المبيّض…المهنة التي قدمت من مصر وحطّت في جويا
حيدر حيدر
حكايا المهن مع القرى له نكهة جميلة ومحبّبة لم يبقَ منها سوى المرويات تتلاشى شيئاً وشيئاً مع تقدم الزمن وتطور التكنولوجيا، ولطالما تميّزت البلدات والقرى كلٌ منها بمهنة ما، رافقتها حكاية لنشوء تلك المهنة عمل بها معظم أبنائها فطبعت البلدة بطابعها وعُرف أبناؤها بأنهم من رواد تلك المهنة. من المهن التي كان لها حكاية وتاريخ نشوء، هي مهنة البياض في جويا حيث تميّزت تلك البلدة بتلك المهنة. أما الحكاية فتقول إنّ تاريخ المهنة في البلدة يعود لزمن الحملة العسكريّة التي قادها ابراهيم باشا على بلاد الشام ومن بينها لبنان، حيث كان يرافق الجيش طبّاخون وحرفيون من بينهم مَن أتقن مهنة «البياض».
في تلك الفترة كانت تشهد جويّا كلّ يوم سبت سوقاً تُعتبر الأهمّ في المنطقة وكان يقصدها التجّار والمزارعون وبائعو المواشي لعرض بضائعهم ومنتجاتهم، قادمين من مختلف البلدان لا سيّما فلسطين والأردن وجبل حوران وراشيّا وغيرها.
ويروي أهالي جويّا خصوصاً كبار السن الحكايا حول نشوء وتاريخ مهنة البياض في البلدة، فيقولون إنّ مصريّاً كان في عداد حملة ابراهيم باشا يتقن تلك المهنة زار سوق جويّا وبدأ بممارسة مهنته من تبييض وتلميع للأواني النحاسيّة، فتجمهر حوله الناس وأبدوا استغرابهم للعمل السحري الذي قام به والذي حوّل تلك الأواني التي تآكلها الصدأ من اللون الأسود إلى اللون الأبيض البرّاق.
أُعجب أهالي جويا بتلك المهنة وأثارت فضولهم وشغفهم وأيضاً لفتهم المبالغ الماليّة الكبيرة التي جمعها ذلك «المبيّض» في يوم واحد، حيث أقبلت الناس عليه من كل حدب وصوب، الأمر الذي راق له فأقام في جويا التي تقاطر معظم أبنائها من أجل تبييض أوانيهم النحاسيّة.
تآلف المصري الذي كان شأنه شأن معظم المصريين يتمتّع بروح النكتة والمرح مع أهالي جويا الذين كانوا وما زالوا أهل كرم وضيافة، حيث أدّى ذلك إلى ودّ بين الطرفين واكتساب عدد كبير من أبناء البلدة لمهنة البياض، فزاولوها وبرعوا فيها وحقّقوا أرباحاً وفيرة، واستمرت بينهم يتوارثونها جيلاً بعد جيل حتّى امتهنها معظم أبناء البلدة.
مهارة.. حنكة ومغامرة
تحتاج مهنة البياض لمن يريد أن يتقنها إلى المهارة والدقة والصبر لأن العمل فيها يستغرق أوقاتاً طويلة وأيضاً يتطلّب العمل بها عدداً من المواد الأولية منها القصدير، ماء التوتيا، القطن والنشادر. هذا ويتطلّب العمل في المهنة عدداً من الأدوات منها سنداناً ومطرقة لتجليس النحاس إضافة إلى مكواة وملقط كبير من الحديد والكور (المنفخ)، وفي فترات لاحقة استخدم «المبيّضون» مراوح هواء يدويّة لإشعال النار.
يوسف لقيس واحد من كثر في جويا ممّن أتقن مهنة «البياض» منذ الصغر وما زال يزاولها. وهو يقول عن مراحل العمل فيها: «بدايةً يتمّ إشعال النّار حيث توضع عليها الأواني النحاسيّة وذلك من أجل رفع درجة حرارتها، ثمّ يتمّ «جليها» عبر مسحها بالقطن والرماد وماء التوتيا لإزالة الصدأ والبقع السوداء، ثمّ يوضع القليل من القصدير على النحاس الساخن ليذوب ويُمسح بالقطن حتّى يغطّي القصدير مجمل النحاس، ثمّ يُغسل بالمياه فتبدو الأواني وكأنّها جديدة».
يتطلّب العمل في مهنة «البياض» الانتقال من مكان لآخر وذلك كسباً للعيش وطلباً للرزق، وهذا ما يُرتّب على العامل فيها بأن يتمتّع بقوّة الإرادة والصبر وروح المغامرة، حيث كان ينتقل المبيّضون إلى سائر القرى والمدن والبلاد العربيّة ولا سيّما فلسطين والأردن وسوريا والعراق… من خلال رحلاتهم وتنقلاتهم كان العاملون في المهنة من أبناء جويا يبنون علاقات اجتماعيّة وعائليّة متينة مع أبناء تلك البلدان ويصاهرونهم، لذلك أقام جزء لا بأس به من أبناء جويّا في فلسطين نظراً لقرب المسافة ثمّ غادروها في العام 1948 حين احتلّها الصهاينة، ومنهم مَن بقي في الأردن كآل حدّاد وآخرون استقرّوا في سوريا من آل جشّي والدايخ…
وسائل النقل والمواصلات كانت في ذلك الوقت بدائيّة، وكان «المبيّضون» من أبناء جويا يتنقّلون بين البلدان راجلين يحملون عدّتهم وأمتعتهم على ظهورهم أو على الدواب، وكان غيابهم عن بلدتهم وعائلاتهم يستمرّ لأشهر عديدة وأحياناً لعام كامل.
رحلة «البياض» كانت تُوصف «بالخطرة» لأنّها تُعتبر بمثابة مخاطرة، وكانت تتميّز بأنّها جماعيّة تضمّ مجموعة من الأشخاص الذين لا يقلّ عددهم عن خمسة أفراد، يقودهم المعلّم الذي يتمتّع بخبرة كبيرة وقدرة على تحمّل المسؤوليّة وإدارة العمل.
عندما تحطّ المجموعة رحالها في بلدة ما، يبدأ تقاسم العمل بين أفرادها، فيطلقون الصيحات: «مبيّض مبيّض»، ومنهم من يتولّى إشعال النار وتحضير الماء، ومن ثمّ ينتقلون إلى أماكن أخرى، حيث كانت مهنة «البياض» تدرّ أموالاً وفيرة مقارنة بما كان ينتجه الفلاحون.
وفي نهاية جولتهم، كانوا يعودون إلى بلدتهم وعائلاتهم محمّلين بالهدايا، فتستقبلهم عائلاتهم بأجواء مليئة بالفرح مهنّئة إيّاهم بعودتهم سالمين، فيعمد عندها «المبيّض» إلى تسديد ديون عائلته (أي المبالغ التي استدانتها ومن ثمّ أنفقتها في غيابه)، أمّا باقي الأموال فكان يعمد العاملون في المهنة إلى شراء الأراضي بها، لذلك نرى أنّ مساحة خراج بلدة جويا تُعتبر من أكبر المساحات في محيطها. خلال فترة الشتاء كان معلّمو «البياض» في جويّا يقضونها في البلدة، لذلك تكثر أيضاً المقاهي في البلدة.
الحاجة أمّ الاختراع
تلازمت حياة المبيّض مع الغربة والعيش بين الغرباء، لذلك ابتدع أصحاب مهنة «البياض» لغة خاصّة بهم عُرفت بلغة «الأجم» من أجل تلبية احتياجاتهم ومتطلّباتهم، وكي لا يقع أي خطأ أو سوء فهم مع أولئك الذين يختلفون عنهم بلغتهم وعاداتهم، ومن أجل الحفاظ على سلامتهم، وهذه بعض الكلمات التي لا تزال ذاكرتنا تحفظها وهي: (لا تئجم: لا تتكلّم)، (الأروب مش عش: الشخص غريب)، (افشح: امضي، اذهب)، (تتن: دخان)، (سويدة: حاجة)، (فئسه: صبية)، (ابريف: ولد)، (سويدي: مأكل)، (عَش: ملح، جيّد)، (فشح الأروب من شلو: أبعد الغريب عنا)، (كيفو (كك بالمصري): أعطيه)، (جيفا: عملة، مصاري).
مع تطور الزمن ودخول الأدوات الكهربائيّة إلى المنازل، أصبحت الأدوات النحاسية من الماضي، فخفت صوت «المبيّض» وصارت هذه المهنة طيّ الذكريات…
لقد علّمت مهنة «البياض» أبناء جويا الصبر وقوّة الإرادة وحبّ المغامرة واكتشاف بلدان جديدة، فعندما كان أبناء القرى يعملون في أراضيهم نهاراً وينامون في بيوتهم، كان «المبيّضون» من أهالي جويا يجولون البلدان بحثاً عن الرزق، فكيف حين تطوّرت سبل المواصلات عبر السفن والسيّارات والطائرات؟!!
لقد شكّلت مهنة البياض عاملاً أساسيّاً ومشجّعاً على الهجرة، وخصوصاً لأبناء جويّا الذين يبلغ عددهم حوالى ثلاثين ألف نسمة، يقيم خمسة آلاف منهم في البلدة ومثلهم في العاصمة بيروت، أمّا البقية فينتشرون في بقاع العالم. وأينما حلّوا كانوا الأوائل في العمل والنجاح، وهم يؤكّدون دائماً أنّهم لا يستبدلون بلدتهم بكنوز العالم، هم كالنحل يجمعون أطياف الرياحين والزهر ويعودون بها إلى مملكتهم في جويّا.
قدّم مغتربو جويّا خدمات عديدة لبلدتهم جديرة بالاحترام، منها شقّ طرقات ومدّ شبكات مياه وكهرباء وبناء مساكن ومدارس ومعاهد جامعيّة ومساجد وحسينيّات ومستشفى ونادٍ ومبنى بلديّة، وقدّموا أيضاً مساعدات ماليّة وغيرها الكثير…
وقد عبّر الشاعر الكبير محمّد علي شمس الدين عن واقع المغتربين في قصيدة «قرية الطير» فقال:
حملت قلبي في أحشاء عاصفة خلف البحار وفجرت البراكينا
يا قرية الطير والغادين في سفر والعائدين كروماً أو بساتينا
والرافضين من الأشياء أوسطها والمبدعين ملوكاً أو شواهينا
الماء والنار بعض من صنائعهم لكنّهم لم يخونوا الخبز والتينا
سبحان من جعل المشكاة من شجر نور الإله ولو سمّاه زيتونا.