السّينما في الجنوب.. تغييب لصالح فلسفة التّضحية والحرام

كيف نستغرب فلسفة التّضحية والموت الطّاغية في نفوس الجنوبيّين؟ لماذا نستمرّ في التّساؤلات الوجوديّة حول أساسات حبّ الجنوبيّين للتّضحية دون أن يسألوا عن حياتهم وحيوات من حولهم؟ هل هي نتاج الحروب السّابقة، أم إتمامً لمشروعٍ ضخم؟ هذه المدن الجنوبيّة التي تتشبّث بمصطلح القرية أو الضّيعة رغم كلّ التّغيّرات الّتي طرأت عليها، تبدو جافّة تمامًا. كلّ الفنّانين الّذين خرجوا من رحم الجنوب قصّوا حبل السّرّة لينطلقوا بفنونهم في مدن بعيدة تستقبل فعل الفنّ ولا تهابه.

يبدو الجنوب منفصلًا تمامًا عن المناطق الأخرى وكلّ ذلك يبدأ من السيطرة البصريّة قبل الفكريّة والعقائديّة. ما إن تدخل الجنوب حتّى ترى أعلامًا تليها أعلامُ، وشعارات، وصور، وناساً واضحين بهويّاتهم. لا يمكن أن تزيح نظرك برهةً، فحتّى لو حرّكت العنق وملت بعينيك يمينًا أو يسارًا سترى المشاهد ذاتها، لا مفرّ. هذا كلّ ما يُعطى لعين السّينمائيّ في الجنوب فلا يُخرج أفلامًا أخرى، هذه كلّ الأفلام الّتي يريدونك أن تشاهدها.

تقول زينب أنّها عام 2018 ذهبت في نشاط كشفيّ إلى مسرحيّة في النّبطيّة، في مكان صغير لا تتعدّى مساحته مساحة غرفة جلوس في بيت ذي وجهٍ معماريٍّ قديم. لم يتركوا مكانًا لعرض مسرحيّة أو فيلم. كان يقتصر موضوع المسرحيّة على سردٍ عبر الحيوانات استحضارًا لقيمٍ دينيّة عبر التّاريخ. تستعجب زينب الطّاقات الّتي رأتها تؤدّي المسرحيّة وقتها. “هؤلاء لو أعطوا فرصًا للفنّ مع الأخذ بعين الإعتبار الخروج من السّيّاق الديني العقائدي لأبدعوا في ممارسة المسرح. وإنّي لا أوجب التّخلّي عن المسرح الدّيني الإسلامي، الشيعي بالتّحديد ولكنّني أنطق بأهميّة التّنوّع لتأمين الإستمراريّة الفنّيّة” تضيف زينب.

“ذا سبوت وكف ندى”

لم تشاهد أو تسمع من بعدها بمسرحيّة في الجنوب إلى أن افتتحوا ولمدّة قصيرة جدًّا سينما “ذا سبوت” على مشارف كفرجوز. “أكلت كفّ بس رجعت، ما توجّعت. كان حلو الفيلم” تقول ندى (14 عامًا). ندى البنت الصّغيرة الّتي ذهبت إلى السينما المفتوحة حديثًا في كفرجوز دون أن تخبر أهلها بذلك. دخلَت خلسةً، قطعت لنفسها تذكرة، وخرجت خلسةً بعد أن أوصلها والدها لمقابلة إحدى صديقاتها في المنزل. هذا الفيلم الّذي تسبّب للفتاة الصّغيرة بضربة كفٍّ على وجهها دلّها على هويّتها. “أنا بدي صير ممثّلة”. تقولها وتلوم عائلتها على العيش في الجنوب وتلوم الطّبيعة الجغرافيّة لأنّها خلقت مدنًا أخرى غير بيروت.

ما زالت صغيرة على اختيار أمانيها ولكنّها فرحة بها وبهذه المدينة البعيدة عنها، فرحةً لأنّها تتجهّز منذ الآن لهجرة الجنوب واختيار التّمثيل البعيد. اختارت أحلامًا بعيدةً عن مسقط رأسها الّذي وُلدت فيه. تحتال على والديها فقط كي تهرب إلى مدن تستطيع فيها الخروج إلى السّينما دون أن تعاقَب على ذهابها. “ما بتعرفي شو عم يحضروا أولادنا بقلب السّينما!” يقول والدها. ستذهب وتنساهم، ستخفّ اتّصالاتها تدريجيًّا، بيروت تبتلع العلاقات. معرض الكتاب، المسارح، معارض الرّسم، الحانات، المكتبات القديمة الضّيّقة.. كلّ شيء متاح. هناك ستعرف ندى أنّها لا تحبّ التّمثيل وأنّها بالغَت في أحلامها، لأنّها كانت ممنوعة فقط.

بيروت تغيّر وجهات النّظر وتوجّهها، تغيّر الصّدف وشبكة الأقدار. ستتنصّل من التّقاليد والأفكار الجاهزة. ستذهب إلى السّينما ولكنّها لن تكمل الفيلم، ولن تقلق لأنّها لم تخبر والديها هذه المرّة. ستخرج وتشاهد الفيلم وتعود متأخّرة غير آبهةً بالمئذنة وبساعة الثّامنة. في بيروت الحياة سريعة. الحياة متنصّلة من الوقت والزّمن، لا وقت ولا مكان حتّى للحبّ، هو متاح فيها كما الحياة. لا يهمّ صغيرًا كنتَ أم كبيرًا، أنهيت لقاءك بقبلة أم بمصافحة، لا أحد يكترث. المهم أن تمارس الحياة كما يحلو لك. بيروت تعطي للحب الحرّيّة الّتي أخذها منه الجنوب. في الجنوب تتعلّم كيف تحبّ في الخفاء، وكيف تخاف من القُبَل، وكيف تحجبها من الأفلام والمشاهد، وكيف تنهي الحرب وتبدأها متى تريد. والمفارقة أنّ تلك الصفعة الّتي تلقّتها ندى، هي الّتي ستصنع لها هويّتها السينمائيّة لو اختارت التمثيل في ما بعد. منع السينما من الحضور قد يؤسّس لها بأكثر الطّرق عنفًا.

في بيروت الحياة سريعة. الحياة متنصّلة من الوقت والزّمن، لا وقت ولا مكان حتّى للحبّ، هو متاح فيها كما الحياة. لا يهمّ صغيرًا كنتَ أم كبيرًا، أنهيت لقاءك بقبلة أم بمصافحة، لا أحد يكترث.

“اللبنانية” في الجنوب من دون فنون

لواقع السّينما في الجنوب أسباب أكاديميّة بالدّرجة الأولى. الطّريقة الأبسط لئلّا تخرّج فنّانين عمومًا وسينيمائيّين خصوصًا هي تغييب التّدريس السينيمائي الأكاديمي في الجامعات. فالجامعة اللّبنانيّة في النّبطيّة وصور لم تعطِ اهتمامها يومًا لوجود اختصاصات تُعنى بالفنّ والبعد الجمالي. لا سيّما أنّها تخرّج طلّابًا من كليّة العلوم وإدارة الأعمال، والحقوق والآداب في صيدا. أمّا الجامعات الخاصّة فهي واقعة في الدّوامة ذاتها. هناك خوف واضح من صنع الجمال البعيد عن فلسفة العدم والموت، لأنّ الفنّ ممارسة حرّة وسيولد بالطّبع ممارسات حرّة.

“أنا بنتمي لضيعتي، وبس اشتغل سينما بدي أنطلق من ضيعتي. أنا بالنهاية انعكاس لكفررمان وهيدي هويّة واضحة بأفلامي الجامعيّة”. يقول عباس حمزة، طالب السينما والتّلفزيون في كلية الفنون الجميلة والعمارة في الجامعة اللّبنانيّة. عاش عباس حياته في كفررمان حتّى بلغ عمر الثّامنة عشرة، أي عمر اختيار اختصاصه الجامعي. كان عباس ممثّلًا جيّدًا وقد أدّى أدوارًا عديدة على مسرح ثانوية أجيال في النّبطيّة. اضطرّ الشّاب إلى مغادرة كفررمان قسرًا لغياب اختصاص السّينما عن جامعات المنطقة، نزح إلى بيروت.

تبدو العمليّة عمليّة نزوح قسري، كلّ من يرغب بدراسة الفنّ وممارسته، عليه أن يمارسه بعيدًا. اللّافت في الأمر أنّ الجنوب يبدو دائمًا كأرضيّة البداية والتمهيد لانطلاقة هذا الفنّ. الجنوبيّ عادةً لا يخرج من هويّته الّتي يعكسها ويعالجها في فنّه وأفلامه لاحقًا. يقول عباس مضيفًا:” نحن نعكس الصّورة الحقيقيّة في رؤيتنا للجنوب، وذلك واضح في أبحاثي وأفلامي الجامعيّة. ولكن لا يعرف النّاس الصّعوبات الّتي نواجهها لتقديم هذه الصّورة”. الحياة في بيروت صعبة، خاصة في الوضع الرّاهن.

تبدو العمليّة عمليّة نزوح قسري، كلّ من يرغب بدراسة الفنّ وممارسته، عليه أن يمارسه بعيدًا. اللّافت في الأمر أنّ الجنوب يبدو دائمًا كأرضيّة البداية والتمهيد لانطلاقة هذا الفنّ

النزوح إلى بيروت

في بداية العام الدّراسي اضطّر الشّاب للتنقّل بالمواصلات يوميًّا بين بيروت وكفررمان وهي مسافة بعيدة وتتطلّب صرف أموال طائلة شهريًّا، أمّا استئجار بيت في بيروت فكانت فكرة صالحة فقط للطّلاب الّذين ينتمون إلى طبقة معيّنة في المجتمع، لذلك بدا عباس دخيلًا على المشهد هو وغيره من الأقليّة في الجامعة الّذين اضطرّوا إلى مغادرة منازلهم هناك للجوء إلى بيروت دون حائط متين للاستناد عليه. هؤلاء الطّلاب ضائعون تمامًا في المكان ما بين إيجاد فرصة عمل تتناسب مع دوامهم الجامعي من جهة لتأمين مصروفهم اليومي، وبين التّركيز على الدراسة من جهة أخرى.

من الصّعوبات الأخرى الّتي يواجهها الخارجون من الجنوب هي صعوبة بناء فيلم حرّ يحمل هويّة جنوبيّة واضحة كما في رؤية المخرج. وهذا ما يسلّط عليه عباس الضوء تبعًا لموقف تعرّض له مسبقًا وصار يتجنّبه اليوم بوضوح. “انتِ وعم تصوري ممكن ياخدوا منك الكاميرا بأيا لحظة. مش مسموح نصوّر بالشوارع، هيدي ملك إلهن. واذا بدك تصوري بدك واسطة قويّة من الأحزاب”. لذلك صار عباس يلجأ للأماكن المغلقة في الجنوب، كالمنازل الجنوبيّة مثلًا. وصار يحاول صنع جنوب مصغّر لتقديم الصّورة كما تستحقّ.

يرجعني كلّ ذلك إلى 1984 جورج اورويل، مدينةٌ يسود فيها حكم توليتاري. كلّ ما يمكنك فعله هو أن تأكل وتشرب وتنام وتجدّد الولاء دائمًا. في الزّمان القديم، قبل زمن الأخ الأكبر، لم يكن الجنوب هكذا. أمّا الآن، بعد أن تغيّر كلّ شيء بفعل العوامل التّاريخيّة الصّادمة من حروب وهزائم وانتصارات وتدمير، فتكمل المنطقة من حيث تركها العدوان، أيّ المحو التّاريخي التّام وتستغلّ تلك الظّروف بأفضل الطّرق الممكنة. فما الّذي ستصنع عنه فيلمًا في الجنوب إذا كانوا قد حدّدوا مساحتك البصريّة ونصّصوا لك كلّ ما يريدونك أن تراه؟ هل يمكن أن نصنع فيلمًا نتحسّر فيه على التّاريخ؟ وما هو التّاريخ؟ كلّ فكرة الحروب الّتي شُنّت في العالم من أهدافها طمس التواريخ، هل سعينا للبناء من جديد؟ هل عرفنا التّاريخ جيّدًا أم عرفنا ما يريدون منّا أن نعرفه؟ لقد أقمنا تاريخًا جديدًا، فوق دمار التّاريخ القديم. وذاك القديم لن يبقى منه شيءٌ للأجيال الآتية، لأن لا وسيلة لعرض الحقيقة. لا سينما لكي تنقل ما حدث بالصّوت والصّورة. فالأفلام الّتي عكست تاريخ الجنوبيّين صُوّرَت وعرضت ما قبل الحرب الأهليّة أو خلالها مثل الفيلم الوثائقي “زهرة القندول-1985” وفيلم “معركة-1985” أمّا الأفلام الّتي صدرت بعد عام 2005 فأغلبها لم يُصوّر في الجنوب بل في أماكن توحي للمشاهد أنّه الجنوب.

لا سينما لكي تنقل ما حدث بالصّوت والصّورة. فالأفلام الّتي عكست تاريخ الجنوبيّين صُوّرَت وصدرت ما قبل الحرب الأهليّة أو خلالها مثل الفيلم الوثائقي “زهرة القندول-1985” وفيلم “معركة-1985” أمّا الأفلام الّتي صدرت بعد عام 2005 فأغلبها لم يُصوّر في الجنوب بل في أماكن توحي للمشاهد أنّه الجنوب.
السّينما الحرام

تسود أجواء طريفة و”نكتجيّة” في ذاكرة الجنوبيّين ومواقفهم من السّينما أيام زمان. كان حبّهم للسّينما مختلفاً تمامًا، على الرّغم من أنّ مفهوم التّضحية كان غالبًا عليها حتّى في ذلك الوقت. في النّبطيّة كانت سينما “ريفولي” موطناً لعشّاق الأفلام القديمة المصريّة والهنديّة والغربيّة، كذلك للعشّاق الّذين لم تكفِهم لقاءات بيت الدّرج، فكانوا يقصدون السّينما ويتشاركون الأحاديث السّرّيّة والقبلات ويتناسَون الفيلم تمامًا صانعين فيلمهم الخاص. “كان في سينما شهرزاد بصيدا، كانوا ساعة يقولولنا صارت تحط أفلام عاديّة، وساعة تعرض أفلام للكبار فقط” يقول محمد الّذي عاش شابًّا في صيدا يتنقّل على درّاجته وهو يجوب المدينة ليحفظها تفصيلًا تفصيلًا.

فكرة “أفلام الكبار” كانت سائدة في ذلك الزّمن وكانت شائعات مثل هذه تطال عددا كبيرا من دُور السّينما البارزة وقتذاك. مثل سينما “شهرزاد” وسينما “إشبيلية”. فصارت السّينما حرامًا عند معظم الأهالي. ويضيف محمد قائلًا أنّه لا يوجد دُور سينما في الجنوب اليوم تبعًا للظروف التّاريخيّة، كلّ ما بقي من السّينما هو “سينمات مصغّرة” تعرض أفلامًا في الأعياد والمناسبات الدّينيّة فقط. وهذه الفكرة شاعت بعد الألفين وبعد قذائف العدوان الإسرائيليّ الّتي طالت معظم دُور السّينما في الجنوب. وهذا من الأسباب الواضحة الّتي منعت الجنوبيين من الإستثمار في بناء المسارح والسينما. “كنّا شعب الله المحروم. مين كان فاضي ليحضر سينما؟ بتكوني قاعدة عم تحضري فيلم. بتنزل قذيفة بتقومي بتصيري تركضي” يستطرد محمد.

يقول أبو علي الّذي تجاوز الثّمانين أنّه اشترى أرضًا في كفررمان ما قبل الحرب مع العدو الإسرائيلي ونزلت قذيفة خلال الحرب بالقرب من أرضه الّتي كانت يحضّرها للبناء. فاضطرّ إلى تغيير موقع سكنه، باع الأرض واشترى منزلًا له في كفرجوز في مكان قد لا تصله قذائف العدوّ باستمرار. “إذا هيك مين بدو يبني سينما ويعرّض استثماره لخطر الحرب والدّمار؟ بوقت ما كانت العالم فاضية تروح وتحضر فيلم”. هكذا في صراع الحروب والهدَن والسّياسة بدأت السينما تتهاوى لدى هؤلاء. في ما بعد صارت السينما منحصرة في النّشاطات الكشّافيّة وعلى مسارح المدارس. “مركز ياسين جابر بيعرض نشاطات من الفترة للتّانية. مدارس المصطفى عندن مسرح بيعرضوا في أفكارهم. مؤسسة بلال فحص عندن مسرح. مدارس الراهبات عندن مسرح” يقول محمد.

نسأل عادةً عن تاريخنا في الفنون. نسأل عن السّينما اللّبنانيّة، وهل كانت سينما فعلًا أم أنّها كانت عدد من التجارب الفرديّة، لأنّ لا شيء موحّدا؟ لمن تصنع فيلمًا في بلدٍ ينقسم فيه كلّ شيء، وكلّ واحدٍ “يغنّي على ليلاه”؟

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى