حكايات من راشيا عن الاستقلال…رسائل بأقراص الكبّة وكرامي يستعير بنطالا من عسيران
كتبت ميرنا دلول
بين سوق راشيا العتيق وقلعتها المنتصبة في أعلى نقطة، تسمع نداءات الحجارة المرصوفة، وهي تروي قصصاً تحملكَ إلى ذلك اليوم الذي عبر فيه موكب إعتقال زعماء لبنان في الحادي عشر من تشرين الثاني 1943، روايات تلامس وجدانك كشعب يعي حقيقة معاني الإستقلال ومعانيه السامية.
الحجارة الناعمة الممسوحة برياح الزمن، الأبواب الخشبية المنتشرة صعوداً، القناطر وواجهات المحال، وجوه الناس التي تنظر إليها تُخبرك أن راشيا وقلعتها دخلتا التاريخ والوجدان اللبناني، وتظل تلك ” الخبريات ” التي يتناقلونها جيلاً بعد جيل، تحكي فصلاً خالداً ومجيداً من فصول الإستقلال.
من السوق العتيق ترفع نظرك عالياً، تتراءى القلعة أمام ناظريك، تقف شاهدة على تاريخ كبير يمتد لتسعة قرون خلت من الأحداث، لكن يظل حدث الإعتقال الشهير هو الغالب عليها، لإرتباطه بشكل وثيق بتاريخ لبنان الحديث، وتظل التفاصيل الصغيرة لأحد عشر يوماً هي مدار الحديث بين أهالي راشيا، وبينهم وبين زائريهم خصوصا هذه الأيام.
عادل عسيران وعبد الحميد كرامي وصلا إلى القلعة بثياب النوم ” البيجاما “، وإن كان عادل عسيران قد أحضر حقيبة ملابسه معه و ” المزوية ” التي تركها في غرفة توقيفه، فإن عبد الحميد كرامي لم يكن يحمل شيئا، فإستعار بنطالاً من عادل عسيران لا يتماشى مع ذوقه في الملابس، لكن الضرورات تبيح المحظورات، وعليه تقطيع المرحلة كيفما شاء .
عادل عسيران ” وزير الإقتصاد والتموين ” في حكومة رياض الصلح، التي أثارت غضب المفوض السامي الفرنسي الجنرال أولييه فإعتقل رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة وثلاثة وزراء معهم إضافة إلى نائب الشمال عبد الحميد كرامي، عسيران كان مشهوراً بفطنته، فتوصّل إلى وسيلة تواصل ” مزدوجة “، الأولى بينه وبين رئيسي الجمهورية والحكومة المنعزلين كل في غرفة، وبينه وبين أهالي راشيا من جهة ثانية، لتنسيق المواقف داخلياً وخارجياً .
إستشعر أهالي راشيا المسؤولية الكبيرة، فرئيسهم المنتخب حديثاً ورئيس حكومته وبعض الوزراء قيد الإعتقال هنا في قلعتهم الشهيرة، ستة رموز وطنية معتقلون لدى سلطات الإنتداب الفرنسي، وذنبهم رفضهم لسلطة الوصاية، ومطالبهم إستقلال لبنان.
كثيرة هي ” الخبريات ” التي تناستها المدونات عن راشيا وقلعتها، وكثيرة هي المواقف الوطنية التي أبداها أهالي راشيا خلال تلك الحقبة، المشرفة السياحية في القلعة السيدة وفاء زاكي قالت لـ ” مناطق.نت ” : ” كانت المهمة الأولى لأهالي راشيا والقرى المجاورة الوقوف بجانب القادة وتوفير كل سبل الدعم المعنوي والمادي لهم للصمود، وإيجاد وسيلة للتواصل معهم داخل المعتقل “.
أضافت : ” ببعض الفطنة إهتدى الأهالي لحيلة أمكنتهم من هذا، فكانت الرسائل المتبادلة تًدسُّ في أرغفة الخبز وأقراص الكبة، وكانت هذه الرسائل تعمم على الجميع داخل القلعة، فتتأتي أقوالهم متطابقة، وهذا ما ادهش المفوض الفرنسي، لأن أقوال القادة الموحدة أربكتهم وأحبطت محاولات الفرنسيين لشق صفوفهم”.
وقالت : ” كان الوزير عسيران يحب الطعام القروي، والكثير من النسوة اللواتي عايشن تلك المرحلة قصوا الأخبار عن طلبه لبعض الأكلات كالـ ” شيش برك ” والـ ” بيض بقاورما ” و ” الكبة بالصينية ” و ” الكشك ” وغيرها، وكانت الرسائل تُسرب من خلال أرغفة الخبز، وعبرها تعمم خطة رئيس الجمهورية للتصدي، وهو الذي رفض التدخل العسكري أو القيام بأي أعمال أمنية، وما يحكي عن معارك حصلت يوم الثاني والعشرين من تشرين الثاني غير صحيحة، فالصمود الذي أبداه المعتقلون هو الذي ساهم في كسر إرادة الفرنسي، ولهذا الصمود دور لأهالي راشيا فيه “.
نتيجة نضالات اللبنانيين ومواصلتهم التحركات والتظاهرات، والمواقف الدولية ومنها البريطانية والاميركية، ونزولاً عند أوامر الجنرال كاترو الذي أوفده الجنرال ديغول رئيس حكومة فرنسا الحرة في لندن الى بيروت لمعالجة الازمة. تمّ الافراج عن المعتقلين في 22 تشرين الثاني الذي صار عيداً وطنياً، وبعدما تبلغ المعتقلون قرار الافراج انتظروا وصول السيارات الرسمية الثلاث التي اقلتهم الى بيروت، واجتازت الطرقات والشوارع وسط الجماهير التي تحلقت هازجة فرحة في راشيا، وقرى البقاع، وصولاً الى بيروت.
” مناطق.نت ” زارت هذه القلعة عشية ذكرى عيد الإستقلال للإطلاع على هذا المكان التاريخي، وراشيا بلدة بقاعية تقع قبالة جبل حرمون (جبل الشيخ)، فوق هضبة عالية. وإسمها السرياني ” راش آيا ” ومعناه نور المعرفة عند الرومان، وآلهة الأمطار عند البابليين، وشهدت قلعتها الشهيرة الكثير من المحطات لعل أبرزها تصدي الأهالي لجنود العدو الإسرائيلي إبان الإجتياح الإسرائيلي عام 1982 ومنعهم من تدنيس القلعة التي يعتبرونها مهد الإستقلال.