ماذا يعني لنا قطاف الزيتون نحن الجنوبيين؟

الزيتون يشبهنا؛ يُعاند الريح، يتشبّث في الأرض، ويُثمر على رغم كلّ ما يُرهقه من أزمات. لذلك لا يُختزل قطاف موسم الزيتون بموسمٍ زراعيّ عابر، بل إنّه طقسٌ يختبر فيه الناس معنى البقاء، وذاكرةٌ لا تزال حيّة في التراب كما في القلوب.

من يظنّ أنّ موسم الزيتون هو مجرّد فعل زراعيّ واقتصاديّ، ومصدر دخلٍ لأصحاب الأراضي، يجهلْ أنّ غالبيّة العائلات لا تجني أرباحًا تُذكر من بيعه، إذ إنّ كلفة الاهتمام بالشجرة ومن ثمّ القطاف وبعده النقل والعصر، تُثبت أنّ جدواه الاقتصاديّة، وما يدرّه من مال لا يتناسب مع المجهود الذي يُبذل من أجله. العائد الحقيقيّ من موسم الزيتون ليس مادّةً تُقاس بالأرقام، بل شعورٌ يُورث؛ دفء الانتماء، رائحة الحطب، الأيدي المتعبة التي لا تزال تصرّ على أن تبقى في الأرض مهما ضاق العيش.

لطالما كان موسم الزيتون موعدًا يجتمع فيه أبناء القرى، عند الفجر، حول فنجان قهوة يغلي على نارٍ صبورة، ومنقوشة زعتر خرجت توًّا من بيت النار. ثمّ تبدأ الرحلة بين الأغصان. الأيدي التي زرعت الشجرة واعتنت بها طوال العام، هي نفسها التي تمتدّ لتقطف ثمارها.

للأشجار مشاعر أيضًا

أتذكّر جيّدًا زياراتنا قبل أكثر من عشرين عامًا إلى مسقط رأس أمّي، بلدة المنصوري، القريبة من الحدود مع فلسطين المحتلّة. كنّا نرافقها إلى بيت جدّي للمشاركة في قطاف الزيتون.

زيتون الجنوب اللبناني

كان الأمر أشبه بمهرجانٍ طفوليّ لا ينتهي، والفرحة التي كانت تسكننا لا تشبه أيّ فرحٍ آخر. كنّا نتسابق على ملء الدلاء، نتفنّن في سرقة الزيتونات من سطول بعضنا البعض لنُعلن أنّنا “الفائزون”، وجدّتي سعاد تراقب من بعيد بابتسامتها الحنون، وتكافئنا جميعًا في نهاية اليوم بقنّينة “فانتا” لكل واحد منّا من دكّانها الصغير. تلك اللحظات لم تكن عابرة… كانت تبني فينا ذاكرة انتماءٍ لا تهتزّ أمام أيّ عاصفة.

في الليلة التي تسبق القطاف، كنّا ننام باكرًا لنسبق الجميع إلى الاستيقاظ، خوفًا من أن يتجاهلنا الكبار، ويحرموننا من هذه الفرحة.

كنّا صغارًا وكنّا نخترع قوانيننا الخاصة: الأضعف بيننا يتسلّق الشجرة، حتّى لا نؤذي الأغصان. كان كسر غصنٍ واحد جريمة لا تُغتفر. من هناك، بدأ حبّنا العميق للأرض، حبّ تعلّمنا فيه أنّ للأشجار مشاعرَ أيضًا.

طقوس القطاف

في صباحات القطاف، كنّا نرتدي ما نسمّيه في الجنوب “ثياب العِرِي”، ثيابًا قديمة لا يهمّ إن تلطّخت بالزيت أو التراب. كانت بمثابة زيٍّ احتفاليّ نرتديه بفخر، لأنّها تجعلنا نُشبه الكبار.

الشاي الساخن جاهز، ومنقوشة الزعتر الملفوفة بورق الجرائد في يدنا، فلنبدأ يومنا بابتسامةٍ تعبق بالتراب والرطوبة. كان البرد الصباحيّ يلسع وجوهنا، لكنّ دفء اللحظة يغلبه.

في منتصف النهار، كانت نساء الحيّ يجتمعن تحت شجر الزيتون، يقدّمن القهوة بركوة من نحاس، يشعلن سجائرهنّ، في مشهدٍ يشبه لوحةً من الزمن الجميل. يضحكن، يتبادلن الأسرار، يغنّين أحيانًا، وتبقى الأغصان شاهدةً على أصواتٍ لا تشيخ. ومع غروب الشمس، كانت الأيادي المتعبة تغادر الحقول، لا لتستريح وحسب، بل لتعود في الغد وتكمل الحكاية نفسها… كأنّنا نعيد كتابة ذاكرتنا يومًا تلو يوم.

زيتوننا تحت النار

لكن اليوم، هذه الحكايا التي كُتبت على مدى أجيالٍ تتصدّع تحت نار الغارات. أصوات الانفجارات صارت أعلى من صياح الديكة مع الفجر، والدخان غطّى التلال التي كنّا نركض بينها حفاة.

أشجار الزيتون نفسها لم تعد في مأمن. كثيرٌ منها احترق، وتحوّل إلى رمادٍ تحت نيران الطائرات والمدافع. الحقول التي كانت مسرح طفولتنا صارت ساحاتٍ مهدّمة، والزيتونات التي كبرنا بينها صار رمادها شاهدًا على حربٍ تأكل الشجر قبل الحجر.

في القرى الجنوبيّة، لم يطل القصف البيوت فقط، بل ما هو أعمق من الحجر؛ ذاكرة الناس ووجدانهم. استهدف الحقول والكروم، وأشجار الزيتون التي لا تُثمر زيتًا وحسب، بل تُثمر ذاكرةً وجذورًا وانتماءً. إنّ قصف شجرة زيتونٍ واحدة لا يعني تدمير محصولٍ بحدّ ذاته، بل حكاية عمر وعرق أجيال.

ما دام الزيتون واقفًا

على رغم كلّ هذا الخراب، ينهض الجنوب في كلّ موسم زيتونٍ كمن يُعيد ترميم قلبه بيديه. يزرع من جديد، ويسقي الجذور التي لم تمت.

كلّ غارة ربّما تقتلع غصنًا، لكنّ جذورنا تبقى مغروسةً في التراب، تنتظر فجرًا قادمًا؛ لأنّ الجنوب لا يموت، ما دام زيتونه واقفًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.

زر الذهاب إلى الأعلى