حارس بعلبك “ميشال طراد”.. عن المفارقة الشّعريّة والواقع المُمِل

في واحدةٍ من صوره –وهي نادرة- يقف الشاعر اللبناني الرائد ميشال طراد حاملاً بكلتا يديه ما يبدو جريدةً أو مجلّةً يقرأ فيها، وخلفه تبدو أعمدة جوبيتر الستّة لكنَّ موقعها في الصّورة أمامه، بحيث تلامس مقدّمةُ رأسِهِ الأصلع حافّة العارضة المزخرفة فوق الأعمدة، فيبدو للمتأمّل مليّاً في الوهم البصريّ كعمودٍ سابع أطول من الأعمدة الأصليّة، ولا أدري إن كان هذا المعنى في الصورة متعمّداً، لكنَّ ميشال طراد كان بلا شك يحبُّ لقب “العمود السابع” الذي أطلقه الشاعر فؤاد سليمان (1912-1951) عليه ذات يوم ويفخر به، حيث طالبَ -حسب ما يروي الصحافيّ والمسرحيّ فارس يواكيم- الشاعرَ سعيد عقل بحقوقه حين شبّه الأخير شاعر القطرين خليل مطران بالعمود السابع قائلاً في رثائه:

مهابةُ الأرز، بنتُ الفارسيّ، أنا،   نبكيكَ فلتتغاوَ الستّة العُمُدُ
ومن تُرى قال ليست سبعةً؟     أنذا عيني إليك: ألا فليكمل العددُ”.

فعلّق طراد عابثاً: “العمود السابع هو أنا، هذه ماركة مسجّلة باسمي!”.

من هنا تبدأ المفارقة بين تصوّر الشاعر السحريّ/الأسطوريّ لذاته وعالمه، وبين الواقع المُمِل للحياة الماديّة، يتحدّث شاعرٌ آخر هو طلال حيدر في مقدّمة واحدةٍ من مقابلاته كيف حمل قصيدته “فخار” ليتلوها في قلعة بعلبك أمام ميشال طراد الذي ذكّره بعد سماع القصيدة أن مسماراً في بسطار شاعر أهم من جوهرة في تاج وحمّله أمانة الشعر من بعده، يعلّق طلال حيدر في سياق القصّة: “مع الأسف شاعر كبير ميشال طراد حطوه قَطّاع تذاكر ع باب قلعة بعلبك.. هي بلادنا”.

يعلّق طلال حيدر في سياق القصّة: “مع الأسف شاعر كبير ميشال طراد حطوه قَطّاع تذاكر ع باب قلعة بعلبك.. هي بلادنا”.

ربّما يكون لقب “حارس القلعة” وسطاً بين الواقع والشّعر، الجليُّ أنَّ صاحب “كاس ع شفاف الدني” ترك أثراً عميقاً في حركة الشعر المحكيِّ اللبنانيّ، وهو الذي لم يكتب إلّا المحكيّ مخرجاً إيّاه من عباءة الزّجل، كأحد الروّاد المؤسّسين للقصيدة اللبنانية كما نعرفها، وإن كان رشيد نخلة (1873-1939) قد بدأ بالفعل تحريك الراكد من ماء القصيدة المحكيّة، فإنَّ ميشال طراد أخذ هذه القصيدة إلى بعدٍ جديد فيه من بدائيّة السليقة الجماليّة البسيطة والوعيِ البارز بالمطلق والمجرّد، محرّراً إيّاها من التماهي والحشو، محافظاً على متانتها ووحدة موضوعها بحقلٍ معجميٍّ رومنسيٍّ قرويّ جنح شيئاً للواقعيّة في قصائد ما بعد اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة عام 1975.

يا رب
هالشاعر الطّفل العبقري
ما تخلّهُش يعتاز
زت الدهب ع جريه والألماز
ما فيهُش يعمل سنكري
يبيع توابيت يصلّح بوابير كاز

“جلنار” الواقع والانزياح

ولد ميشال موسى طراد في تشرين الثاني/أكتوبر من عام 1912 في مدينة زحلة من سهل البقاع لأبٍ زَحليٍّ وأمٍّ من بَسكِنتا في جبل لبنان، توفّي والده فانتقل ليعيش طفولته في بلدة والدته، هناك على ما ينقل الرواة التقى بـ”جلنار” جنيّة شعره الغزليّ والمرأة الأيقونيّة في حياته، فتاة من أقارب أمّه تكبره بأعوام، ارتباطه بها مستحيل، أحبّها من طرفٍ واحدٍ وجعل من حبّه لها مدخلاً إلى علاقةٍ كونيّة تخصُّ الشعراء وتتبدّى في شعرهم، وهنا تعود المفارقة ذاتها، الواقع المُمِل يقول إنَّ “جلنار” امرأة عاديّة من الأقارب، ربّما هي جميلة ولكنها ليست استثنائيّة، ثمَّ هناك “جلنار” ميشال طراد السّحريّة المدهشة التي لم تكن شخصاً بعينه بقدر ما كانت انعكاساً لرؤيته الخاصّة لمفهوم المؤنّث والجماليّ، مصبوباً في الاسم بما فيه من التماعٍ لونيٍّ وعذوبةٍ نغميّة: “جلنار”.

وهي لفظةٌ فارسيّةٌ تستخدم اسمَ علمٍ يشيرُ لزهرِ الرمّان بأحمره النّاريّ الصّارخ، تُلفظ بالعربيّة مضمومةَ الجيم المعطّشة مشدّدة اللام “جُلَّنار”، لكنَّ طراد اختار لفظها الفارسيّ “جِلنار” بالجيم المصريّة المكسورة:

مّن حبيبي شم
زرّ الورد شمّي
وما ذكّرو بتمّي
تمّي أنا جِلنار
جَروَحو الشّوك وصار
هالعطر يقطر دم

“جلنار” ميشال طراد السّحريّة المدهشة التي لم تكن شخصاً بعينه بقدر ما كانت انعكاساً لرؤيته الخاصّة لمفهوم المؤنّث والجماليّ، مصبوباً في الاسم بما فيه من التماعٍ لونيٍّ وعذوبةٍ نغميّة: “جلنار”.

“جلنار” أصبح اسم الديوان الأوّل لميشال طراد، صدر عام 1951 وقدّمه سعيد عقل بالعاميّة اللبنانيّة، واحتفى به أدباء منهم الياس أبو شبكة ومارون عبّود الذي كان أستاذه في الجامعة الوطنيّة بعاليه، كتب طراد الشعر حتّى نهاية عمره، بين بعلبك مكان عمله ومعبد شعريّته وزحلة مدينته ومملكته، مبتعداً تماماً عن الظهور في الإعلام منصرفاً لحياة عائليّة متنسّكة هادئة مع زوجته وأولاده الثلاثة، خلال حياته العاديّة نشر طراد بعد “جلنار” 8 إصدارات أخرى كلّها شعرٌ محكيّ مدهش، كان آخرها “المركب التايه” الذي صدر عام 1997 أي قبل عام من وفاته في شباط/فبراير من عام 1998.

حارس القلعة الأزليّ

على عكسِ ما يُفهم من كلام صديقه طلال حيدر، يبدو أنَّ ميشال طراد اختار بنفسه وظيفته الأثيرة بين أعمدة وجدران هياكل بعلبك العالية، فبعد تنقّل بين التدريس ووظائف أخرى عيّنه رئيس دائرة الآثار في لبنان الأمير موريس شهاب (1904-1994) عام 1942 موظّفاً  في القلعة واستمرّ في وظيفته 31 عامًا كاملةً، مديراً حارساً صديقاً شاعراً قاطع تذاكر… سمّه ما شئت، ولكنّه كان في نفسه بلا شك حارس الهوية التي تتجلّى له عريقةً عملاقة في هياكل بعلبك، وتتجلّى منه خفيفةً مسترسلةً عميقةً وأزليّة في الشعر.

-هل كان ميشال طراد مأخوذاً بفكرة الخلود؟ يبدو أنّه كان واثقاً من خلوده، يروي الصحافي والمسرحي فارس يواكيم في مقال قيّم مليء بالذكريات والتفاصيل، أنّ طراد قال لبعض أصدقائه يوماً: “بالأخير بيبقى شوية سعيد (عقل) وشوية نزار (قباني) وبيبقى ميشال طراد كله!”

وبين الواقع الماديّ الذي يوحي بأنّه أقرب للحقيقة، والرؤية الشعريّة السحريّة المدهشة، ما الذي بقيَ من ميشال طراد بعد 25 عاماً من رحيله؟ بقي كلّه، قصّة حياته نتصفّحها فضولاً أو سعياً لفهم تجلّيه الأهم: تصوّر ميشال طراد الشّعريّ/السّحريّ لذاته وحبيبته وقلعته والعالم هو الذي يشكّل ملامحه بالنسبة لنا اليوم، هكذا يصبح الشّعر هو الحقيقة، حيث لا يتجاوز الشاعر حدود وظيفة اللغة الإخبارية وحسب، إنّما يتجاوز واقعه، زمانه ومكانه وظاهر حياته الماديّة، يصبح يوماً بعد يوم كائناً كونيّا يسري في التاريخ،ً بينما جسده نائم في التّراب، تظلُّ روحه سارحةً في ملكوت قصائده، ساخنةً وحيّةً وحقيقيّة، تمجّد السؤال والمفارقة.

تخمين راحت حلوة الحلوين
وما ضل في غير الحبق
تخمين هالقلب انطبق
وما عاد يرجعلي بعد تخمين

***
وغاب القمر من فوق بيتُن غاب
وما عاد رح بيطِلّ
واِسوَدّْ لون الفِلّ
والزنبقة البيضا اللي حدّ الباب

***
بآخر هاك البستان في ممرق
بيجيب ع بالي البكي
مطرح ما كانت ترتكي
مفرّخ على شفافه العشب أزرق

***
وطالع عريشة معشّشة فيها الطيور
مطرح ما هرِّت دمعتا
وبعدُن بيحكو حكايتا
هونيك كم بنفسجة خلف الصخور

* الصورة الزيتية المرسومة للشاعر ميشال طراد والموجودة في غلاف المقال وأيضًا داخل النص، مأخوذة من محرك البحث (غوغل) وهي من أرشيف أنطوان زرزور

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى