المواجهات الحدوديّة تشلّ قطاع البناء جنوبًا والخسائر تطال الجميع
لطالما أصاب العدوان الإسرائيليّ في مراحله المتكرّرة على جنوب لبنان، منذ أواخر الستينيّات من القرن المنصرم وحتّى اليوم، القطاع الأكثر حيويّة، قطاع البناء، بالصميم، إذ كانت آلات النار والدمار الإسرائيليّة تمعن قصفًا وتدميرًا في البلدات والقرى التي مسحت بعضها أكثر من مرّة عن بكرة أبيها، على نحو الخيام وكفرشوبا وغيرهما، وكان الجنوبيّ في كلّ مرة ينفض الردم والخراب ويعيد بناء ما تهدّم.
وبالرغم من كلّ ما يصيب هذا القطاع من عدوان مستمرّ، يعتبر قطاع البناء في الجنوب هو الأنشط والأكثر غزارة على مستوى لبنان، إذ تتجاوز نسبته الوطنيّة الأربعين بالمئة. هذا القطاع اليوم، وبعد ثلاثة أشهر من العدوان المباشر على عشرات القرى والبلدات الحدوديّة، يعاني من شلل تامّ، فيما تراجع في مناطق “شماليّ الليطانيّ” إلى ما دون الخمسين في المئة.
هذان التراجع والجمود بفعل العدوان، انعكسا سلبًا على قطاعات متلازمة أخرى، من الرساميل المستثمرة في قطاع البناء، وفي طليعتها رساميل المغتربين الجنوبيّين، إلى اليد العاملة والمهندسين والمعاملات الإداريّة وموادّ البناء، من حديد وإسمنت (ترابة) ورمول وبحص ولوازم كهربائيّة، وطلاء وأخشاب وألمنيوم، وتجارة العقارات، وسبّبت خسائر جسيمة طاولت الجميع، لا سيّما اليد العاملة إذ انقطعت بفعلها أرزاق الآلاف من العاملين في ورش البناء.
نقابة المهندسين: تراجع إلى النصف
يغطّي فرع نقابة المهندسين في النبطيّة ثلاثة أقضية في محافظة النبطية هي اليوم في قبضة العدوان المستمرّ منذ ثلاثة أشهر، حاصبيا ومرجعيون وبنت جبيل، ناهيك عن تغطية قسم من قضائيّ صور والزهراني.
“هبطت نسبة رخص البناء في محافظة النبطية إلى خمسين بالمئة في الثلاثة أشهر المنصرمة، أيّ منذ اندلاع المواجهات جنوبًا، وفي القرى الحدوديّة إلى ما دون الخمسة في المئة” بتأكيد مسؤول نقابة المهندسين في النبطية المهندس حاتم غبريس.
ويقول لـ”مناطق نت”: “أصدرنا في المدّة عينها من العام الماضي، بين تشرين الأول/أوكتوبر وكانون الأول/ ديسمبر 2022، 1157 رخصة بناء، أمّا في الفترة عينها من العام الجاري 2023، فلم تتجاوز 580 رخصة، أيّ خمسين بالمئة تحديدًا”.
تلقّت النقابة في العام 2022، 4109 رخص بناء، معظمها من أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا، “لكنّها لم تتجاوز هذا العام 3015 رخصة، وهذا يؤكّد تأثير العدوان ليس على قطاع البناء فحسب، بل على عمل المهندسين والورش، إذ إنّ المستثمرين وأصحاب الرساميل يجمّدون أموالهم في هكذا ظروف، ظروف الحرب، بانتظار جلاء الأمور، وخوفًا من ضياع أملاكهم واستثماراتهم في ظلّ أعمال القصف والتدمير التي تطال الأبنية، ومنها ورش كانت قيد الإنجاز” يضيف المهندس غبريس.
بعد العدوان الإسرائيليّ بين تموز/يوليو وآب/أغسطس 2006 أصدرت النقابة على مدى عام كامل نحو ألف معاملة رخصة، ويشير غبريس إلى أنّ “هذه النسبة ارتفعت إلى 2540 رخصة بناء سنة 2018، ثمّ تراجعت إلى 1710 بعد سنة 2019، بسبب جائحة كورونا والانهيار الاقتصاديّ، وهذا إن دلّ على شيء فعلى أنّ قطاع البناء يتأثّر فعلًا وبشكل موازٍ بكلّ ما يجري من حوله من أزمات واعتداءات وأحداث”.
غبريس: أنجزت نقابة المهندسين في النبطية في العام 2022، 4109 رخصة بناء، معظمها من أقضية بنت جبيل ومرجعيون وحاصبيا، بينما لم تتجاوز 3015 رخصة هذا العام.
الخيام: انهيار إلى صفر بالمئة
في الخيام التي تتعرّض منذ “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي لقصف إسرائيليّ أدّى إلى سقوط عدد من الشهداء المدنيّين وتدمير نحو عشر وحدات سكنيّة وتضرّر أكثر من عشرين، أصاب الشلل مختلف الورش التي كانت قائمة على قدم وساق قبل هذه الفترة، خصوصاً بعد نزوح سكّانها إلى خارج المنطقة.
يؤكّد المهندس محمّد رضا كامل عبدالله أنّ “ثمّة انهيارًا كلّيًّا في قطاع البناء والورش في الخيام. لديّ ستّ ورش كانت قائمة قبل المواجهات، اليوم هذه الورش متوقّفة تمامًا ولم نضرب فيها ضربة واحدة منذ اندلاع هذه الحرب”.
يضيف المهندس عبدالله إلى “مناطق نت”: “شهدتْ الخيام طفرة في بناء البيوت والدور (الفلل) والقصور في السنوات العشر الأخيرة، خلقت دورة حياتيّة واقتصاديّة استفادت منها قطاعات مختلفة، من اليد العاملة، إلى المهندسين والمتعهّدين وشركات مواد البناء ومحالّها على تنوّعها، حتّى أنّ الخيام لم تتأثّر بالانهيار المصرفيّ والاقتصاديّ بفعل أموال المغتربين التي ظلّت تتدفّق للاستثمار في قطاعيّ البناء والعقارات، لكنّ كلّ هذا الدفع والنهضة المعماريّة انهار منذ ثلاثة أشهر إلى نسبة صفر بالمئة، والخوف من أن يستمرّ طويلًا، عندها ستصبح الخسائر فادحة”.
طفرة أخرى كانت قد تصاعدت في السنتين الأخيرتين، تمثّلت بحركة بناء الشالهيات (السياحيّة) في الخيام (وجوارها)، التي تتمتّع بإطلالة جميلة على مناطق لبنانيّة وفلسطينيّة وسوريّة، وجوّ سياحيّ تحوطه مجموعة من الأنهار كالحاصباني والوزّاني والينابيع المتعدّدة، ناهيك عن قربها من جبل الشيخ “حرمون” ومزارع شبعا وفيها أشهر معتقل “معتقل الخيام” وقد استخدمه الإسرائيليّون في فترة احتلالهم للمنطقة بين 1976 و2000، تاريخ التحرير.
“بلغ عدد الشاليهات التي نشأت في الخيام على مدى سنتين أخيرتين، وبتمويل من مغتربين خياميّين، 75 شاليهًا ونحو 25 شاليهًا لأبناء الخيام في المنطقة المجاورة، تجاوزت أجرة الشاليه في اليوم الواحد صيفًا، 200 دولار إلى 250 دولارًا. كلّ هذا توقف منذ ثلاثة أشهر وسبّب بفقدان عشرات العمّال وظائفهم فيها” يقول رئيس بلدية الخيام المهندس عدنان عليّان.
وصلت نسبة الدمار في الخيام بعد عدوان 2006 إلى تسعين بالمئة “ثمّ أعيد بناء ما تهدّم بتمويل من دولة قطر، فنشأت الخيام الجديدة بكثافة عمرانيّة أكثر بكثير ممّا كانت عليه قبل العدوان، إذ جرى توسيع البيوت أفقيًّا وعموديًّا، وقامت على أنقاض بعض البيوت أكثر من وحدة سكنيّة توزّعتها العائلات، حتّى ضاق وسط البلدة بالحركة العمرانيّة، ما جعلها أخيرًا تمتدّ نحو سهل الخيام الذي لا تتجاوز نسبة الاستثمار فيه خمسة بالمئة” يضيف المهندس عليّان لـ”مناطق نت”.
شجّعت نسبة الاستثمار القليلة في سهل الخيام (خمسة بالمئة) في نشوء بساتين متعدّدة بجوار المنازل والدور التي امتدّت إلى السهل. يقول عليّان: “لقد تلقّى أصحاب هذه البساتين ضربة موجعة بتلف مواسمهم الصيفيّة على أمّها، بسبب التهجير وإهمال هذه البساتين”.
مواد البناء انكماش وخسائر
يؤكّد محمّد عياش صاحب شركة لبيع مواد حديد البناء في الدوير (النبطية) أنّ قطاع البناء في الجنوب “يواجه شللًا كبيرًا جرّاء المواجهات المندلعة على الحدود”. ويضيف لـ”مناطق نت”: “يشكّل هذا القطاع محور و”دينمو” الحركة الاقتصادّية والتجاريّة في الجنوب، اليوم تراجعت نسبته إلى الصفر في المناطق الحدوديّة المتاخمة لفلسطين المحتلّة، من مرجعيون وحاصبيّا شرقاً إلى الناقورة غربًا، ما رتّب خسائر فادحة على العائلات المعتاشة منه”.
يضيف عيّاش لـ”مناطق نت”: “إنّ الخطّ الخلفيّ والذي يشمل القرى والبلدات التي تقع شمال نهر الليطاني- الحجير، انخفضت أعمال البناء فيه إلى ما دون عشرين في المئة. أمّا المناطق الداخليّة والتي تمتدّ من صور حتّى ساحل الزهراني ومنطقة النبطية، البعيدة عن خطّ المواجهات فقد تراجعت إلى النصف، أيّ إلى خمسين بالمئة”.
يُعتبر قطاع البناء في الجنوب الأنشط بين المناطق اللبنانيّة كافّة، وبفارق كبير، “إذ يستحوذ على خمسة وستّين في المئة من إنتاج شركات الترابة العاملة في لبنان” وفق عيّاش الذي عزا أمر النشاط المعماريّ الفائض “إلى الاغتراب الجنوبيّ الكبير، المرتبط بأرضه ارتباطًا وثيقًا ويستثمر فيها، سواء لناحية بناء المنازل والتي بغالبيّتها من الدور والقصور، أو لناحية الاستثمار في القطاع العقاريّ من خلال شراء الأراضي وبناء مصالح ومشاريع ومجمّعات سكنيّة ومراكز تجاريّة”.
ويختم عياش “أنّ شركات مواد البناء في لبنان تأثّرت بفعل انكماش قطاع البناء في الجنوب”.
عياش: يستحوذ قطاع البناء في الجنوب على خمسة وستّين في المئة من إنتاج شركات الترابة العاملة في لبنان
يوضح جواد صبّاح، صاحب مؤسّسة لبيع الحديد والترابة في النبطية “أنّ حركة بيع مواد البناء، وخصوصًا الترابة والحديد، العمود الأوّل للبناء، كانت جيّدة وتمامًا قبل المناوشات العسكريّة والأمنيّة على الحدود. وهذا الأمر في التراجع بسبب الحرب والعدوان سوف يستمرّ حتمًا إلى نحو ثلاثة أشهر مقبلة، بسبب دخولنا في مرحلة الشتاء بانتظار الموسم المقبل للنشاط العمرانيّ في مطلع الربيع القادم”.
ويلفت صبّاح، في حديث لـ”مناطق نت” إلى أنّ “قطاعنا أصيب بنكسات عديدة، من “الثورة” سنة 2019 إلى “الانهيار المصرفيّ” بعدها، إلى “جائحة كورونا”، إلّا أنّه كان ينهض بسرعة ويلملم نفسه، وقد شهد استقرارًا لافتًا منذ 2022 وراح يتحسّن صعودًا منذ مطلع 2023 حتّى وصلنا إلى نسبة ممتاز في مطلع الصيف المنصرم. هذا كلّه بفضل الإيرادات الاغترابيّة الجنوبيّة”.
بحسب صبّاح، لم يتوقّف المغتربون الجنوبيّون عند نكسة المصارف التي قبضت على أموالهم فيها “بل سارعوا إلى لملمة أموالهم وها أنّهم اليوم يستثمرون جيّدًا في قطاع البناء الذي يعتبر من أهمّ القطاعات المؤثّرة في الحياة الاقتصاديّة والمعيشيّة عند الجنوبيّين”.
ويضيف: “لكن من الطبيعيّ أن يتأثّر هذا القطاع وما يصبّ في إطاره من مواد بناء وغيرها بالحرب الدائرة وأن ينكمش، خصوصًا في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة المتواصلة بتدمير واسع في لبنان على نحو ما يحصل في غزّة، وهذه التهديدات يأخذها المغتربون والمستثمرون بعين الاعتبار، فيتوقّفون ويجمّدون تحويلاتهم بانتظار تطوّر الأمور أو تراجعها”.
العقارات والأبنية والأزمات المتلاحقة
نادرة ورش البناء العاملة اليوم في محلّة كفرجوز (في مدينة النبطيّة) وفي مناطق الجوار، وإذ يردّها المقاول حسين فقيه، صاحب عشرات المشاريع السكنيّة والتجاريّة “إلى الوضع الأمنيّ السائد، ومطاولة بعض الغارات والاعتداءات مناطق قريبة من عاصمة المحافظة النبطية، وخشية الناس من تطوّر الاعتداءات وتوسّعها”، لكن يربطها كذلك “بخمود طفرة مشاريع البناء التي كانت سائدة قبل الأزمتين المصرفيّة والاقتصاديّة، وكانت بمعظمها مشاريع تجاريّة تستهدف الطبقة الوسطى وما دونها والموظّفين، وتعتمد على قروض المصارف والإسكان”.
ما يحرّك مشاريع فقيه وبعض ورشه في منطقة النبطية، هي عمليّات البيع التي تبدأ قبل نهوض المشروع، أيّ على التصاميم والخرائط، “ومعظم المستثمرين هم من المغتربين، أو أصحاب وظائف تدفع أجورها بالدولار الحرّ. عمليّات الاستثمار هذه، قائمة كذلك على التقسيط المقرونة بدفع نحو ثلاثين بالمئة من قيمة المبلغ الإجماليّ، ومع انتهاء مشروع البناء يكون المشتري قد سدّد كلّ ما عليه”.
ساهمت الحرب الأخيرة من جهة وانكماش المشاريع العمرانيّة التجاريّة وتقلّص العقارات المتاحة للبناء من جهة ثانية، “في تراجع الأجور إلى النصف أحيانًا، وبالتالي نتج عنها تراجع في أسعار الكلفة وأسعار البيوت والشقق” يختم فقيه.
لكن هذا التراجع لن يعيد للطبقة الوسطى قدرتها الشرائيّة، وسيبقى هذا القطاع قائمًا على المال الاغترابيّ بانتظار هدوء “المعركة” حتى يعود المستثمرون والمغتربون ويفرجون عن أموالهم فتتحرّك الدورة الاقتصادية التي يشكّل القطاع العمرانيّ عمودها الفقريّ، خصوصًا في عاصمة المحافظة النبطية التي بينها وبين الاغتراب حكاية عمر واقتصاد تقوم عليه ليس دونه.