“قرميدة” الحاج عوض المقداد …وبدايات الشيعية السياسية في بعلبك
حسين حمية
هي اسم قصر وهو بالحقيقة قصر،”القرميدة” أو “قرميدة مقنة” أو بيت الحاج عوض المقداد أو دارته أو منزله، هي تسميات لذاك القصر، لم يكن إطلاقها جزافا، فهي تؤشر إلى أكثر من معنى، منها، تخفيف المحتوى الإقطاعي في العلاقة مع صاحبه من جهة، وإلى تواضع صاحب الدار من جهة أخرى، ويبقى المقصود، أنه قصر بناه المرحوم الحاج عوض المقداد (1855-1955) في بلدة مقنة (تقع على بعد 10 كلم شمالي بعلبك).
مع أن بلدة مقنة كسائر البلدات البقاعية، اجتاحتها موجة البناء على طراز الحديث، ومنها ما هو على تكلفة مادية عالية، وبشكل أطاح بهوية القرية التقليدية، لمصلحة أحياء جديدة يمكن تسميتها “نيو مقنة” التي تتشابه مع الأحياء الفاخرة للبلدات الغنية في جبل لبنان، مع هذا، لم تنل هذه الموجة من مكانة القصر القديم في مقنة، لا بل زادت من قيمته الوجدانية، بعدما تحوّل إلى الراسمال الرمزي للبلدة وأهاليها، وخصوصا عائلة المقداد التي يتنامى دورها السياسي والاقتصادي على الصعيدين المناطقي والوطني.
يقع القصر في وسط البلدة، على الخط الدولي الذي يصل المنطقة بمدينة حمص السورية، له بوابة رئيسية هي مدخل للسيارات، تنفتح على ممر مزنر باشجار سرو عتيقة ويواكبه جدول ماء إلى ما قبل بواية القصر، يخيّل لعابر هذا الممر أنه في حرم قصر أندلسي، وفي هذه اللحظة يحار النظر، في أن يتكحل بمهابة المبنى، او أن يسرح على باحة مفروشة بالمروج الخضراء، سيّجتها تشكيلة من الورود، يختلط أريجها العابق مع فيء أشجار هرمة، تتظلل تحتها حكايات وذكريات وأخبار.
لا ينفك الحديث عن القصر، عن الحديث عن زمن بأكمله، تحضر فيه سيرة صاحبه وتاريخ المقداديين في البقاع، لقد بناه الحاج عوض على مراحل، بدءا من مطالع القرن العشرين، وهو زمن كانت قد اكتملت فيه عملية نزوح عائلات الشيعية من جبل لبنان إلى منطقة بعلبك لتتوزع على قراها ودساكرها، كما اضمحلت فيه زعامة الحرافشة لهذه البلاد لترثها ثنائية الحيادرة والحمادية، في حين كانت تتجاذب المنطقة خيارات سياسية كبرى تتراوح بين الانضمام للدولة العربية بقيادة فيصل الأول أو الانضمام لدولة لبنان الكبير.
ولد الحاج عوض بن علي بن داوود بن عيسى بن شديد المقداد في بلدة لاسا (جبل لبنان) عام 1875 م,نزح مع والده من قريته إلى البقاع الشمالي, و تحديداً إلى قرية الكنيسة حيث تمكن من شراء 6000 دونم من الأراضي الزراعية في بلدتي مقنة و الكنيسة من آل حيدر و آل مطران.
يتألف القصر، من طبقتين، الأرضية وتحوي مضافة كبيرة، والعليا تصل إليها عبر درج حجري جانبي يوصلك إلى صالون واسع موصول بشرفة تطل على الحديقة، وجرت إضافات وتعديلات عديدة ما بعد وفاة الحاج عوض، فبني بحذاء القصر مبنى إسمنتي، كما تم هدم اسطبلات الخيول، وحدث أن جرى ترميم قرميد القصر إثر عاصفة ثلجية ضربت المنطقة في التسعينيات.
تساوق بناء القصر مع طموحات الحاج عوض السياسية وتطلعاته، لقد كان يدرك أن منطقة بعلبك تعيش فراغا قياديا وزعاماتيا بعد انهيار دولة الحرافشة، كما أن ورثتهم من باشاوات المنطقة مع ضعف الدولة العثمانية لم يستطيعوا الإمساك سياسيا واجتماعيا بالعائلات الشيعية النازحة من جبل لبنان.
كان نزوح المقداديين من قريتهم الجبلية على مراحل وغير منظم، ما بعثرهم على القرى البعلبكية وأفقدهم قوتهم العائلية، فكان بناء الحاج عوض لقصره في مقنة على هذا القدر من المهابة والفخامة، نقطة تحول في تغيير معنى النزوح عند أبناء عائلته، حيث أدى إلى إعادة تجميعهم وتثبيت فكرة استيطانهم بشكل نهائي لمنطقة لعلبك بعد تبخر أحلام العودة إلى ديارهم، بتنامي الدور المسيحي المدعوم أوروبيا في جبل لبنان على حساب الشيعة.
أقام الحاج عوض المقداد في قصره بمقنة وأقامت معه سياسته التي لعبت دورا كبيرا في صياغة علاقات مكونات المنطقة (من عائلات وعشائر) ببعضها البعض، وكذلك علاقة المنطقة مع محيطها اللبناني، وأيضا إرساء معادلات وتوازنات النفوذ والسلطة استمرت عشرات السنين، لقد كان مشاركا أساسيا في تنظيم التعايش بين العائلات القادمة من جبل لبنان وسكان المنطقة الأوائل ونزع فتيل الحروب والتوترات فيما بينهم، وتحالف مع الحماديين وأسهم في ترجيح كفتهم على الحيادرة، وكان بشخصه في صلب المعادلة التي تحكم المنطقة إلى جانب زعماء العائلات والعشائر البعلبكبة الآخرين، وأعاد إنتاج دور عائلته في المنطقة وأسس لها مكانة مرموقة شكلت خميرة لأبنائها للترقي السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
مع ظهور الكيانات الجديدة التي تولدت عن معاهدة سايكس بيكو واستبعاد الشيعة العرب من معادلات الحكم فيها، كان قصر الحاج عوض المقداد في مقنة، مكانا لإعادة رسم دورهم في الشرق والتخفيف عليهم من وطأة التغييرات المفروضة من جانب القوى الاستعمارية، فكانت دارته ملتقى جمعته بكبار زعماء الشيعة في لبنان والعالم، وقد زاره الكثير من المراجع و الشيوخ الأعلام وعلى رأسهم الإمام السيد عبد الحسين شرف الدين(قده) و آية الله الشيخ حبيب آل إبراهيم(قده) و المفتي العلامة الشيخ موسى شرارة(قده).
ومن خارج لبنان، ًفقد زاره أيضا علماء من النجف الأشرف على رأسهم الإمام أبو الحسن الموسوي الأصفهاني(قده) حيث أمضى عنده مدة من الزمن وذلك في أربعينيات القرن الماضي. وزاره كذلك علماء من إيران على رأسهم آية الله السيد أبو القاسم الكاشاني(قده) قائد الثورة الشعبية الإيرانية و كان ذلك في أوائل خمسينيات القرن الماضي.
من دارته في مقنة، بعد تعاظم دورها، سعى الحاج عوض إلى مأسسة الدور الشيعي، وترتيب علاقاتهم مع المكونات اللبنانية الأخرى،فقد أسس مع عدد من زعماء منطقة البقاع ، منهم علي جلول و الشيخ نايف زغيب و رشيد حرفوش و رشيد بيضون “جمعية التقريب بين المذاهب” حيث كان لها الفضل في تأسيس أول مدرسة لفقراء الشيعة في بيروت قبل تأسيس المدرسة العاملية.
وبانخراط الحاج عوض المقداد، في تثبيت التعايش الطوائفي في لبنان، تحولت دارته في مقنة مزارا للزعامات والقيادات المسيحية، ومكانا لفض الإشكالات التي كانت تطرأ بسبب الملكيات العقارية بين أقاربه والكنسية المارونية، وقد استقبل في دارته العديد من رجال الدين المسيحيين، كما نسج علاقات متينة مع الزعماء الموارنة السياسيين وعلى رأسهم الرئيس بشارة الخوري.
لا شيء في محيط قصر الحاج عوض المقداد بقي على حاله، مقنة معظمها تغير والمنطقة معظمها تبدّل، والقصر تناوب على سكناه الأبناء الورثة (نجله المرحوم الوزير حسن المقداد وشقيقته المرحومة الحاجة فاطمة) ثم الأحفاد، ومعهم اليوم أحفاد الأحفاد، لكن القصر ظل جامدا، لا يتزحزح عن مهابته، وأحجاره وأعمدته التي ما زالت تقوى على عوادي الدهر، هي ليست طينا أو إسمنتا فقط، هي مجبولة من حكايات وأخبار وحوادث، تقصها شهرزاد مقناوية على كل شهريار طموح لا تغفو عيناه عن المستقبل.