ألف طالب جامعي في عرسال يكابدون غياب الجامعة وبُعدَها
تتعدّد ضحايا أزمات لبنان وتتنوّع اقتصاديًّا وسياسيًّا وأمنيًّا وتربويًّا، ويومًا بعد يوم تنضمّ فئات جديدة إلى المكابدين من قسوة الوضع القائم منذ سنوات. طلّاب الجامعات فئة من هذه الفئات التي ضربها وهنُ البلد، ومصيرهم مهدّد بالضياع، إذ كثرٌ منهم عاجزون عن دفع الأقساط بالدولار نزولًا عند قرارات الجامعات الخاصّة، يقابلها ضعف البديل في جامعة الوطن، جامعة الفقراء، حيث تعاني الجامعة اللبنانيّة كثيرًا بعد تقليص موازنتها وعدم انتظام الدراسة فيها، إضافة إلى اقتصار فروعها على مناطق قليلة، وبعدها الجغرافيّ عن مناطق الأطراف.
يزيد عدد طلّاب الجامعات من أبناء بلدة عرسال في البقاع الشماليّ على ألف طالب، يتوزّعون على مختلف الاختصاصات والسنوات، لكنّ أقرب فرع للجامعة اللبنانيّة إليهم يقع في مدينة زحلة، أيّ على مسافة 75 كيلومترًا، يلزمهم قطعها ساعة ونصف الساعة من الوقت.
الأهل وصعوبة المعاناة
يعيش ربّ الأسرة وخصوصًا موظف القطاع العام، كالمعلّم والممرّض والمحاسب والجنديّ وسواهم، معاناة انخفاض الأجور وتدنّي القدرة الشرائيّة، بعدما كانوا يعيشون كطبقة متوسّطة، وكفاية رواتبهم التي تساعدهم في تعليم أبنائهم في جامعة جيّدة، وتأمين سكن لائق لهم قريب منها.
تقاعد جهاد كرنبي من سلك الجمارك، وهو رب أسرة متوسّطة من ستّة أفراد، يقول لـ”مناطق نت”: “كانت خططي تدور حول التقاعد ونوع العمل الذي سأقوم به لضمانة استمرار نمط حياتنا بالمستوى ذاته، أمّا اليوم، فقد بات تأمين اللقمة أكبر همومنا”.
ويضيف: “ابنتي طالبة في الجامعة اللبنانيّة الدوليّة LIU في البقاع الغربيّ، تبلغ تكاليف فصلها الدراسي 900 دولار أميركي “فريش” و12 مليون ليرة لبنانيّة. أجرة السكن 250 دولارًا إضافة إلى تكاليف المواصلات والاتّصالات والطعام، بينما أتقاضى أنا فقط 135 دولارًا راتبًا تقاعديًّا”.
ويردف ضاحكًا: “انت ضروب أخماس بأسداس واعمل حسابات، وأنا عندي طالبة، فما بالك بمن لديهم اثنان أو أكثر في الجامعات؟”.
تكاليف غير محتملة
يقول المربّي الأستاذ الثانويّ محمد الحجيريّ وهو أبٌ لخمسة أبناء في حديثه لـ “مناطق نت”: “من المؤسف أنّ المعاناة ليست واحدة بل متعدّدة الأوجه والأشكال، نبدأ بالكلفة المالية، فقسط ابني في الجامعة 4500 دولار، وبين سكن مع كهرباء وماء وخدمات 2000 دولار، يضاف إليها تأمين أدوات: كمبيوتر (لابتوب) طابعة، صيانة محبرة، تحديثات برامج، وتشريج إنترنت بنحو 250 دولارًا. زدّ أجور النقل والتنقّل 250 دولارًا، فنصل إلى مجموع 7000 دولار للسنة الواحدة”.
ويتابع الحجيريّ: “ثمّة مشاكل ذات بعد سياسيّ، أو طائفي، أو مناطقي، تتمثّل في المضايقة أو التنمّر الذي يتعرّض له للأسف بعض أبنائنا من أشخاص في داخل الجامعة، وفي محيط سكنهم، لأسباب لا علاقة لهم بها؛ كذلك فقدان الأمن والأمان في أثناء التنقّل والتجوّل، فوضع البلد معروف للجميع، حتّى في البناية التي يقطنها هناك تخوّف دائم من السرقة والسلب”.
ويتحدّث المربّي الحجيريّ عن وجود مشاكل تربويّة “تتمثّل في عدم تقدير وضع الطالب وظروفه في حال تعرّضه لمرض أو عاصفة مناخيّة، يضطر بسببها إلى التغيّب، فيتمّ حرمانه من علامات الحضور، وأحيانا يتمّ حرمانه من المادّة كلّها وهذا ظلم كبير”.
أسئلة المعاناة والمرارة
ويختم الحجيريّ كلامه: “أنا هنا أتحدّث عن طالب واحد، والسنة المقبلة سيكون أخوه طالبًا جامعيًّا كذلك؛ أنا وزوجتي موظّفا قطاع عامّ ونريد لأبنائنا أفضل مستقبل، لكن في ظلّ طبقة حاكمة دمّرت كلّ مقوّمات البلد، ماذا عسانا نقول أو نفعل؟”.
ليس الطلاب أنفسهم بعيدين عن المعاناة، بل هم في صميم مرارتها وقسوتها، يريدون الغد المشرق، فيعملون ويدرسون لأجله، لكنّهم أيضًا يعيشون واقع أهاليهم ولا يريدون زيادة متاعبهم، بعضهم ترك الجامعة لينتقل إلى المعهد الفنّي في عرسال، بعضهم يقتصر حضوره في أيّام الامتحان، والبعض كذلك قرّر العمل قدر المستطاع لإعالة نفسه وتخفيف العبء عن كاهل أهله.
محمد عزّ الدين، شاب كان يدرس هندسة الميكانيك في الجامعة الدوليّة اللبنانيّة LIU في السنة الثانية، لكنّه بعد الأزمة الاقتصاديّة و”دولرة” الأقساط، ترك الجامعة لينتقل إلى معهد عرسال الفنّيّ.
يقول محمد لـ”مناطق نت”: “كان قراري هو الاستمرار وعدم ترك الدراسة، الصعوبات جزء من حياتنا، النجاح يكون بتجاوزها وليس بالرضوخ لها، لذلك انتقلت إلى دراسة TS معلوماتيّة في معهد عرسال الفنّيّ، والسنة الحاليّة أدرس LT في بعلبك”.
في بال محمّد عند تحسّن الظروف استكمال هندسة المعلوماتيّة، “استطعت فتح مقهى صغير لتدبير أموري اليوميّة والاستمرار، لكن كثيرين من زملائي وأصدقائي- منهم طلّاب مميزون ومعدلاتهم عالية- تركوا الجامعة وذهبوا للعمل بالحجر، واليوم توقّف قطاع الحجر فمن يعيلهم؟ ومن يعوّض عليهم ضياع أعمارهم؟”.
محمّد عزّالدين: افتتحت مقهى صغير لتدبير أموري اليوميّة والاستمرار، لكن كثيرين من زملائي وأصدقائي- منهم طلّاب مميزون ومعدلاتهم عالية- تركوا الجامعة وذهبوا للعمل بالحجر، واليوم توقّف قطاع الحجر فمن يعيلهم؟
يتابع عز الدين: “نحن جيل المعاناة بكلّ ما للكلمة من معنى، منذ سنة 2012 وحتّى اليوم مررنا بأحداث جعلتنا نكبر عشرات السنوات؛ للأسف واقع الدولة معروف، وبلديتنا لا تمتلك أدنى رؤية في العمل الإنمائيّ، فكيف ستساعد طلاب الجامعة؟”.
يختم محمد كلامه مناشدّا زملاءه الطلّاب، والذكور تحديًدا: “لا تتركوا الجامعة ولا تيأسوا بسرعة، من يستطع العودة فليعد من دون أدنى تأخير، فالعلم ليس مرتبطًا بسنّ معيّنة، نعيش واقعًا صعبًا لن ينتشلنا منه إلّا العلم”.
هذا في الجامعة الخاصّة، أمّا في الجامعة اللبنانيّة فالحال ليس بأفضل. مريم وليد الحجيريّ طالبة ماستر أول أدب إنكليزيّ، فرع الدكوانة، تسأل “مناطق نت”: “شو فيها الحياة مش معاناة؟”.
ثمّ تتابع سرد معاناتها: “من عرسال إلى الجامعة في بيروت مسافة الطريق خمس ساعات ذهابًا وإيّابًا، أجرة الطريق فقط 15 دولارًا “يا بلاش” (ضاحكة) هذا من دون عبوة مياه أو سندويش وفنجان نسكافيه، والدي صاحب مهنة حرّة، معلّم وتاجر حجر، يسعى بكلّ جهده وكدّه لتغطية أعباء المنزل وعلاج أخي من قصور كلويّ، لذلك أنا اليوم أعمل مدرّسة في مدرسة الملاذ لتأمين أعباء قسطي الجامعيّ، دوامي يوم أو يومان طوال الشهر وأيام الامتحانات فقط، لأنّ السكن في بيروت والدوام اليوميّ يتجاوزان قدرتي”.
الأمل بمستقبل أفضل
حلم مريم متابعة دراستها وإتمامها والحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنكليزيّ “لأنّها مادّة جميلة جدًّا، تفتح لنا أفاقًا واسعة في المعرفة والثقافة. قطعت نصف الطريق تقريبًا، إصراري كبير على المتابعة والوصول إلى هدفي؛ وبرغم كلّ الصعوبات لن يصيبني اليأس، فنحن كما يقول شاعر فلسطين محمود درويش: “ونحن نحبّ الحياة إذا ما استطعنا إليها سبيلا”. وهنا أتوجّه بالتحيّة إلى طلّاب فلسطين وكلّ أهلها على صمودهم بوجه الإجرام الذي يعانون منه كثيرًا”.
على الرغم من مرارة المعاناة وصعوباتها التي يكابدها الطلّاب الجامعيّون في عرسال، سواء من طرفيّة الجغرافيا وتهميش الدولة، إلى غياب الخطط العمليّة لبلديّاتها المتعاقبة (قبل الانحلال) يبقى البحث عن حلول وبدائل هو المتاح.
يقول مختار عرسال كمال عزّ الدين: “الدولة قد تأخذ سنوات للخروج من حالة الترهّل التي نعيشها، في ظلّ غياب أيّ حلول فعليّة لزيادة فروع الجامعة اللبنانيّة كي تشمل كلّ المحافظات، يبقى الحل هو المجتمع الأهليّ، لكن للأسف بلديّتنا محلولة، وفي حال حصول انتخابات بلديّة واختياريّة يجب علينا جميعا البحث عن آليّة لإنشاء صندوق خاصّ بدعم طلّاب الجامعات، وتأمين وسائل نقل دائمة، فهؤلاء أبناؤنا، والمشكلة عامّة يجب حلّها لأنّ الغريب لن يأتي إلينا لمساعدتنا، وإذا ما فكّر أحدٌ بذلك فيكون لحسابات خاصّة سياسيّة مصلحيّة”.
لسان حال طلّاب الجامعات في عرسال مثل كلّ طلاب لبنان وأهله، طموحاتهم بسيطة، تتمثّل في الاستمرار وفق قاعدة “نعيش كلّ يوم بيومه”، مع آمالهم الحثيثة ألّا تطال رحى الحرب القائمة في غزّة كلّ أطراف لبنان، “فنحن نعيش ونحيا كلّ تفاصيل القرن الحجريّ الذي قرأنا عنه في كتب التاريخ، ولسنا بحاجة العدو الإسرائيليّ كي يعيدنا إليه”.