شجرة «الميدل إيست» الميلادية والحاجة إلى إعادة تدوير العقول والأفكار
زهير دبس
أثارت شجرة «الميدل إيست» الميلادية بعد ساعات قليلة على وضعها في قاعة السيدر CEDAR LOUNGE في مطار رفيق الحريري الدولي، انتقادات واسعة في مواقع التواصل الاجتماعي أدت الى الإطاحة بها. فقد عبّر المنتقدون عن استيائهم من الزينة التي تضمنت قطع طائرة ومحتوياتها من كراسي، وصندوق أسود وأدوات إغاثة وغيرها، وأسموها شجرة «العار» لا شجرة الميلاد والتسامح والمحبة، وبأنها «إهانة للبنان خصوصاً أن المطار يشكل واجهة لهذا البلد»،. وبين من اعترض بشكلٍ ساخر ومتهكم على الفكرة، وبين من اعترض لأسباب دينية على أنها مساساً بالرموز المقدسة، أزيلت الشجرة ولم يشفع لها البيان الذي أصدره رئيس مجلس إدارة الميدل إيست محمد الحوت موضحاً «إن الشجرة الميلادية هي مبادرة بيئية للشركة تتعلّق بعملية إعادة التدوير والمحافظة على البيئة إثر تزيينها بقطع معدنية وقطع خاصة بالطائرات والهدف من ذلك هو دعم البيئة. والفكرة ليست مبتكرة بل تلجأ إليها العديد من دول العالم من أجل التوعية بقضية محددة، ففي نيويورك قامت إحدى المستشفيات بالاستعانة بأدوات طبية لمجسّم شجرة الميلاد، فالمسألة تتعلّق بحماية البيئة ومنع قطع الأشجار والتوعية على عملية التدوير». وأضاف: «طالما أخذ الموضوع هذا المنحى، ننتهز هذه الفرصة لنقول حافظوا على لبنان الأخضر، حافظوا على بيئتكم وميلاد مجيد».
إزالة شجرة الميدل إيست الميلادية، عكست مسألة إتساع حيّز المقدس في مجتمعاتنا وفي الوقت نفسه انحسار مضامينه. وعكست أيضاً تمدّد هذا المُقدّس إلى خارج الرموز الدينيّة التي يحيلها أيضاً إلى مقدّسات أخرى ممنوع المساس بها. مقدّس يرتفع ليحجب المضامين الحقيقية والمعاني العميقة لتلك المقدسات وهي الانسان الذي لا تعلوه قيمة ومن أجل أنسنته بُعثت الرسل وأُنزلت الأديان.
المغرّدون الذين رشقوا شجرة «الميدل إيست» بالانتقادات ووصفوها بشجرة العار لم يشاهدوا ولم يستفزهم مشهد مطمر الكوستا برافا الذي يتسع يوماً بعد يوم ويتمدّدد بمراسيم ويقع على بُعد مئات الأمتار من الشجرة، ولم تستفزهم روائحه «العطرة» ووجوده إلى جانب المطار وعلى مدخل العاصمة وبمحاذاة البحر. لم يُشكّل بنظرهم «إهانة للبنان»، فالبيئة النظيفة وصحة الإنسان ليسا من المقدّسات ولا يتطلبان حُرماً ممنوع المساس به، بينما استغلال شجرة ميلادية حملت عنواناً بيئياً يمنع قطع الأشجار من خلال الدعوة إلى «تدوير» الأدوات والقطع التي عُلّقت عليها، يُعتبر مسّاً بالرموز الدينية التي تتسع يوماً بعد يوم وتستعمل أداةً في قمع الإنسان تقييداً لحريته وطمساً لحقوقه.
قادني التفتيش عن «أشجار الميلاد الغريبة» و«المس بالرموز» إلى مُحرك البحث غوغل. وإن كانت المقارنة والمقاربة لا تستقيمان في هذا الموضع، إلا أن المحرّك أفصح في البلدان التي نتباهى بها ونستميت للتماهي معها، عن نماذج غريبة عجيبة لأنواع وأشكال من أشجار الميلاد وزينته، بعضها توعوي وبعضها الآخر تجاري بحت وكلها استخدم الشجرة لإيصال الفكرة التي يريد، منها إطارات سيارات ومنها ربطات عنق رجالية وصولاً إلى شجرة مصنوعة من عدد كبير من الواقيات الذكرية للتوعية من خطر السيدا.
لم تلقَ شجرة الميلاد الدامورية والمصنوعة من «أقراط الموز» وأقامتها بلدية الدامور أمام مبناها مصير نظيرتها في المطار. والشجرة صُمّمت لتكون صرخة بوجه المسؤولين لحثّهم على مساعدة المزارعين الذين يعاني إنتاجهم من الكساد وتدني الأسعار. وبالرغم من أنها نالت نصيبها من الانتقادات إلا أنها صمدت، وهذا يعود للقيمين على الشجرة وإيمانهم بالفكرة وثقتهم بها. وهذا يطرح العديد من الأسئلة وعن الذي يجوز في الدامور ولا يجوز في المطار وعمّا إذا كانت الرموز هنا تختلف عن هناك. والتساؤل هنا هل الفكرة الخلاقة التي جسّدت الدامور في شجرة مصنوعة من الموز (والبلدة تشتهر بزراعة أشجار الموز) أهانت الرموز الدينية وما الإهانة في ذلك، وهل هناك أبلغ وأجمل من شجرة الموز هذه للتعبير عن الدامور كبلدة تشتهر سهولها بتلك الزراعة.
المنتقدون للشجرة لم ينتقدوها جميعاً من الخلفية نفسها، فقسم كبير من هؤلاء لم يفهم الفكرة وانتقدها بشدة على أنها بشعة وعبارة عن خردة، وهذا إن دلّ فيدلّ على أن الفكرة نجحت في إيصال الهدف الذي من أجله صُنعت بهذا الشكل وهذا لا يُقلّل من قيمة المناسبة ولا من صاحبها التي تمحورت جلّ رسالته على قيم السلام والتسامح والمحبة والإيمان والتي نأت البلاد بنفسها عن تلك القيم.
شكّلت شجرة الميدل إيست – بمعزل عن المناسبة- نموذجاً حيّاً ومختبراً للفكرة الجديدة ومقاربتها والنظرة إليها، واصطدمت بمقدسين الأول ديني أحال الشجرة إلى مقدّس وجرّدها من أغصانها وجعلها عصيّةً على التوظيف، والثاني رفض الخروج من نمطية الصورة وإطارها الراسخ عميقاً في الأذهان، وأحالها إلى مقدّس آخر ممنوع المس به. هذان المقدّسان يطرحان إشكالية التمترس خلف المقدسات والتي لا تعني بالضرورة التزاماً بالدين، في بلادٍ يتحكم بعلاقاتها ونمط الانتاج فيها منظومة معقدة من الحسابات والاعتبارات المتداخلة، والتي غالباً ما تشتبك وتتصارع في الشكل وحول العناوين، فتحيلهما إلى رمزيات وأيقونات جامدة فيما تهمل المضامين ولا يتم الالتفات إليها.
ليس دفاعاً عن شجرة الميدل إيست ولا رفضاً بالحق في انتقادها، ولكن دفاعاً عن الفكرة الجديدة التي يحق لها أن تتكئ على مناسبة دينية ورموزها وذلك خدمةً للإنسان وقضاياه. لذلك السؤال يُطرح أين يكمن المس بالمقدسات إذا كانت الشجرة رمز ولادة السيد المسيح استخدمت كرسالة توعية بيئية من خلال الدعوة إلى تدوير الأدوات والقطع التي نستخدمها في حياتنا. وأين العار في استقبال الناس في مرفق حيوي من خلال تلك الرسالة. الأمر يحتاج ليس إلى إعادة تدوير القطع والأدوات التي نستعملها، بل ربما أصبحنا بحاجة إلى إعادة تدوير العقول التي في الكثير من الأحيان تحاكي وثنية الأفكار وتؤدي في الغالب إلى تصنيم الرموز.