المسنون يئنون.. الدولة “شاخت” ومراكز الرعاية تطلق نداء استغاثة

 

ما كنت أخشىاه دائماً في طفولتي أن أصل إلى مرحلة الشيخوخة وأنا أعيش في لبنان. لم أستطع أن أنظر إلى كبار السنّ دون أن أتخيل هالة سوداء وعصًا معكوفة يتكئ عليها رجل مسنّ وهي ترتجف بيديه المتهالكتين. تجاعيد وجهه تحكي الأوجاع التي يعانيها في بلد لا يحترم شيبته، في ظل واقع يعجّ بالمشكلات الإجتماعية والصحية.

لطالما شكّل إقرار قانون للشيخوخة خلال سنين طويلة مادة دسمة للتجاذبات السياسية والتي تنتهي غالباً بتأجيل البت بتلك القوانين والملفات، فتصبح طي الأدراج. يبقى معها كبار السن بلا مظلة رعائية تقيهم مصاعب الحياة في خريف العمر. لكن الانهيار الكبير الذي نعيشه الآن وخصوصاً على المستوى الصحي، ألقى بثقله على كاهل كبار السن المنهكين أساسًا.
فقد شهدت دور رعاية المسنين في لبنان خصوصاً في الآونة الأخيرة، مشاكل كثيرة تهدد حياة نزلاءها وتُعرّض تلك الدور لخطر الإقفال بفعل الأزمة الإقتصادية وإهمال الدولة لها.

الأعداد مختلفة لكن المعاناة واحدة

في السابق، كان عدد دور رعاية المسنين في لبنان قليل نسبياً، وبمراكز محدودة تقتصر مهامها على إيواء المشردين وتقديم الغذاء والمنامة لهم ومراقبة حالاتهم الصحية. مع مرور السنين تطورت خدمات المؤسسات لتشمل العناية الطبية والتمريضية للمسنين. في حين ازداد عددها وانتشرت مؤسسات متخصصة بكبار السنّ ورعايتهم. أصبح المسنون يحتاجون إلى متطلبات عديدة يجب تأمينها بشكل يوميّ.

تختلف أعداد المسنين الذين تأويهم دور الرعاية بين مركز وآخر إلا أن معاناتهم واحدة. هذه الأعداد انخفضت نتيجة الظروف المعيشية السيئة التي تمر بها البلاد. في العباسية قضاء صور حيث يقع دار الأمان لرعاية المسنين انخفض العدد من 85 مسنًّا إلى 65. عن ذلك تقول مسؤولة العلاقات العامة في الدار “غزوة حيدر” إن “مستلزمات المسنين كثيرة ولا تقتصر على المواد الغذائية من طعام فقط، بل إلى رعاية طبية وخدمات نظافة كالاستحمام وغيره، إضافة إلى فحوصات واستشفاء. وفي الغالب يطرأ مستجدات يومية غير متوقعة تضيف علينا عبئًا في هذه الظروف الصعبة التي نمرّ بها”.

المشاكل التي تواجه مراكز رعاية المسنين لا تعد ولا تحصى. وهي لا تبدأ بفقدان مادتي البنزين والمازوت، ولا تنتهي بتأمين المواد الغذائية والأدوية والحفاضات. ومع ارتفاع أسعار تلك المواد وفقدان المحروقات إضافة إلى انقطاع الأدوية، أصبحت مراكز الرعاية أمام تحديات جديدة. فمع غلاء أثمان المحروقات اضطر العاملون في الدار إلى تشغيل مصعد واحد وإيقاف آخر. مما جعل تحركات المسنين داخل الدار صعبة ومحدودة خاصة لأصحاب العربات ولجلسات العلاج الفيزيائي.

دور الرعاية في مواجهة خطر الإقفال

تعتمد دور رعاية المسنين في لبنان بشكل أساسي على التبرعات، من بينها التمويل الخارجي الذي يأتي من بلدان عدّة. يضاف إليه مساهمة الأهل ووزارة الصحة العامة والشؤون الاجتماعية. لكن التمويل الخارجي تراجع بشكل كبير في ظل الانهيار الاقتصادي الذي يشهده لبنان وأصبح شبه معدوم.

الأوضاع الصعبة التي تمرّ بها دور المسنين عبّر عنها المدير التنفيذي في دار الرعاية الماروني “مالك مارون” والذي حذر في حديث لـ “مناطق” من عدم القدرة على الاستمرار وصولًا إلى إقفال المأوى الذي يضمّ حوالى الثمانين مسنًّا، البعض منهم من المتروكين. أعباء ومبالغ كبيرة يحتاجها الدار يوميًّا قد تدفع الموظفين لترك عملهم. يشرح مارون “نحن ندفع أكثر من مليوني ليرة للمازوت يوميًّا، بالإضافة إلى رواتب الموظفين واشتراكات الضمان الاجتماعي. وخاصة أن كلفة مستلزمات المسن الواحد تتجاوز الـ 100 ألف ليرة في اليوم”.

الأزمة الخانقة التي يعيشها اللبنانيون انعكست على أوضاع ذوي المسنين وعائلاتهم أيضاً. فهم كحال جميع الناس بالكاد يؤمّنون قوت يومهم ليتمكنوا من الاستمرار. وهذا ما تجلى من خلال طلب القيمين على دار الرعاية الماروني من أسر المسنين أن يدفعوا 3 ملايين ليرة كبدل مصاريف عن كل مسن، إلا أن معظمهم لم يتمكن من تسديد هذا المبلغ.

الأعباء كثيرة والتبرعات غير كافية

لا مجهود يذكر من قبل المعنيين لتحسين واقع دور المسنين، حيث اكتفت الجهات الرسمية بتقديم مساعدات عينية. تؤكد غزوة حيدر لـ “مناطق” أن “الدعم والمساعدات التي تصل إلى دار الأمانة محصور بجمعية المبرات الخيرية. أما الدولة فلا تساهم إلا بجزء بسيط جدًّا ولا تقدم أي مستلزمات ضرورية للدار”. في السياق نفسه، يتمنى مارون على الوزارات المعنية مضاعفة جهودها والمساهمة بشكل أكبر، لأنها لم تعد تشكل سوى 20 بالمئة من الكلفة التي يحتاجها الدار. مطالبًا الوزارات المعنية بـ “تعديل التعرفة والإتيان بمساعدات مادية وعينية، وإلا سيكون دار الرعاية أمام صعوبة في الإستمرار وسيترك الكثير من الموظفين عملهم”.

عن شحّ الأدوية في الأسواق أو انقطاعها، تشكو “غزوة” من عدم القدرة في كثير من الأحيان على تأمين الأدوية. فيما يعتبر بعض المعنيين أن دور رعاية المسنين تُصنف ضمن الفئة الثانية فيمتنعون عن تقديم الأدوية أو المساعدة لهم. وعلى غرار ذلك، يشير مارون إلى أنهم يؤمّنون الدواء من خلال جمعية الشبان المسيحية بالتعاون مع وزارة الصحة، مؤكدًا أن مخزون الدار من الأدوية سوف ينفذ قريبًا. وتمنى مارون أن يجد آذاناً صاغية لمشاكلهم في بلد كثرت فيه المشاكل ولا من مجيب.

مجتمع مسن ببنية قانونية وحقوقية هشّة

يشهد لبنان تحولًا ديموغرافيًّا من مجتمع شاب إلى مجتمع مسنّ. ويتوقع أن تصل نسبة المسنين في لبنان إلى 14 في المائة بحلول العام 2035. وبحسب دراسة الأحوال المعيشية للأسر في العام 2007، تبين أن التغيرات التي حدثت في المجتمع اللبناني في السنوات الأخيرة، زادت الأعباء الاقتصادية على كاهل الأسرة اللبنانية.

وفيما يتعلق بالوضع الاقتصادي، يواصل العديد من كبار السن ممارسة الأنشطة الاقتصادية المختلفة. ويعزو كثيرون ذلك إلى غياب أو محدودية التأمينات والحماية الاجتماعية وغياب أو قصور معاش التقاعد عن توفير مستلزمات الحياة الكريمة. فيواصلون العمل بعد بلوغ عمر الـ 64 عاماً لتأمين متطلبات الأسرة إلى جانب شريحة ممّن يرغبون بالاستمرار في المشاركة والحركة والعطاء والإنتاجية.

أمام هذا الواقع، وفي غياب سلطة تسهر على صحة مواطنيها. من هي الجهة المفترض مناشدتها لكي تضع المسنين من ضمن أولوياتها. وأن تولي لهم اهتمامًا خاصًّا من حيث الخدمات الصحية والإجتماعية. يبدو أن الدولة قد “شاخت” وأصبحت بحاجة إلى رعاية، حيث لا تجد من يرعاها، لكن مع كل ذلك، تبقى الحاجة ملحّة لإقرار قانون “ضمان الشيخوخة”، وأن يعمل المعنيون على تحسين واقع دور رعاية المسنين في لبنان والاستجابة لمتطلباتهم وإلا سيكون هؤلاء أمام واقع أليم وصعوبات تفوق طاقتهم.

 

قد يعجبك أيضًا: حديقة “فلاوى” البقاعية الجميلة تصارع للبقاء.. وحيواناتها في خطر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى