شحور وأبناؤها.. “أولياء الكتاب” ودور النّشر اللبنانيّة

“إذا كانت بيروت، كما يُشاع، عاصمة الكتاب، فإنّ أبناء شحور هم “حكّامها”، و”أولياء الكتاب” فيها!..”.

بلدة “شحور” أو “شيحور” أو “دار العزّ”، تختلف التّسميّة ولكنّ البلدة هي هي على حالها كما يألفها أهلها على مرّ التّاريخ وجيرانها في القرى المجاورة، تتربّع في الزّاوية الشّماليّة الشرقيّة في قضاء صور وتحطّ على تلّة ترتفع 345 مترًا عن سطح البحر. تُقسَم البلدة إلى أربع حارات، وهي حارة السّاحة، الحارة الوسطى، الحارّة القِبليّة والحارة الغربيّة.

دار العزّ

في كتابه “تاريخ شحور الاجتماعي “1900 -2000” الصّادر عن “الدّار الإنسانيّة” في بيروت سنة 2001، يرسم الدّكتور خليل أرزوني صورةً مكتملةً ودقيقةً مستنبطة من تاريخ وتطوّر وحاضر بلدته شحور، من خلال عشرة فصول موزّعة، في كلّ فصل أقسام بعناوين فرعيّة.

يبدأ الكاتب بالتعريف الجغرافي للبلدة الّذي يشمل الموقع الجغرافي والتطوّر العمراني الممتدّ على مراحل وسنوات، وبعض المعالم القديمة، وصولًا إلى تطور الأوضاع الإقتصاديّة في البلدة وحركة النزوح الكثيفة الّتي شهدتها شحور على مراحل. ويتابع متحدّثًا عن تطوّر العلاقات الإجتماعيّة والأنشطة العامة التربويّة والتعليميّة والثّقافيّة والرّياضيّة، ويختم بذكر شخصيات عامّة كان لها بصمتها في شحور وخارجها، كالإمام موسى الصدر ومؤسس مجلة العرفان الشيخ أحمد عارف الزين وغيرهما.

تتمتّع شحور بـ “جسد” ضيّق نظرًا للمنحدرات الّتي تضغط على البلدة من الجهتين الجنوبيّة والشماليّة وهذا ما قد يفسّر معنى اسمها “شحور” كما تشير المعاجم اللّغويّة، على الرّغم من وجود عدد من التّفسيرات التّاريخيّة الأخرى لأصل التّسمية.

أمّا “دار العزّ” فهو لقبٌ رافق شحور منذ بداية الخمسينيّات بعد أن أطلق عليها هذا الاسم “حسن ابراهيم الزّين” وهو من أبناء البلدة. وبحسب أرزوني انتشرت هذه التّسمية من بعدها بين أبناء شحور الّذين وَسموا هذا اللّقب على واجهات محالهم التّجاريّة، وشاعت هذه التّسميّة لاحقًا بين القرى المجاورة.

شحور – دار العز
المكتبات والأثر الثقافي

“إذا كانت بيروت، كما يُشاع، عاصمة الكتاب، فإنّ أبناء شحور هم “حكّامها” و”أولياء الكتاب” فيها!” يقول الدكتور خليل أرزوني وهو عالمٌ: “إنّ القارئ سوف يرى في كلامي مبالغة أو دعاية، ولكن أبناء بلدة شحور وحدهم يملكون 12% من دور النشر العاملة على الأراضي اللبنانيّة بما فيها دور النّشر غير اللّبنانيّة”.

أوّلًا، ولمحاولة فهم لماذا خرّجت شحور هذا العدد الهائل من المثقّفين والعدد الكبير من دور النّشر والّذي بلغ عددهم37 داراً كما يشير أرزوني، “علينا معرفة تاريخ البلدة الثقافي والتّعليمي”.

إذا كانت بيروت، عاصمة الكتاب، فإنّ أبناء شحور هم “حكّامها” و”أولياء الكتاب” فيها!” فهم وحدهم “يملكون 12 % من دور النشر العاملة على الأراضي اللبنانيّة بما فيها دور النّشر غير اللّبنانيّة

يورد أرزوني في كتابه “تاريخ شحور الاجتماعي” قولًا للسيّد محسن الأمين من كتابه “أعيان الشّيعة” والّذي يربط من خلاله أثر المثقّف بالمكتبات نفسها. فيقول: “إنّ جبل عامل كان عامرًا بالعلم آهلًا بالعلماء، لذلك كانت مكتباته مملوءة بالكتب القيّمة ونفائس المخطوطات من مؤلفات علمائه وغيرهم، وكلّ عالم من علمائه لا بدّ أن توجد عنده مكتبة كبيرة أو صغيرة بحسب حاله من سعة العلم والرغبة في اقتناء الكتب..”.

أمّا في شحور فأولى المكتبات المعروفة تعود إلى أواخر القرن الثامن عشر بحسب أرزوني، وهي للشقيقين صالح ومحمد شرف الدين، إلى أنّ انضمّ إليهما الإمام عبد الحسين شرف الدين في مطلع القرن العشرين ومكتبة الأخير كانت عبارة عن غرفتين وقاعة للمطالعة وقد جُمعت محتوياتها ومؤلفاتها بشكل تبرعات من أصحاب دور النشر من أبناء شحور.

دور النّشر الشحوريّة

من بين 300 دار نشر لبناني فاعل هناك 37 دارًا يملكها أبناء شحور، بناءً على منشورات نقابة اتحاد الناشرين. وفي الوقت الّذي احتلّت فيه دور النشر الشحوريّة 12% من بين دور النّشر الفاعلة في لبنان، امتازت معظمها “بقدرة غير عاديّة على إنتاج الكتاب المدرسي”. ثلاثة منها لا تزال المزوّد الرئيس بالكتب لصالح المدارس اللبنانيّة الرسميّة والخاصّة، وهي دار الكتاب اللّبناني ودار مكتبة الحياة ودار الفكر اللبناني.

ليس من الغريب أن يسيطر أبناء شحور على منصب النقيب لنقابة اتحاد النّاشرين اللبنانيين خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين.

وبحسب أرزوني “إنّ إحدى هذه الدّور، تجاوزت الأراضي اللبنانيّة وافتتحت فروعًا لها في قارّتَي آسيا وإفريقيا وهي تعمل على طبع مئات الألوف من النسخ، وبناءً على طلبات رسميّة من حكومات دول كبيرة”.

لكلّ دار نشر شحوريّة مكتبتها الخاصّة، تعرض فيها إنتاجها. ومعظم هذه الدّور تملك مطابع خاصّة وحديثة مدعومة من مطبعة “برانت هاوس” و”الشركة اللبنانية لتجارة ورق الطباعة”.

في هذا الصّدد يشير الدّكتور خليل أرزوني إلى أنّه ليس من الغريب أن يسيطر أبناء شحور على منصب النقيب لنقابة اتحاد النّاشرين اللبنانيين في خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن العشرين، بداية مع يحيى حسن الخليل (1972-1992)، وصولًا إلى سميرة حسين عاصي (1992-1999)، وختامًا مع محمد حسين عاصي.

دار مكتبة الحياة

من بين دور النّشر الشحوريّة الفاعلة كانت دار مكتبة الحياة لصاحبيها يحيى وكاظم الخليل، من بين الدّور الّتي تركت بصمةً وأثرًا وكانت من أوائل دور النشر في لبنان الّتي تعاطت طباعة وتوزيع الكتب التراثيّة والتاريخيّة والعلميّة والأدبيّة، وهذه الأنواع من الكتب، صعبة ومكلفة في آن.

عندما كان الطلاب يتبادلون الكتب المدرسية المستعملة في بناية “العازارية” (الصورة من صفحة تراث بيروت)

يقول أرزوني: إنّ يحيى الخليل كان قد بدأ علاقته بالكتب في العام 1951 في وقت كان فيه شريكًا في افتتاح مكتبة لبيع الكتب والقرطاسيّة في مبنى اللعازاريّة، إلى أن اشترى حصّة نسبيّة واستقلّ بملكيّة دار الحياة صحبة شقيقه كاظم الخليل، وذلك في العام 1954. إلى أن أنشأ دار نشر أخرى وهي “المكتب العالمي”.

في العام 1957 دخل دار مكتبة الحياة معترك صناعة الكتاب المدرسي، “فباشر بإصدار سلاسل الكتب المدرسيّة حسب المنهاج الرّسمي لمعظم مواد التدريس ما قبل الجامعي باللغات العربية والفرنسيّة والإنكليزيّة”. فحقّقق الدّار خلال عقد الستينيات موقعًا متقدّمًا بين دور النشر اللبنانيّة على صعيد الكتاب المدرسي.

استطاع يحيى الخليل أن يحتلّ مرتبةً هامّة في بلدته شحور وفي عالم النّشر، وكذلك في نقابة اتحاد الناشرين. فبحسب أرزوني زاد عدد الكتب التي طبعها ووزّعها على 1000 عنوان، عدا سلاسل الكتب المدرسيّة. كما أنّه شارك لسنوات طويلة في التحضير لمعارض الكتاب، وقد كان المدعوّ الدائم لإلقاء كلمات افتتاح معظم هذه المعارض.

دار الكتاب اللبناني

في طفولته وبينما كان لا يزال تلميذًا في المدرسة، كان حسن لبيب الزّين وهو من بلدة شحور، ينتظر نهاية العام الدراسي لكي يشتري الكتب المدرسيّة من التّلامذة ويبيعها في السّنة التّالية للطّلاب الراغبين. إلى أن كبر حلم ذلك الطّفل وافتتح “مكتبة المدرسة” في اللعازاريّة بالشراكة مع خاله محمد سعيد الزّين، ثمّ أسّس دار الكتاب اللّبناني للنّشر وكان مركزه بيروت.

نتيجة علاقاته الواسعة وشخصيّته الدبلوماسيّة استطاع حسن لبيب الزّين استقطاب أسماء مهمّة إلى دار الكتاب اللّبناني مثل الأمير فيصل الذي طبع له نسخةً من القرآن الكريم، والملك محمد الخامس وعميد الأدب العربي طه حسين وأوّل رئيس للسنغال ليوبولد سنغور وصديقه المقرّب الشاعر سعيد عقل..

مع بداية الحرب الأهليّة اللّبنانيّة انطلق الزّين إلى القاهرة وافتتح دار الكتاب المصري الّذي صار من أهم دور النّشر المصريّة- العربيّة. وإثر نشاطه في عالم الكتاب والنّشر منحه الرئيس حسني مبارك الجنسيّة المصريّة. واستقرّ الزّين في القاهرة لمّدة 40 سنة، إلى أن توفّي في بيروت.

في حديث خاصّ ل”مناطق نت” تشير ابنته الدكتورة مي الزّين وهي الّتي ترأست إدارة دار الكتاب المصري في القاهرة إثر وفاته، إلى أنّ والدها حسن الزين كان أوّل من باشر بطباعة ونشر وتوزيع الكتاب المدرسي على صعيد لبنان، وكان قد منحه عميد الأدب طه حسين في ما بعد لقب “عمالقة النّاشرين”.

كتاب “الأيام” لعميد الأدب طه حسين صادر عن دار الكتاب اللّبناني

وتختم مي: “كان والدي يأخذني في صغَري إلى مكتبته “المدرسة” في اللعازاريّة لأجلس هناك بين الكتب لساعات، ولاحقًا في فصل الصيف، رافقته دائمًا إلى دار الكتاب اللبناني. وكان والدي يرى أنّني الأقدر على إدارة دار الكتاب بعد رحيله، وذلك إلى جانب أخي رحمه الله أحمد عارف حسن الزين الّذي تسلم لفترة طويلة إدارة دار النّشر في القاهرة، بينما تسلّمت أنا دار النشر في لبنان، وذلك إلى أن توفّى الله أخي في فترة وباء كورونا، فتسلّمت أنا إدارة دار النّشر اللبناني والمصري، وذلك في محاولة منّي للحفاظ على إرث والدي العظيم”.

المنتدى الثّقافي العربي-شحور

بعيدًا عن المكتبات العامّة، وتلك الخاصّة الّتي يقول عنها أرزوني إنّها “مكتبات عامّة” بمعنًى ما وذلك لأنّها كانت مفتوحة ومتاحة من أجل الجميع، يأتي دور الحراك الثّقافي العام في البلدة، متمثّلًا بالمنتدى الثقافي العربي الّذي تأسس في شحور العام 1985 وكان بمثابة منبر ثقافي لأهالي البلدة والجوار.

استطاع منتدى شحور الثقافي أن ينقل العمل الثقافي من احتكار المدينة إلى اهتمامات الرّيف، فأوجد حرمة ثقافية ناشطة غير طائفيّة في بيئة محاصرة بمقتضيات النظام الطائفي في لبنان.

“تُرجمت الفكرة، عمليًّا، بإنشاء ندوة أسبوعيّة أُطلق عليها “ندوة الإثنين”، تستضيف كلّ يوم اثنين من الأسبوع، محاضرًا من أصحاب الإختصاص وتدعو المثقّفين والمتعلّمين والمهتمّين بالشأن الثقافي في بلدة شحور وفي القرى المجاورة” يقول أرزوني.

ويتابع:”استطاع منتدى شحور الثقافي أن ينقل العمل الثقافي من احتكار المدينة إلى اهتمامات الرّيف، فأوجد طوال فترة بين 1986 -1993 حركة ثقافية ناشطة غير طائفيّة في بيئة محاصرة بمقتضيات النظام الطائفي في لبنان”.

إضافةً إلى ذلك، استطاع المنتدى أن يوسّع مدارك الحراك الثّقافي في شحور، فلم تقتصر المحاضرات أو الندوات على برامج تُعنى بثقافة الكتب والكتابة فقط، بل ضمّن برامجه ندوات ذات طابع زراعي بحت بغيةَ استقطاب الفلاحين والمزارعين من خلال تسليط الضوء على قضاياهم وتبادل الخبرات وتوسيع المدارك.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى