الاغتراب في متاهته… لبنان المحلّق بأجنحة كثيرة!(تجريبي)
بقلم الاستاذ زهير دبس:
يتربع الانتشار اللبناني في العالم على عرش عدد من المميزات تجعله فريداً بين مثيلاته في العالم. وإذا كانت أعداد المهاجرين المرتفعة نسبة لعدد سكان لبنان وحجم تحويلات المغتربين الى وطنهم الأم من أبرز تلك المميزات، فإن ميزة من بين تلك المزايا تعتبر علامة فارقة في الاغتراب اللبناني، تثير الجدل وتحمل في طياتها الكثير من الالتباس والإشكالية وتؤدي الى شرذمة الانتشار اللبناني في العالم وتبديد طاقاته، وهي تتمثل بالعدد الكبير للمؤسسات والجمعيات والأحزاب والأندية والبرامج والمشاريع والمجالس الاغترابية التي تنطق باسم المغتربين وأنشئت لاجلهم وتعمل باسمهم. والمفارقة أن البعثات الديبلوماسية اللبنانية في العالم، من سفارات وقنصليات ومكاتب تمثيلية، والتي تتبع وزارة الخارجية والمغتربين، تشكل الحلقة الأضعف في تلك السلسلة التي تعيث بالاغتراب تشرذما وتفتيتاً وتبديداً للهوية الوطنية التي تتلاشى يوماً بعد يوم.
عبر تاريخ لبنان الطويل شكّلت الطوائف ممراً إلزامياً للدخول إلى الوطن الذي بقي الانتماء إليه ملتبساً طائفياً. وطن يصح فيه القول إنه وطن الاقليات الخائفة والقلقة التي تجدد احترابها كل فترة من الزمن.
لم يستطع الانتشار اللبناني في العالم أن يبقى بمنأى عن تأثيرات الطائفية التي ضربت جذورها عميقاً في تركيبة وبنية النظام السياسي في لبنان وانعكست تطييفاً وتمذهباً في مختلف المؤسسات والإدارات في الدولة وطاولت بحساباتها الدقيقة معظم القضايا والمجالات، وعليه يقسّم المتابعون لخارطة الانتشار اللبناني في العالم المغتربين الى تجمعات طائفية ومناطقية، فيطلقون على الاغتراب في افريقيا بأنه بغالبيته شيعي جنوبي، وفي أستراليا شمالي مسيحي – سني، وفي أميركا (بنسخته الأولى) مسيحي من جبل لبنان، وفي ولاية ميشيغن في أميركا بأنه جنوبي – بنت جبيلي، وفي فنزويللا والأرجنتين بنسختهما الأولى درزي إلخ…
لذلك شكّلت البعثات الدينية عموماً والكنسية المسيحية خصوصاً، والتي واكبت ورافقت المغتربين اللبنانيين منذ فجر الهجرة الأولى إلى مهاجرهم، ملاذاً روحياً ومعنوياً للمغتربين الذين التفوا حولها كصلة وصل بينهم وبين وطنهم الأم وكرابط متقدّم عن الروابط الأخرى. ولقد أدّت فكرة “الدولة الضعيفة” لدى المهاجرين اللبنانيين إلى سهولة اندماجهم بالمجتمعات التي هاجروا إليها هرباً من الحروب التي أشعلت وطنهم ومزقته.
لقد شكّل تلاشي فكرة الدولة كحاضن لأبنائها ومسؤول عنهم، سواء في لبنان أم في خارجه، هامشاً كبيراً لتأسيس مؤسسات وهيئات وجمعيات وأندية اتخذت من الاغتراب عنواناً لعملها تلقّفها المغتربون وتحلقوا حولها كـ “بدل عن ضائع” لدولتهم الغائبة التي عليها لعب هذا الدور كحاميية وكحاضنة لأبنائها. ولعل ما تقوم به المؤسسة المارونية للإنتشار من حملة كبيرة في العالم لتحفيز المسيحيين المغتربين ممن فقدوا جنسيتهم اللبنانية على استعادتها وإلى تسجيل أنفسهم وأبنائهم في السفارات والبعثات اللبنانية، ما هو إلا نموذج صارخ لذلك الغياب. وهو يؤكد أن الانتماء الطائفي لا زال شرطاً أساسياً للدخول إلى الوطن. فما تقوم به المؤسسة هو من مسؤولية الدولة ويقع على عاتق الوزارة التي إسمها “ وزارة الخارجية والمغتربين”.
وإذا كان الاغتراب اللبناني يضجّ بالعديد من المؤسسات والهيئات التي تنطق وتعمل باسمه، فإن الجامعة اللبنانية الثقافية في العالم شكّلت نموذجاً وإطاراً جامعاً، وكان من الممكن أن تلعب دوراً محورياً في الاغتراب، لكن الحرب التي عصفت بلبنان عصفت بالجامعة وأحالتها إلى أكثر من جامعة كل منها يغني على ليلاه. الجامعة التي أنشئت لتلعب دوراً مساعدا للدولة في جمع المغتربين والتواصل معهم وتكون بمثابة بيت الاغتراب اللبناني تضاءلت قدرتها على تنفيذ أيّ من الأهداف والشعارات العامة التي طرحتها، فتحولت تلك الشعارات إلى لوازم تتردد في المؤتمرات والمناسبات دون تحقيق أيّ منها باستثناء تلك التي تتعلق باقامة التماثيل التي تجسد المغترب اللبناني والتي دأب أحد فريقيْ الجامعة على إقامتها في ساحات مدن العالم كهدف من أهدافه.
من بين الشعارات والمطالب التي تتردّد دائماً وتشكّل لازمة في معظم المؤتمرات وفي برامج وأهداف الهيئات الاغترابية مطلب وشعار تأسيس “لوبي لبناني” في العالم. ولعل هذا الشعار يحمل في طياته الكثير من الجدل والالتباس بالنسبة للبنان، فمصطلح “لوبي”، الذي يعني تشكيل قوة ضغط لحماية مصالح البلد التي تنتمي إليه المجموعة التي أسّسته، لا ينطبق إطلاقاً على بلد كلبنان الذي لم يملك في أي وقت من الأوقات سياسة خارجية موحّدة ولم يتّفق أبناؤه على مفهوم واحد لتعريف مصالحه في الخارج. فكل مجموعة من اللبنانيين لديها فهم خاص لمصالح لبنان وثوابته، وهو ما يعكس التركيبة المتناقضة للقوى السياسية التي تتقاسم السلطة في لبنان.
لم تكتفِ أحزاب لبنان بأرض الوطن لخوض صراعاتها التي لا تنتهي عليه، فانتقلت إلى ساحات العالم لتتقاتل بين أبنائه المغتربين هناك. لذلك من الصعب أن نجد حزباً أو تياراً أو حركة سياسية في لبنان لم يُنشئ قطاعاً أو هيئة تُعنى وتهتم بشؤون المغتربين اللبنانيين في العالم، وهذه القطاعات والهيئات تواظب على تنظيم الاحتفالات والمناسبات وجمع التبرعات وتحشيد المغتربين في الانتخابات في محاولة لتعزيز قدراتها داخل الوطن، وهي تؤدي إلى شرذمة الاغتراب ونقل مشاكل الداخل اللبناني إليه.
بعيداً عن السياسة، شكّل الاغتراب مادة دسمة وعنواناً جذّاباً للعديد من المغتربين ورجال الأعمال للخوض في مجالاته، لذلك تأسّس العديد من “المجالس” و”التجمعات” التي حملت إسم الاغتراب وعملت تحت شعاراته. لكن معظم هذه التجمعات والمجالس، التي تنظّم بشكل مستمر ودوري مؤتمرات وملتقيات اغترابية، لم تستطع أن تنسج علاقة حقيقية مع المغتربين، وبقيت أهدافها تحمل أبعاداً تجارية وصورية. من بين تلك الكيانات والهيئات، تنفرد المؤسسة العامة لتشجيع الاستثمارات “إيدال” عن غيرها من تلك التجمعات بأنها تملك رؤية علمية إقتصادية جدية لجذب المغتربين للاستثمار في وطنهم. أيضاً شكّلت مبادرة “عيش لبنان” التي يرعاها برنامج الأمم المتحدة الانمائي نموذجاً فريداً لربط مغتربي لبنان بوطنهم من خلال تنفيذهم مشاريع إنمائية في بلدهم. البرنامج شكّل إطاراً عابراً للطوائف والمناطق في لبنان وفي بلدان الانتشار، بعيداً عن الحسابات الطائفية والمذهبية الضيقة التي تعتمدها معظم الهيئات الأخرى، وسلّط الضوء على البعد الإنمائي البالغ الأهمية الذي يستطيع المغتربون الاضطلاع به داخل وطنهم.
الاغتراب اللبناني ليس واحداً، لا من حيث انتشاره في العالم ولا من حيث المناطق اللبنانية التي هاجر منها؛ والوجهة (الغرب) التي أُطلقت على المهاجرين اللبنانين تيمناً بها، لم تعد صالحة لتلك المناداة، فالمهاجرون اللبنانيون توّزعوا في كل جهات الأرض، شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً، وانتموا إلى أوطانٍ جديدة اندمجوا فيها واكتسبوا جنسياتها وثقافاتها، وقبل كل ذلك قيم المواطنة التي افتقدوها في وطنهم الأم.
لقد تغيّر مفهوم الاغتراب كثيراً وأصبح فضفاضاً يفتقد إلى الدقة والتوصيف الصحيح. وبعدما كان لفترات طويلة “نوستالجيا” تحاكي المشاعر والحنين إلى الوطن، أصبح فلسفة حياة ونمط عيش يحاكي العصر ومتطلباته يختارها البشر طوعاً أو إضطراراً.
أصبحت الهيئات والمؤسسات والجمعيات التي تنطق باسم الاغتراب وترفع شعاراته حالة مشابهة للعديد من القطاعات والملفات التي يعيشها لبنان حيث باتت تسودها الفوضى وتحوّلت إلى عبءٍ على الاغتراب تثقل كاهله وتبدّد طاقاته وتضيّع بوصلة المغتربين إلى وطنهم؛ وهي لم تكن لتنشأ وتتكاثر كالفطر في جسد الاغتراب لولا غياب الدولة التي من واجبها احتكار أبوّتها في الملفات الأساسية تجاه أبنائها سواءً كانوا مغتربين أو مقيمين. وقد يكون لبنان من الدول القليلة في العالم – إن لم يكن الوحيد – الذي لديه هذا الكمّ الكبير من المؤسسات والهيئات التي تعمل في صفوف المهاجرين وتنطق باسمهم. ولأن لبنان يهوى التحليق دائماً بجناحيه المقيم والمغترب فإن أجنحة الاغتراب الكثيرة التي نبتت على ضفاف غياب الدولة تعيق بشكل كبير تحليق المغتربين في سماء الوطن!