مسرح “شغل بيت” فرن الشبّاك مساحة لاحتواء الشباب ومواهبهم
المسرح لا يكتمل إلّا عندما يتمّ تقديمه مدعّمًا بفيتامين الثقافة. نقول ذلك بعد تفاقم ظاهرة المسرح السطحي والذي يخلو من أيّ مضمون فعليّ، وتغلب عليه الإيحاءات الجنسيّة، لكن لن يستطيع ذلك من خطف المشهد المسرحيّ الذي يشهد بالمقابل محاولات جادّة، لإبقاء الخشبة متماسكة محصّنة بالإبداع، تليق بالمسرح اللبنانيّ العريق.
من بين تلك المواهب المبدعة التي أثّرت في المشهد الفنّيّ حاليًّا، يبرز المخرج المسرحيّ “شادي الهبر”، الذي يتمتّع برؤية فنّيّة مستقلّة وقدرة استثنائيّة على إحياء القصص وتجسيدها على خشبة المسرح بأسلوب فريد ومبتكر.
تستمدّ فكرة مسرح الهبر من تجارب الحرب الأهليّة التي شهدها لبنان خلال السنوات الرماديّة. يرى أنّ المسرح ليس مجرّد ترف ترفيهيّ، بل يمثّل وسيلة قويّة لتسليط الضوء على القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة والثقافيّة التي يعاني منها الشباب اللبنانيّ في ظلّ الأوضاع الصعبة التي يعيشونها.
“شغل بيت” من البيت
خلال الحرب برزت مبادرة “شغل بيت” كحاجة للتكيّف مع أوضاع بلد مجنون. يروي الهبر أنّ تجربته المسرحيّة بدأت بالتشكُّل في أيّام الحرب في الثمانينيّات، وخطا أولى خطواتها فيها عندما كان في العاشرة من عمره، حيث قام بإخراج أوّل مسرحيّة وتمثيلها بالتعاون مع أولاد الحيّ من الجيران والأصدقاء، حيث كان المسرح بديلاً عن اللعب حينذاك، بسبب الظروف الصعبة وغياب المساحات المخصّصة لذلك.
من هنا يقول الهبر لـ “مناطق نت”: “بدأت تتطوّر فكرة “شغل بيت”، حيث استأجرت لاحقًا منزلاً في منطقة فرن الشبّاك في بيروت وحوّلته إلى مسرح. ومن ذلك البيت، نشأ مسرح من شغل البيت، ومن هنا كانت التسمية”.
يتابع الهبر: “منذ ذلك الحين، تطوّرت المبادرة بشكل كبير، حيث بدأنا بأول مجموعة تدريب في العام 2016 ووصلنا الآن في 2024 إلى 25 مجموعة، ومنذ ذلك الحين تمّ إنتاج 41 مسرحيّة تناولت مختلف قضايا المجتمع”.
المسرح مكان للاكتشاف
يُعتبر المسرح نوعًا فريدًا من أشكال التعبير الفنّيّ. فهو يوفّر وسيلة للممثلين والجمهور للتواصل والتعبير عن أفكارهم ومشاعرهم بطرق مبتكرة. المشاهدة في المسرح ليست مجرّد فعل سلبيّ، بل هي تجربة تشرك الجمهور وتلهمه لاستكشاف العواطف الإنسانيّة والتأمّل في قضايا الحياة.
بالنسبة للجمهور، فإنّ المسرح يمنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم ومشاركة مشاعرهم وأوجاعهم. يمكن للجمهور أن يرى جوانب من حياتهم المتناغمة في الشخصيّات والمواقف التي يشاهدونها على المسرح. يمكنهم طرح الأسئلة والتفكير في قضايا الحياة بعمق، وقد يجدون في المسرح مفردات مشتركة تلامس وتلخّص تجاربهم ومشاعرهم.
بالنسبة للجمهور، فإنّ المسرح يمنحهم الفرصة للتعبير عن أنفسهم ومشاركة مشاعرهم وأوجاعهم. يمكن للجمهور أن يرى جوانب من حياتهم المتناغمة في الشخصيّات والمواقف التي يشاهدونها على المسرح.
أمّا بالنسبة للعاملين في المسرح، فهو بالنسبة إليهم وسيلة للتجديد والتعبير الحرّ، يمنحهم الحرّيّة الكاملة للتعبير عن أنفسهم واستكشاف إمكانيّاتهم الفنّيّة والإبداعيّة. على المسرح يكونون قادرين على استخدام كلّ ما لديهم من مهارات ومواهب لخلق تجارب فنّيّة فريدة وقويّة، حيث يقول المخرج شادي الهبر: “من يدخل المسرح ليس كمن يخرج منه. قد يجد الإنسان جملة تشبهه، مشهدًا يشبه أو يلخص حياته، لتكون هذه التفاصيل سببًا للتغيير”.
ويضيف حول إنتاج مسرح “شغل بيت” قائلًا: “يمكن تقسيم الإنتاجات إلى ثلاثة أنواع. الأوّل هو المسرح المحترف، حيث أعمل مع نصوص جاهزة مثل مسرحيّات “أثير النحل” و”دفاتر لمية” و”رحيل الفراشات” حيث شاركت في تقديم الأخيرة الممثلة اللبنانية زينة ملكي”.
يتابع الهبر: “بالنسبة للممثلين المشاركين فهم إما أن يكونوا قد خضعوا لورش عمل معنا مثل في مسرحية “دفاتر لمية”، أو يكونوا أشخاصًا لم يشاركوا من قبل، مثل مسرحية “رحيل الفراشات”.
عن النوع الثاني من إنتاج “شغل البيت” يقول الهبر: “هم متخرّجو المستوى الأوّل للدورة التدريبيّة لمسرح شغل بيت. يقوم هؤلاء الطلّاب بالتسجيل في دورة تدريبيّة تحت عنوان: إعداد ممثّل ومخرج مسرحيّ، والتي تستمرّ مدة تسعة أشهر، يتمّ في نهايتها إنتاج مسرحيّة تتناول موضوعًا أو قضيّة يتمّ اختيارها من قبلهم، بهدف إيصال رسالة معيّنة للمجتمع. بعد ذلك، يتمّ تحويل هذه الرسالة إلى عمل مسرحيّ كامل، وعادةً ما يكون العمل مبنيًّا على مجموعة من المونولوجات الفرديّة لكلّ طالب”.
أمّا النوع الثالث فيقول الهبر: “هو المستوى الثاني للطلّاب، ويشمل الدبلوم. في هذا النوع، يُسمح للطلّاب بتأليف مسرحيّاتهم الخاصّة، مثل مسرحيّة “فاتورة أحلام” التي تمّت كتابتها من قبل طالب في دورات تدريبيّة لمسرح “شغل بيت”. وأنا أقوم بالتنسيق والإشراف على هذه المسرحيّات”.
مطرقة لمثلّث المحرّمات
للمجتمع حاجة للمسرح، تمامًا كحاجة الإنسان للطعام والهواء لكي ينمو. لذا كلّما كان المجتمع مكبوتًا ومغمورًا بمشاكله ومآسيه، زادت حاجة الإنسان إلى المسرح. وهذا الأخير يتطلّب الجرأة، ولكنّ الجرأة لا تقتصر فقط على تلك الجنسيّة. لذلك، تتجلّى في مسرح “شغل بيت” بطريقة الطرح والتقديم.
الجرأة في المسرح تعني أن نكون جريئين في طرح الأفكار والقضايا المحظورة، وأن نتجاوز الحواجز التي تعيق الحوار والتفاهم. يسعى المسرح إلى تحرير الفرد وإلهامه لاتّخاذ مواقف حقيقيّة وتحقيق التغيير في المجتمع.
يعتبر كسر “التابوهات” من الأساسيّات في المسرح، حيث يرتكز العمل المسرحيّ على استكشاف ومناقشة المواضيع والقضايا الحسّاسة والمحظورة فيه، مثل الدين والسياسة والجنس. تكاد تكون خشبة المسرح المساحة الديمقراطيّة الوحيدة على وجه هذا الكوكب التي يمكن للفرد من خلالها التعبير عن أفكاره ومشاعره ورؤيته للعالم بطريقة حرّة.
وتعليقًا على هذه الفكرة، يقول الهبر: “بالنسبة لنا الأخلاق والقيم ثابتين، ولكن كلّ ما هو حول هاتين القيمتين يمكن أن يتغيّر من أجل تحسين حياة الإنسان ليكون فعّالاً في مجتمعه”.
لا يكتفي مسرح شغل بيت بقضايا المرأة، بل يذهب أبعد من ذلك، للتابوهات الأكثر إثارة للجدل في المجتمع العربيّ، حيث يناقش ويمنح مساحة للأفواه المكمومة، إذ تمّ تقديم شخصيّة مثليّة الميول الجنسيّة في مسرحيّة “أثير النحل”. هذه الشخصيّة غير النمطيّة، كانت قويّة ومقبولة وليست ضعيفة كما يصوّرها المجتمع دائمًا، حيث يقول الهبر: “هذه هي الجرأة في مسرحنا التي نريدها والتي أتحدّث عنها، أيّ أن نقول الحقيقة كما هي، دون خوف أو تحفّظ، وأن يكون الإنسان نفسه من دون قيود”.
المسرح “روشتّة” علاجيّة
ولأنّ المسرح يُعَتَبَرُ بيئة مثاليّة للإبداع والتخيّل والكتابة الدراميّة، فإنّه المكان الصحيح والأنسب لإظهار الحالات النفسيّة والعاطفيّة والسلوكيّة للشخصيّات المسرحيّة من خلال التجسيد والتمثيل. يتمّ تجسيد الشخصيّات الدراميّة بشكل كامل وواقعيّ، مع التركيز على الحالة النفسيّة والعاطفيّة التي تميّز شخصيّة الممثّل.
لذا، يُعتَبَرُ الفنّ المسرحيّ مفتاحًا لتحقيق التحوّلات الكبيرة في حياة الشباب، فقد يعثر البعض على وظيفة أحلامهم من خلال العمل في المسرح، بينما يجد آخرون شركاء حياتهم، وقد يساعد البعض الآخر على التصالح مع أسرهم وتحسين العلاقات العائليّة من خلال تجربتهم في المسرح، وهذا ما حصل مع بعض الأشخاص الذين أتوا إلى مسرح “شغل بيت” محمّلين بمشاكلهم التي أعاقت حياتهم، ليكون ترياقًا لهذه المشاكل.
ولأنّ المسرح يُعَتَبَرُ بيئة مثاليّة للإبداع والتخيّل والكتابة الدراميّة، فإنّه المكان الصحيح والأنسب لإظهار الحالات النفسيّة والعاطفيّة والسلوكيّة للشخصيّات المسرحيّة من خلال التجسيد والتمثيل
من فرن الشبّاك إلى كلّ العالم
ولأنّ الإيمان لا يقتصر على مجرّد العبادة، ولأن سبب حاجتنا للفنون في زمن الانحدار هو على حدّ قول الصحافيّة الأمريكيّة مارغو جيفرسون “إنّ التاريخ لن يكون حاضرًا إلّا بوجود قواعد من الخيال”. كان إيمان مؤسّس مسرح “شغل بيت” قوّة دفعته للانطلاق من مسرحه في منزله في منطقة فرن الشبّاك في بيروت نحو مختلف المناطق اللبنانيّة من الشمال إلى الجنوب، ومن لبنان إلى العالم العربيّ.
يقول: “درّبت في جميع المناطق اللبنانيّة، من شمالها إلى جنوبها، كما زرت عدّة بلدان عربيّة ودربّت فيها مثل: قطر، الأردنّ وعدّة مناطق في سوريا”. ويضيف: “في العام 2023، وفي الدورة الثالثة والثلاثين لمهرجان الشارقة، تمّت دعوتي للتحدّث عن تجربة مسرح شغل بيت، كتجربة مسرحيّة فريدة من نوعها في العالم العربيّ كلّه، وهذا إنجار أفتخر به، كونه التجربة العربيّة الوحيدة بهذا الشكل”.
لا مسرح بدون ثقافة
“المسرح ليس مكانًا لتغيير المجتمع بشكل مباشر، حيث لم يحدث في التاريخ أن قام المسرح بتغيير الشعوب”. هذا ما يقوله الهبر ويختم: “إنّ دور المسرح يتمثّل في بناء مواطن مثقّف، وعندما نبني مجتمعًا يتمتّع بالثقافة، فإنّ التغيير يصبح ممكنًا عبر هؤلاء الأفراد”.