طبخات بعلبكيّة كانت تحاكي رمضان وصارت ذكرى

“الزطّة”، “الرشتة”، “المخلوطة”، “كبّة الحيّلة”، “كبّة قرقش”، “كبة عدس”، “السفسوف”.. إنّها كلمات ليست “كرشونيّة” غير مفهومة، أو أخطاء مطبعيّة غير مقصودة، هي أسماء لمأكولات وطبخات حفرت عميقًا في المائدة البعلبكيّة قبل أن تطويها الوجبات السريعة من “الستيك” و”الهمبرغر” والتشيكن” وغيرها.

تلك الأطعمة التقليديّة التي كانت معروفة بقاعيًّا وتحديدًا في بعلبك، ليست مبتورة بلا هويّة، أو هبطت من الفضاء، بل لها جذور عميقة في التاريخ، منها ما هو فلسطينيّ المنشأ، ومنها ما عبر الحدود القريبة من سوريا وحجز له مكانًا في المائدة البعلبكيّة. هذه الأطعمة كانت تعتمد بشكل أساسيّ على الحبوب، لكنها اندثرت اليوم لصالح المأكولات الحديثة والجاهزة.

لم تمنع الأسماء الغريبة وغير المألوفة لتلك الطبخات، أن تبقى ردحًا طويلًا من الزمن من الأطباق الرئيسة على “السُفر” (الموائد) البقاعيّة والبعلبكيّة تحديدًا، ومنها انطلقت إلى بلدات وقرى لبنانيّة في مناطق ومحافظات مختلفة.

“الزطّة”، “الرشتة”، “المخلوطة”، “كبّة الحيّلة”، “كبّة قرقش”، “كبة عدس”، “السفسوف”.. إنّها كلمات ليست “كرشونيّة” غير مفهومة، أو أخطاء مطبعيّة غير مقصودة، هي أسماء لمأكولات وطبخات حفرت عميقًا في المائدة البعلبكيّة

الحبوب المكوّن الأساس

“الرشتة” ذات الجذور الفلسطينيّة، معروفة أيضًا في بعض الدول العربيّة، وفي بعلبك الهرمل معروفة منذ وقت طويل، وهي عبارة عن عجين مقطّع شرحات، يُطهى مع البصل والعدس، واللافت اليوم استحداث ما يشبه “الرشتة” القديمة في بعض البيوت بعد استبدال العجين بالمعكرونة.

الرشتة

من “الأكلات” البعلبكيّة أيضًا “كبّة الحيّلة” و”الزطّة” وهما من جذور سوريّة، تعرّف عليها البقاعيون بفعل الجيرة وقرب المسافة. أمّا المكوّنات فهي نفسها، والعجينة نفسها، كما تروي الحاجّة زينب سيف الدين (68 عامًا)، لـ “مناطق نت” فتقول: “هي عبارة عن عجينة من طحين وبرغل تُكبكب ويوضع في داخلها بطاطا ونعناع يابس، بينما “الزطّة” من العجينة نفسها تُحضّر على شكل دوائر صغيرة من دون حشوة، أو على شكل رقاقات، وكلاهما تطهيان باللبن المغلي”.

أمّا “المخلوطة” فهي عبارة عن مجموعة من الحبوب، من البرغل والعدس والحمّص والفاصوليا والذرة والرز، وبعض السيدات يطهونها بما يتوافر لديهن من الحبوب، فقد ينقص أو يزيد مكوّن من مكوناتها.

لقد اندثرت كبة “القرقش” كلّيًّا، وكانت عبارة عن حبوب شجرة البطم أو “الشنقار” (شجرة الحبّة الخضراء من الفصيلة الفستقيّة، ويتمّ تطعيمها بالفستق الحلبي) حيث يتمّ طحنها ووضعها مع البرغل لتصبح كبّة قرقش، واليوم لم تعد تطهى إذ إنّ هذا النوع من الشجر اندثر بدوره.

 من مؤونة البيت

راجت هذه الأطعمة نتيجة طبيعية لتوافر مكوّناتها بكثرة في المنازل قديمًا، الحبوب والطحين، إذ كان لا يخلو منها منزل، وتعتبر من أساسيّات مؤونة كلّ بيت، فضلاً عن أنّ هذه المأكولات غير مكلفة، خصوصاً عند الأسر ذات الأفراد الكثيرة. تقول الحاجّة زينب وأسرتها تتألّف من 11 فردًا: “إنّ مثل هذه العائلة لا يُقيتها سوى أكلات كهذه”. مضيفة: “ربّيت رجال ببنية قويّة على هذه الأكلات، ليس كجيل اليم ممّن لا يستطيعون رفع جرن الكبّة بسبب الطعام الذي يأكلونه”.

غياب واندثار

بدأت البيوت تفتقد لهذه الأنواع من الأطعمة التقليدية، إذ حلّت مكانها وجبات “الهمبرغر” و”التشيكن” و”الفرنسيسكو” و”الشاورما” و”الفاهيتّا” وجميع أنواع الدجاج واللحوم بـ”تتبيلاتها” المختلفة، وتكاد بعض العائلات تستغني عن الطبخ على أنواعه بسبب هذا التوجّه.

“المخلوطة”

يمكن القول إنّ بعض هذه المأكولات التي سبق ذكرها لا سيّما “الزطة” و”الرشتة” و”المخلوطة” و”كبّة القرش” و”العدس”، اندثرت نهائيًّا، حتّى إنّ كبار السنّ ممّن يستذكرونها، يتحدّثون عنها ويشتهونها، من دون أن يعودوا إلى طبخها، بسبب تبدّل النظام الغذائي للعائلة التي لم تعد تتقبّل هذا النوع من الطعام، بينما لا تزال “كبة الحيّلة” و”السفسوف” تُطبخ في بعض المنازل القليلة.

تبدّل السفرة الرمضانيّة

تغيب معظم هذه الأطعمة كلّيًّا عن “السُفر” الرمضانيّة، وبات الصائم يعتبر أنه بحاجة إلى مأكولات أكثر تنوّعًا كي يستطيع مواصلة الصيام، ربّما يظنّها أنّها غير متوافرة في الأطعمة التقليديّة والتراثيّة، الأمر الذي سبّب اضمحلال هذه المأكولات، خصوصًا بعدما بات الجيل الجديد لا يتقبّلها في ظلّ اعتياده على مأكولات بديلة.

تقول إحدى السيدات: “لا مانع عندي من إعداد هذه المأكولات لأنّني أحبّها، ولكن غالبًا ما ألاحظ عدم رضى زوجي عليها، وامتعاضًا كبيرًا لدى الأولاد الذين يلجأون إلى طلب الأكل الجاهز “ديلفري” ويتركون هذه الطبخات لتفسد، وهنا تكون التكلفة مضاعفة، لذلك صرت أطهو ما يرغبه الأولاد وما يعجبهم”.

من ناحيتها تعبّر… سيف الدين عن انزعاجها من مأكولات هذا الزمن “كلّها بهار ببهار، شو بلاقوا فيها؟”، متحسرة على أنواع الطبخ الذي “كنّا نعدّه سابقًا، ونكهته مميّزة جدًّا”، لافتة إلى أن الأهم في ذاك الزمن كان هو الرضى “كنا راضين بما نأكله ولم نكن نتذمّر”.

تغيب معظم هذه الأطعمة كلّيًّا عن “السُفر” الرمضانيّة، وبات الصائم يعتبر أنه بحاجة إلى مأكولات أكثر تنوّعًا كي يستطيع مواصلة الصيام، ربّما يظنّها أنّها غير متوافرة في الأطعمة التقليديّة والتراثيّة

أمّا جيل اليوم “فلا يعجبه العجب وما يأكله فهو غير صحّيّ”. تضيف: “لهذا نرى الأطفال يولدون بمشاكل صحّيّة، لأنّ الأم أصبحت تتغذّى على مأكولات ما فيها غذاء”.

ذو قيمة غذائية

بدورها تصف لمياء مصطفى معاناتها مع تحضير الطعام، فتقول لـ”مناطق نت”: “إنّ معظم الطبخ لا يأكله أولادي، أمّا “الزطة” و”الرشتة” فمنذ سنوات توقّفت عن طبخها، إذ كنت كلما أطبخها، كانت الطبخة تبقى كما هي، إلى أن يئست وتوقّفت”. وتستدرك لمياء أنّها تحاول يوميًّا إقناع أولادها “بفوائد هذه الأطعمة وأهمّيتها لجسم الإنسان وما تحتويه من فيتامينات، ولكن عبثًا”.، وتؤكّد إلى أن معظم طبخها اليوم أصبح عبارة عن مقليّات و”نواشف”.

بالمحصّلة، لن يبقى الطعام التقليديّ والتراثيّ والذي يشكّل جزءًا من هويّتنا الوطنيّة، بمنأى عن التدجين الذي يطال كلّ شيء، ولن يبقى بمنأى عن رياح التحوّلات التي تشهدها حياتنا، وتؤثّر في أصغر تفاصيلها من دون أن ندري، لكن الحفاظ على هذه المأكولات واجب وطنيّ، ويجب أن يكون من مسؤوليّة وزارتيّ الثقافة والسياحة المناط بهما حفظ التراث وحمايته، للتشجيع نحوها قبل زوال هذا الحيّز الأصيل من التراث الشعبي، وخصوصًا المناطقي.

العجين ويدخل في إعداد الكثير من الطبخات المندثرة

ولطالما ارتبط النظام الغذائيّ في المناطق الريفيّة والمطبخ بما يضمّ من أطعمة بنمط الإنتاج الزراعيّ في تلك المناطق، وكذلك بالثروة الحيوانيّة وما تعطيه، لذلك لا تبتعد المأكولات التقليديّة والتراثيّة، التي كانت سائدة في البقاع عمومًا وبعلبك خصوصًا، عن هذه القاعدة، حيث السهل الخصيب، بما يتضمّنه من إنتاج وفير، من حبوب بمختلف أنواعها: قمح وفول وحمص وعدس وغيرها، وأيضًا الثروة الحيوانيّة بما تضمّه من مواشٍ ودواجن وأبقار.

لذلك تأتي تلك الأطعمة انعكاسًا طبيعيًّا لنمط الإنتاج الزراعيّ والحيوانيّ اللذين كانا سائدين مدّة طويلة، إلى أن بدّلت من طبيعتهما متغيّرات الحياة وعصفت بتلك الطبخات التي أضحت أسماء غريبة غير مألوفة، يتضاءل تداولها يومًا تلو يوم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى