اللايدي ستانهوب سيّدة جون الإنجليزيّة
في العام 2019 أنجز المخرج المغربيّ سهيل بن بركة فيلمًا سينمائيًّا حمل عنوان “رمل ونار”، تحدّث فيه عن شخصيّتين غربيّتين جعلا من الشرق وجهتهما، الأول هو الإسبانيّ “دومينغو باديا” (Domingo Francisco Jordi Badía) (1818 –1767) القادم في مهمّة تجسّس والذي نجح في التسلّل إلى البلاط السلطانيّ المغربيّ تحت اسم “علي باي العبّاسيّ” مدّعيًا أصله الشريف، والإنجليزيّة اللايدي هستر ستانهوب (Lady Hester Stanhope) (1839-1776)، التي قدمت إلى بلادنا ولعبت دورًا معتبرًا في التاريخ اللبنانيّ خلال القرن التاسع عشر.
تتحدّر ستانهوب من عائلة نافذة في بريطانيا، فخالها هو وليام بت السياسيّ المعروف والذي شغل منصب رئيس الوزراء البريطانيّ، وجدّها هو اللورد حاثام، ووالدها تشارلز ستانهوب، إيرل ستانهوب الثالث، من زوجته الأولى الليدي هستر بت.
المرأة اللغز
لم تتضّح أسباب ترحال ستانهوب، بل بقيت “لغزًا” في حاجة إلى فهم ودرس. فثمّة من يقول إنّ مأساة شخصيّة مزدوجة (مقتل أخيها في أسبانيا، وعلاقة حبّ فاشلة في إنجلترا) دفعاها إلى ترك بلادها والتخلّي عن عائلتها الأرستقراطيّة، والتوجّه نحو بلاد الشمس المشرقة، وفي خاطرها حكايا زنّوبيا ملكة تدمر وحلم سلطة ومُلك ونبوءة. وكانت تردّد دائمًا: “أحبّ السفر في كلّ شيء”، “إنّه تغيير دائم للأفكار”.
بدأت رحلتها إلى الشرق في العام 1810، من بوابة أسطنبول العثمانيّة حيث أعجبت باللباس الشرقيّ وتزيّت بزي الرجال وما بارحته لاحقًا. وفي أثينا التقت بالشاعر الشهير اللورد بايرون، الذي قال عنها: “أعظم نساء الكون” بالرغم من جمالها العاديّ، وتُوصف: “إنّها فارعة، مهيبة، بشرتها مثل المرمر يصعب عليك تمييز عقد اللؤلؤ على جيدها من البشرة، وحدهما الشفتان تتمايزان بلونهما القرمزيّ”.
لقد جمعت هستر قوّة الإرادة والاستقلال إلى حلاوة الحديث والفكاهة والتسلية، على ما يصفها، فوّاز طرابلسي في “حرير وحديد، من جبل لبنان إلى قناة السويس” (2013).
لم تتضّح أسباب ترحال ستانهوب، بل بقيت “لغزًا” في حاجة إلى فهم ودرس. فثمّة من يقول إنّ مأساة شخصيّة مزدوجة (مقتل أخيها في أسبانيا، وعلاقة حبّ فاشلة في إنجلترا) دفعاها إلى ترك بلادها والتخلّي عن عائلتها الأرستقراطيّة
من مصر إلى دار الستّ
من أرض اليونان حطّت الليدي ستانهوب في الإسكندريّة وقابلت محمد علي باشا، حاكم مصر، ومن هناك توجّهت إلى فلسطين ويافا والقدس حيث زارت قبر المسيح، ومن عكّا التحقت بقافلة وجهتها جبل لبنان. وفي صيدا نزلت في خان الإفرنج، وبدأت مغامرتها اللبنانيّة بلقاء الأمير المتنصّر بشير شهاب الثاني (المتوفّى في العام 1850، وقد حكم جبل لبنان من العام 1788 إلى العام 1842)، ولُقّب بالأمير الأحمر (الذي كتب عنه الأديب مارون عبّود)، ومن ثمّ قابلت خصمه الزعيم الدرزيّ الشيخ بشير جنبلاط (1852 -1775) في المختارة.
وبعد تجوال في الأراضي السوريّة مرتدية الزيّ البدويّ، حطّت في مدينة تدمر (بالميرا) التاريخيّة بصحراء الشام، وتُوجّت ملكة الصحراء وقد خالت نفسها زنّوبيا. ثمّ عادت إلى جبل لبنان واستأجرت في العام 1814 مكانًا كبيرًا مكوّنًا من عدة مبانٍ قائم على رابية من روابي بلدة جون، المؤلّفة من سبع تلال في قضاء الشوف في محافظة جبل لبنان، وعلى بعد 13 كيلومترًا من مدينة صيدا الساحليّة، حوّلته إلى قصر، وكان ديرًا مهجورًا، أُطلق عليه “دار الستّ”.
جمعت الليدي ستانهوب حولها في تلك الدار عددًا من الحرس والتابعين، وأصبحت “سيّدة جون”، فحار أهل المنطقة في أمرها، أجاسوسة هي أمّ مجرّد رحّالة حالمة تُؤمن بالنبوءات؟ ففي عقلها وقلبها تشتعل نار النبوءة: “ستكونين أنثى المسيح في مجيئه الثانيّ، سوف تركبين حمارًا ابن أتان إلى جانبه عند دخوله المدينة المقدّسة”، بحسب ما كتب طرابلسيّ. وينقُل عنها قولها: “لديّ في الأسطبل مهرة ولدت وعلامة السرج المقدّس على ظهرها. سوف أمتطيها عندما يستدعيني. لقد سمّوني “النبيّة” هنا في هذه الجبال، وبهذه الصفة أؤمن برسالتي وسوف أواصل أداءها”، وفي الأثناء تسمّت “ناسكة جبل لبنان”.
فرضت السياسة في جبل لبنان نفسها على الليدي ستانهوب، فتدخّلت في الحرب الدائرة بين البشيرين (شهاب وجنبلاط)، فآوت الدروز الهاربين من بطش “الأمير الأحمر”، الذي استاء من موقفها ولجأ إلى مضايقتها والاعتداء على خدمها، ما اضطرها للاستعانة بالقنصل البريطانيّ ليوقفه عند حدّه.
في العام 1831، احتلّ جيش محمّد علي باشا المصريّ سوريّا، وحاصر ولده ابراهيم باشا عكّا، فما كان من اللايدي إلّا أن مدّت يد العون واستضافت في دارها العشرات من أهالي المدينة الهاربين وحمت نفسها مجدّدًا خلف سلطة قنصل بلادها، الذي تدخّل لدى اسطنبول من أجلها.
أمضت هستر السنوات السبع الأخيرة من حياتها المذهلة في ملاذها المحصّن، في جون، وهي مثقلة الكاهل بالديون تغيب عن عقلها بشكل متزايد. وعندما سُئلت عمّا إذا كانت العودة إلى الوطن الأمّ أفضل لها، كي تعيش أيّامها براحة نسبيّة، كانت تستنكر السؤال، وتصرّ على أنّها لا تنوي العودة إلى “الحياكة أو الخياطة مثل المرأة الإنجليزيّة”.
عزلة وفقر مدقع
وبينما كانت تمارس السلطة في منطقتها، عاشت ما تبقّى من سنيّ حياتها في عزلة وفقر مدقع. وعندما تمّ العثور على جثتها في دارها، كانت بالفعل في حالة تحلّل، كانت تبلغ من العمر 63 عامًا. ماتت وهي تترقّب من حصنها قمم الجبال البعيدة بحثًا عن المسيح القادم.
وفي 24 حزيران من العام 2004، تمّ حرق ما تبقّى من عظامها المنبوشة والمنقولة سابقًا إلى بلدة عبيه بمبادرة من السلطات البريطانيّة، ونثر الرفات في ما تبقى من جدران دارتها المتداعية في بلدة جون.
أمضت الكاتبة البريطانية لورنا جيب (Lorna Gibb) أربع سنوات لإنجاز كتاب عن حياة ستانهوب (2005) عنونته “اللايدي هستر، ملكة الشرق”، وقالت إنّها انجذبت إلى قوّتها وتحدّيها للمجتمع: “كانت غريبة الأطوار، من دون شكّ، لكنّها كانت مهمّة دائمًا، في لبنان تحوّلت إلى عدّة أشياء. لقد كانت الطاغية التي كان من الصعب العمل لديها، ولكنّها كانت أيضًا البطلة التي أنقذت الدروز”. وتضيف: “كانت شغوفة، بليغة، مندفعة، قويّة بشكل لا يصدّق، مفعمة بالحياة. شخصًا لا يمكنك تجاهله”.
والحال، تمّ إدراج مقرّ الليدي هستر ستانهوب وعين حيرون في بلدة جون- قضاء الشوف في لائحة الجرد العام للأبنية التاريخيّة اللبنانيّة بموجب القرار، رقم 66 تاريخ: 2/ 11/ 1997.