“كتاب العجائز” يتصدّى للشيخوخة والجنازات المؤجّلة

“مزيدًا من الزمن لا يعني مزيدًا من الخلود” (خوان رامون خيمينيث).
يسوق الانكباب على عالم الشيخوخة المرء إلى ما هو خارج التوقّعات. ليست الشيخوخة في حضورها الأعمّ مجرّد امتداد للفترات السابقة من العمر، بل هي في بعض مضامينها انقطاع حادّ عن كلّ ما سبقها من مراحل، بدءًا بالطفولة فالمراهقة إلى الشباب، وما يليه قبل ولوج عتبة الشيخوخة.
تأمّل هذا العالم (عالم الشيخوخة)- وهو تأمّل ساقتني إليه مجموعة قصصيّة بعنوان “كتاب العجائز” أنهيتُ كتابتها منذ نحو شهر، ولم تُنشر بعد- يودي بالمرء إلى الاستنتاج أنّ الشيخوخة وإن كانت ظاهرة عامّة، إلّا أنّها تجربة فرديّة إلى أقصى الحدود. قد تباغت الشيخوخة الإنسان وقد تحيك خيوطها بالتدريج، إلّا أنّها في كلتي الحالتين “أشبه بصخرة تطلّ برأسها لمّا تجفّ مياه خليج لا يردفه بحر ولا نهر” كما يقول أحد العلماء المتخصّصين بدراسة هذه الظاهرة البشريّة الشديدة الثقل (بونوا فيردون – الشيخوخة النفسيّة).
ليس من يسر الأمور ولا من بداهتها أن يتأمّل الإنسان نفسه باعتباره مجرّد أطلال لزمن ولّى، والشيخوخة في هذا السياق تجربة لا يمكن تكرارها بعكس كلّ تجارب العمر. فإذا كانت مقاربة العالم في كلّ مراحل العمر تستنفر جلّ الحواس، فإنّ عالم المسنّين وقد شحّتْ حواسه إلى أدنى الدرجات، لا يستنفر إلّا واقعة الانتظار… انتظار الموت.
حضور رمزيّ للموت
ثمّة شاعر إغريقيّ مجهول ترك خلفه هذه العبارة: “يشيخ الخلود في ليلة انتظار”، أمّا مع الشيخوخة فإنّ الانتظار أثقل وطأة حيث ذلك التواطؤ الفجّ بين الماضي والحاضر تمهيدًا لمستقبل لا يمكن توقّع حدوده على الإطلاق، إنّه الموت. ليس من باب العبث أنّ ثمّة من رأى في الشيخوخة فعل مفاوضة مع الموت، فالشيخوخة في بعض تجسيداتها هي حضور رمزيّ للموت قبل ذلك الحضور العينيّ الذي لا عودة منه.
ليس من باب العبث أنّ ثمّة من رأى في الشيخوخة فعل مفاوضة مع الموت، فالشيخوخة في بعض تجسيداتها هي حضور رمزيّ للموت قبل ذلك الحضور العينيّ الذي لا عودة منه
إذا كانت الأيّام التي تسبق الشيخوخة تحمل في بواطنها أصداء الماضي أو آمال المستقبل، فإنّ الصدى الوحيد الذي تستجيب له الشيخوخة هو ذلك الآتي من العالم الآخر.
لم أتوقّع إبّان انهماكي بـ “كتاب العجائز” أن أتصدّى للشيخوخة كجنازة مؤجّلة على الدّوم. عندما قالت الكاتبة الفرنسيّة فرانسواز جيرو وقد تلبّستها الشيخوخة عن بكرة أبيها، أنّها لا تأبه البتّة بتلك العجوز التي احتلتْ مكانها في المرآة، كانت تكذب بلا شكّ ذلك أنّ مزاحمة الشيخوخة لآخر أيّام الإنسان، يسوق هذا الإنسان لأن يكون محلّ ازدراء حيال نفسه، وحيال علاقة العالم به، مهما توافرتْ ضروب العناية والاهتمام.
لقد تحقّق عندي بعد الغوص في نصوص الشيخوخة التي وضعها جملة من الروائيّين والكتّاب فضلًا عن احتكاكي المتقطّع ببعض من أوغلتْ بهم السنين أنّ الشيخوخة هي انعكاس لحراجة الوجود في العالم، لثقل تلمّس عناية الآخرين.
جنازات مؤجّلة
ليست تلك الجنازات المؤجّلة مجرّد انسياب دبق للموت بل تراها– كما عاينتها عن كثب– أقرب إلى تمرين يوميّ لخوض غمار أرض مجهولة لم يسبق لأيّ كان أن خاضها من قبل، إنّها الأرض الشاسعة للموت. إنّ انتفاء بداهة الجسد واندثار طلاقة اللسان، وتبلبل الكلمات فوق الشفاه، وتداخل الماضي مع الحاضر عبر النظرات التائهة للعيون، كلّها أمور يمكن رصدها عبر تلك الفسحة الضيّقة التي تسمّى شيخوخة العمر.
أنبأني “كتاب العجائز” أنّ زمن الشيخوخة ليس بالزمن المحدّد المعالم والقسمات، وهو أيضًا ليس بالزمن الواضح الملامح والهيئات، فنحن مع عالم الشيخوخة إزاء زمن من نمط آخر، زمن غريب عجيب، زمن يأبى الركون إلى قبل وبعد وقد ركن بكل ثقله إلى روزنامة مرفوعة فوق جدار الغياب. أن تكون الثواني والدقائق والساعات والأيّام هي استجابة فقط لذلك الزمن المستحيل، زمن الموت، فإنّ الشيخوخة عندئذ هي واقعة خارج الزمان حتّى قبل مغادرة عالم الزمان والمكان… قبل لفظ ما تبقّى من أنفاس.
جلّ ما يبتغيه المرء في هذا العالم الأحمق، والذي ربّما يتّخذ أحيانًا صورة بندقيّة موجّهة تمامًا إلى الوجه، أو إلى الصدر، هو أن ينعم الإنسان ببقيّة طمأنينة
مزاحمة الماضي
لا يمكن الإنصات بعمق إلى ما يختبره الإنسان المسنّ، ولا يمكن استجلاء النواحي التي تسوقه إلى بعثرة أناه. ربّما هي مزاحمة الماضي لآخر سِنِيّ هذا الإنسان، أو لعلّها استحالة الرجوع إلى الوراء بغية المحافظة على ما هو مهدّد بالزوال، أو ربّما مع الشيخوخة نحن حيال توظيف هائل للنهاية مع كلّ رمشة عين.
فبداهة النهاية كما تبثّها الشيخوخة في روح الإنسان الطاعن في السنّ، تزيح تعنّت ذكريات الشباب، وتركل عيش الحاضر، بل إنّ بداهة النهاية هذه تراها تجيز لنفسها بخفّة رمي هذا الطاعن المسكين في غياهب الاضمحلال حتّى عن الشعور بالذات، وهو ما نطلق عليه في يوميّاتنا العاديّة جدًّا، الخرف.
إنّ الذاكرة كدعامة متينة لهويّة الفرد الذاتيّة تُبخس ناس الشيخوخة الحقّ في أن يعيشوا طبائعهم وسلوكاتهم التي كانت قد راكمتها السنين قبل الولوج في عتمة ما يسمّى بطول العمر. يُبخس فقدان الذاكرة العجائز حقّهم في أن يتشبّثوا حتّى بأسمائهم إبّان تلك الرحلة الأخيرة، وهو ما عايشته بعمق أثناء انكبابي على “كتاب العجائز”.
تلعثم الحياة
إنّ الشيخوخة باعتبارها ذلك النفق المضني الذي يفكّ الارتباط بين الأنا والعالم، وبين الحاضر والماضي، وبين الموت والحياة، هي تلعثم الحياة أو فلنقل “شردقة” هذه الحياة، وصولًا إلى قطع الأنفاس، ومع هذا، نعم، ومع هذا ثمّة من حكماء العالم من قارب الشيخوخة بهدوء وحكمة ولم يجد فيها إلّا “الفصل الأخير من مسرحيّة الحياة”.
فالخطيب والمفكّر الرومانيّ الأشهر شيشرون وتحت فصل بعنوان “لا مدعاة للخوف من الموت” رأى في رائعته التأمّليّة “في مديح الشيخوخة” أنّ الشيخوخة تكشف عن نفسها بعمق عندما نحصل على كفايتنا من هذا العالم الرحب ويغزونا الضجر من كلّ شيء.
تراني فُتنت ببعض مقاطع كتاب شيشرون، إلّا أنّ “كتاب العجائز” أودى بي إلى نفور من الشيخوخة وإلى الرغبة في عدم خوض غمارها في يوم من الأيّام، ولا سيما إذا أردنا أن نأخذ مقولة الخطيب الرومانيّ حول الضجر بعين الاعتبار. إنّ الضجر هو لافتة العالم الكبرى، وقد لفّ هذا العالم عن بكرة أبيه.
لست أدري، لعلّ العالم قد شاخ وتراه يخوض نهاياته الحمقاء. على كلّ حال جلّ ما يبتغيه المرء في هذا العالم الأحمق، والذي ربّما يتّخذ أحيانًا صورة بندقيّة موجّهة تمامًا إلى الوجه، أو إلى الصدر، هو أن ينعم الإنسان ببقيّة طمأنينة، بنأمة سكون وبهدوء خال من أيّ صخب وذلك قبل الإغفاءة الأخيرة.



