب والعقيدة.

غدا تودع بلدة مقنة بكامل أبنائها وعائلاتها أحد رجالاتها الذي فاضت وجاهته على منطقة بعلبك الهرمل، وإذ هو يغادرها لالتحاف ترابها العزيز، إلا أن الكثير منه سيبقى فوق ترابها، تتنفسه حكاية تُحكى وسيرة تُحتذى وعلما ترفعه.

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى