عشرة آلاف سلالة ميكروبية يتهددها الموت بسبب الكهرباء

في قاموس الانهيار اللبناني “لا إستثناءات”، فالأزمة تعصف في كل شيء، وتهدد البنيان بأكمله. وقد حطت رحالها في مختبرات الكائنات الحية المجهرية التابعة للجامعة اللبنانية في طرابلس. فخلال الأسبوع الماضي، عاشت الفرق البحثية ساعات عصيبة، حيث شارف على الموت والضياع حصاد سنين من البحث والعمل، إلى أن جاء الغوث المؤقت وتأمين كميات من المازوت لتشغيل مولدات الطاقة التابعة للمختبر البحث العلمي.

مع وصول مخزون المازوت الذي يشغل مولدات الكهرباء إلى الحدود الدنيا حيث باتت حياة الكائنات المجهرية مهددة بالخطر، رفع المسؤولون عن المختبر الصوت. وتوجه د. منذر حمزة بنداء استغاثة من أجل الحفاظ على هذه السلالات البالغة الأهمية من الناحية العلمية والبحثية. حمزة تحدث لـ “مناطق”، مشدداً على ضرورة الحفاظ على هذا المختبر الذي “ساهم في بناء قدرات عدد كبير من الكفاءات العلمية والفرق البحثية. والتحضير لمرحلة الدكتوراه بالتعاون مع الجامعات الفرنسية”.

بنك السلالات الميكروبية

“بنك السلالات الميكروبية” COLLECTION MICROBIOLOGIQUE DE L’UNIVERSITE LIBANAISE هو نتيجة أبحاث مخبرية وميدانية أجراها الأساتذة والطلاب الباحثين، وهو يضم “عشرة آلاف سلالة ميكروبية”. ويعتبر هذا البنك من “أكبر الثروات الوطنية”.

يوضح حمزة شروط عملية حفظ هذه السلالات، وهي تعتمد في تأمينها على ثلاجات تعمل وفق درجات حرارة منخفضة “ناقص 85”. ولا بد من تأمين الكهرباء لها على مدار 24 ساعة دون انقطاع.

انعكست أزمة انقطاع الكهرباء بصورة مباشرة على مختبر البحث العلمي ، فقد ازدادت الحاجة إلى كميات المازوت لتشغيل المولدات الخاصة والبديلة عن كهرباء الدولة التي “تتراوح فترة تزويدها بين الساعة والساعتين يومياً في أحسن الأحوال”.

وقال حمزة “وصلنا إلى وقت وجدنا فيه أن كمية المازوت بلغت مرحلة الخطر، ولم يعد يكفي إلا لساعات قليلة”. كذلك أضاف “تواصلنا مع الشركات الموردة إلا أن الجواب كان غير متوفر”. دخلت فرق المختبر في حلقة مفرغة وضغط نفسي كبير، ولم تتخلف عن أي وسيلة متاحة، “طرقت باب السوق السوداء، ولكن لم يكن الأمر بمتناول اليد”. فهم وصلوا إلى مرحلة الخوف المشروع لأنه “إذا انقطعت الكهرباء، ستتوقف الثلاجات، وبالتالي ستصبح الثروة الميكروبيولوجية في خطر الموت”.

حلول مؤقتة

يشير حمزة أنه وجه نداءً من أجل لفت الانتباه لخطورة الوضع. حيث انتشر تسجيل صوتي يوضح ذلك، أعقبه تواصل مع وزارة الطاقة، و”رئاسة الجامعة التي تبذل جهوداً مع الوزارة لإيجاد حل لمشكلة المازوت على مستوى الجامعة بصورة عامة”. كما لاقت تجاوباً من الجيش اللبناني، وتم تأمين كمية من المازوت لتأمين استمرارية عمل المولدات لفترة محدودة.

وبالتالي يتطلع القيمون على مختبر البحث العلمي إلى الوصول لحلول جذرية تحول دون العودة إلى مرحلة الخطر. وقد دعا حمزة القيمين لتأمين عملية توريد مستمرة ومنتظمة بالمحروقات لعدم “حصول كارثة علمية لا تعوض”. وعبّر حمزة عن سعادته لحجم التعاطف الذي لاقته الدعوة من المواطنين، المستشفيات، والجامعات.

الثروة التي لا تقدر بثمن

تمتلك السلالات الميكروبيولوجية مكانة مركزية في تطوير البحث العلمي، وتحظى بإهتمام كبير في الدول المتطورة. ويشير د. منذر حمزة أن “”بنك السلالات هو مادة أساسية لكل باحث لبناني، وهو أهم مصدر لكل من يريد التطور والإرتقاء في سلم البحث العالي”. وبالتالي فإن إهمال هذا البنك، يشكل رسالة سلبية للأجيال الصاعدة، و”كأننا نقول لهم، لا ضرورة للتعلم والبحث، وانشغلوا في طوابير البنزين والسوق السوداء”.

ولفت حمزة إلى دور مختبر البحث العلمي وبنك السلالات بتزويد المتخصصين في مجال الأمراض الجرثومية والإجراءات العلاجية المتصلة بها، ويتيح لهم “التعرف على تطور الأمراض، والسلالات الجرثومية ضمن البلاد، وآلية التعاطي معها”، ومقاومة المضادات الحيوية ضمن المجتمع ومدى تطور الميكروبات على العقاقير الجديدة.

كما ييجزم حمزة أن “الفرق البحثية تعمل وفق معايير علمية وفنية عالية، وأعلى مستوى من السلامة، والمسؤولية الأخلاقية للفريق”. كما كشف أن الجامعة اللبنانية تمتلك كوادر علمية بإمكانات عالية المستوى، ونشر أبحاث عالية المستوى في مجلات علمية عالمية. بالإضافة إلى أنه “لو تم دعم الجامعة اللبنانية مادياً كان هناك قدرة على إنتاج لقاح للكورونا بسبب توافر البنية العلمية والمعرفية، وما كان ينقصنا هو الإمكانات”.

البحث العلمي في خطر

وبدوره يتخوف حمزة من تأثير الأزمة المالية على البحث العلمي. فقد ارتفعت كلفته المادية بأضعاف مضاعفة، لأن جميع التجهيزات، والمواد والأدوات البحثية يتم استيرادها من الخارج بالعملة الأجنبية. كما يشعر بالقلق على “فقدان الثروة العلمية البشرية” بسبب “احتمال هجرة الكفاءات البحثية بسبب الحاجة لتأمين مستقبلهم”. حيث يشكل هؤلاء هدفاً للمراكز البحثية في الولايات المتحدة، كندا، أستراليا، والدول الأوروبية التي تعمل على استقطابهم، نظراً لخبرتهم التراكمية، وطاقتهم المعرفية.

الجامعة اللبنانية دورها مركزي

أكد حمزة على الدور الريادي للجامعة اللبنانية في مجال البحث العلمي، وتجهيز الكفاءات العلمية العالية المستوى. كما أنها لعبت دوراً مجتمعياً في سبيل رفع مكانة وشأن لبنان. ولفت إلى أن مختبر البحث العلمي يتبع إلى المعهد العالي للتكنولوجيا وكلية الصحة في الجامعة اللبنانية، كما أنه لعب دوراً خلال جائحة كورونا من خلال إجراء الفحوص المخبرية للمصابين في منطقة طرابلس وعموم الشمال، والقادمين إلى لبنان من خلال الحدود البرية الشمالية مع سوريا، والحدود البحرية من خلال مرفأ طرابلس. كما أن المختبر متخصص في مجال الأمراض الجرثومية والميكروبية.

يوماً بعد يوم تظهر الآثار السلبية للأزمة المالية والاقتصادية. مجال البحث العلمي هو ضحية جديدة من ضحايا الانهيار، كانت ساحته البارحة “بنك السلالات الميكروبية” الذي أنقذ في اللحظات الأخيرة ولا ندري غداً دور من. سلالاتنا في خطر. ماضينا وتراثنا العلمي، حاضرنا وغدنا في خطر.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى