مقاهي بعلبك التي اندثرت.. “بار” و”بوفيه” ورواد خذلتهم ذاكرتهم
من خلال تتبّع بعض الحوادث المرتبطة بتاريخ بعلبك، ذات العلاقة بمقاهيها القديمة، وقد حاولنا إيراد بعضها في الجزء الأول من المقال، سنحاول أيضًا في هذا الجزء الثاني، أن نقول: إنّنا وجدنا صعوبة في الحصول على بعض المعلومات. السبب منطقيّ ومعروف، إذ لم يعد كثيرون من روّاد تلك المقاهي على قيد الحياة، ومن صمد منهم في وجه الزمن لم تسعفه ذاكرته على إيراد أخبار دقيقة تتعلّق بموضوعنا، بقدر استذكاره بعض الصور الشبحيّة، التي فقدت بعضًا من مضمونها بفعل مرور الوقت.
هذا الأمر ينطبق، من ضمن أمكنة أخرى، على مقهى “المنشيّة”، إذ تبيّن أنّه من أولى المقاهي المقامة في المدينة. المبنى، الواقع قبالة أوتيل بالميرا الشهير، ما زال قائمًا وهو في حال جيّدة، لكنه مقفل. أفادنا بعض الأشخاص أنّ المقهى كان قد تأسّس إبّان مرحلة الانتداب الفرنسيّ على لبنان، في عشرينيّات القرن الماضي.
كان المكان عبارة عن “بار” و”بوفّيه”، وتمثّل معظم روّاده بالضبّاط الفرنسيّين، ممّن أدّوا خدمتهم العسكريّة في المدينة، أو في أنحائها. اشترى حارث لطفي حيدر المبنى، وحوّله إلى معرض للتصاميم الفولكلوريّة – التراثيّة، بالاشتراك مع السيّدة منال الرفاعي، إلى أن أقفل في فترة لاحقة، بعدما تغيّرت الأجواء السياحيّة في المدينة، وقلّ عدد السائحين هواة الثياب والبضاعة الفولكلوريّة، في خلال العقدين الأوّل والثاني من القرن الحالي.
مقاهي رأس العين
يُعتبر “كازينو رأس العين” من أشهر المقاهي في المدينة. وكما يدلّ الاسم، فإنّ المقهى يقع في منطقة متنزّهات رأس العين، وفي مكان مميّز منها، فهو يفصل ما بين “المرجة” الشهيرة و”البيّاضة”. يعود تاريخ إنشاء المقهى، في شكل فعليّ، إلى أواخر أربعينيّات القرن الماضي، أيّ إلى السنوات التي أعقبت الحرب العالميّة الثانية.
وكما يفيد الأستاذ محي الدين الجبّة، فإنّ ثلاثة شركاء، وربّما أربعة، كانوا من مستثمري الكازينو في البدايات وهم: مرعي الجبّة، موسى الحمصيّ، أحمد محمود حيدر ومحمّد عبّاس ياغي، النائب عن مدينة بعلبك في ستينيّات القرن الماضي. وفي حين أنّ المقهى هو من أملاك بلديّة بعلبك، فإنّ النائب الراحل ياغي استأجره منذ الستينيّات، لمدة 99 سنة من البلديّة.
لا شكّ في أنّ المرحلة الذهبيّة، وربّما المراحل، للكازينو حدثت خلال فترات متقطّعة، ويعود ذلك إلى تبدّل الأوضاع العامّة في البلاد. ففي السنوات الأخيرة كان يفتح أبوابه تارة، ليغلقها من جديد. لكن هذا المقهى شهد حوادث ذات أهمّيّة واضحة في تاريخ المدينة، وحتّى البلد بشكل عام.
فخطاب القسم الشهير، الذي ألقاه الإمام موسى الصدر في السابع عشر من آذار العام 1974، كان قد تمّ على أرض الكازينو تحديدًا، وليس في ما يُسمّى ساحة القسم (ربّما ابتكرت التسمية لاحقًا)، أو مرجة رأس العين نفسها، كما يرد على لسان مصادر عديدة. (سوف نفرد، لاحقًا، مقالًا خاصًّا حول تاريخ الكازينو، فالموضوع يستحقّ الإطالة، لا أن نذكر الحوادث في شكل متسرّع هنا).
لا شكّ في أنّ المرحلة الذهبيّة، وربّما المراحل، للكازينو حدثت خلال فترات متقطّعة، ويعود ذلك إلى تبدّل الأوضاع العامّة في البلاد. ففي السنوات الأخيرة كان يفتح أبوابه تارة، ليغلقها من جديد
وبما أنّنا في صدد الحديث عن مقاهي منطقة رأس العين، فقد انتشرت هذه المؤسّسات في أيامنا الحاضرة انتشارًا ملحوظًا، وهذا الانتشار تلعب فيه “الغيرة” دورًا واضحًا، إذ بمجرّد أن تسير أحوال أحد المقاهي في شكل جيّد أو معقول، حتّى تنبت مقاهٍ أُخرى بالقرب منه، وتلك من عادات اللبنانيّين في غير زاوية من البلد.
“جسر القمر”
في هذا الصدد، لن يغيب عن بالنا “مقهى جسر القمر”، الذي كان ذا طبيعة مختلفة، لناحية نوعيّة الزبائن، والأجواء التي أحاطت به، خصوصًا خلال السنوات الأولى من الحرب الأهليّة. اكتسب المقهى تسميته الصائبة، بحسب اعتقادنا، نظرًا لوقوعه إلى الجهة الشماليّة من نهر رأس العين، وكان ينبغي اجتياز جسر قديم، صغير وجميل، من أجل بلوغه.
وفي كلّ الأحوال، لم يكن النهر كبيرًا في ما يخصّ عرض قناته، بل كان صغيرًا قياسًا إلى الأنهر الكبرى، وقد وقعت مباريات بين بعض الرياضيّين، حينذاك، من أجل القفز فوقه من ناحية إلى أخرى، حينما كانت حوافّه ترابيّة، وليست من الإسمنت كما في الوقت الحاضر.
تعود ملكيّة المكان إلى أشقاء عديدين من عائلة الزين (وهي العائلة التي امتلكت مساحة كبيرة في المنطقة نفسها، وقد أخذت حاليًا بالتآكل بعد بيع أجزاء منها)، وكان من الأمكنة المفضّلة لدى فئة من شباب المدينة، ولـ”بعلبكيّين” آخرين يسكنون بيروت، ممّن لجأوا إلى مدينتهم الأصليّة إثر احتدام المعارك في العاصمة.
توزّع الروّاد بين الجنسين، وجمعت بينهم اهتمامات مشتركة، وحتّى ثقافة لا تناقض كبير بين مضامينها. إلى ذلك، كان صوت السيدة فيروز يُطرب آذان الروّاد في أغلب الأوقات (تسمية المقهى ارتبطت أيضًا، بأوبّريت “جسر القمر”، لفيروز والأخوين رحباني، إذ أقيمت على مدرج معبد جوبّيتير، صيف العام 1962، إضافة إلى أمّ كلثوم، إذا ما شاء الزبائن، الذين كانوا يطلبون من أصحاب المقهى سماع موسيقى وأغنيات معيّنة، إنطلاقًا من مبدأ “ما يطلبه المستمعون”، خلال سهراتهم التي استمرت إلى أوقات متقدّمة من الليل، إلى أن يطلب منهم أصحاب المقهى (ممّن تجمعهم مع الروّاد أواصر الصداقة) مغادرة المكان لأنّهم تعبوا من الخدمة والسهر.
“صيدح” و”الجوهريّ” و”النهر الخالد”
ومن مقاهي رأس العين القديمة، والتي ما زالت قائمة، بالرغم من التغيير الذي طاولها سلبًا أم إيجابًا، نذكر “مقهى النهر الخالد” ومقهى صيدح ومقهى الجوهريّ. وللمقاهي الثلاثة تاريخ حافل باللقاءات بين أجيال متعاقبة، ومختلفة عمرًا واهتمامات.
بقي مقهى الجوهريّ تقريبًا على حاله وبساطته، وربّما ساعد هذا الأمر في الحفاظ على سحر ماضيه. أكثر ما كان يميّز مقهى صيدح في ماضي الأيام هو وجود Jack box للموسيقى فيه، أيّ تلك الآلة التي يمكن سماع الأسطوانات الموسيقيّة المصفوفة في داخلها بعد إسقاط قطعة نقود معدنيّة من فئة ربع ليرة (25 قرشًا) في الثقب المخصّص لذلك، ومن ثمّ ضغط الأزرار بحسب الرقم الخاص بكلّ أسطوانة. وللمناسبة كان صوت الآلة مرتفعًا، وجودته مرتفعة، وكان في الإمكان سماعه في كلّ أرجاء مرجة رأس العين.
أمّا في سوق المدينة، أو في وسطها، وإضافة إلى المقاهي التي جرى تعدادها، والحديث عنها، في الجزء الأوّل من هذا المقال، فينبغي ذكر “مقهى الجوهريّ” الواقع ضمن “دائرة المقاهي”، كما شئنا أن نسمّيها، فهو على بعد خطوات من مقهى طه ومقهى الزين وقهوة خبّيني، التي تمّ التطرّق إليها في الجزء الأول.
اتّخذ المقهى شكلًا طوليًّا ينتهي بباب يُفضي إلى حديقة، لكنّ الروّاد توزّعوا على طاولات يفصل بينها ممرّ ينتهي بجدار. على هذا الجدار، وفي مكان مرتفع، ارتاح على رفّ جهاز تلفاز صغير الحجم، قياسًا إلى الأحجام التي نراها اليوم، ولا ندري كيف كان في استطاعة الحاضرين الاستمتاع ببرامجه، وهو بهذا الحجم، كما تفصل بينهم وبين شاشته مسافة ليست بقليلة.
ليس في الوقت الحالي أيّة دلالة على وجود المقهى في تلك الزاوية. في وقت من الأوقات شغل أحد المصارف ذلك البناء، الواقع ضمن صفّ متلاصق من المحلّات التجاريّة، التي تبيع الألبسة في معظمها في الوقت الحالي، ولا نلحظ الكثير من الزبائن داخلها.
يتذكّر من عايش تلك الفترة أنّ البرنامجين المفضّلين لدى المشاهدين كانا برنامج الفكاهيّ شوشو، والآخر لأبي سليم الطبل (صلاح تيزاني) وفرقته، وربّما أيضًا برنامج “بيروت في الليل” الذي كان يحييه المونولوجيست حسن المليجي. وللمناسبة فإنّ جهاز التلفاز هذا كان الثاني من حيث العدد الموجود في مكان عامّ، بالإضافة إلى الجهاز الآخر في مقهى خبّيني، الذي سبق الحديث عنه.
“العشائر” و”العجمي” و”شيرازي”
“مقهى العشائر”، كما درجت تسميته بين سكّان المدينة، وقع في ساحة السراي، إلى الجهة الجنوبيّة منها. وكما ارتبط مقهى الزين بكاراج المدينة إلى حدّ معين، فإنّ مقهى العشائر كان ذا علاقة بالسراي وبالشؤون الإداريّة الرسميّة في جزء منه. لكن التسمية تعود إلى أنّ أفرادًا من العشائر كانوا يرتاحون على كراسيه، أثناء سعيهم لتسيير معاملاتهم الرسميّة، أو لمجرّد اللقاء والتسلية، قبل عودة بعضهم إلى المناطق المحيطة بالمدينة، إذ لم تكن موجة الهجرة إلى بعلبك من القرى المحيطة بها قد بدأت بعد.
“مقهى العشائر”، كما درجت تسميته بين سكّان المدينة، وقع في ساحة السراي، إلى الجهة الجنوبيّة منها. وكما ارتبط مقهى الزين بكاراج المدينة إلى حدّ معين فإنّ مقهى العشائر كان ذا علاقة بالسراي وبالشؤون الإداريّة الرسميّة في جزء منه
أمّا “مقهى العجمي” أو “مقهى شيرازي” القريب من مقهى العشائر، فقد جاور “مطعم العجميّ”، وكان من أشهر مطاعم المدينة بدءًا من عشرينيات القرن الماضي (حسبما أفاد أحد الأبناء) وحتّى نهايته. وكما يُستدلّ من التسمية، أو التسميات، فإنّ اصحاب هذه المؤسّسات كانوا من أصول عجميّة، وما زال بعضهم على جنسيّته الأصليّة، بعدما تعذّر عليهم الحصول على الجنسيّة اللبنانيّة، بالرغم من أنّهم قدموا إلى بعلبك بحسب الروايات، من نجف آباد إيران، وذلك في ثمانينيات القرن التاسع عشر 1870 -1880))، واستقروا في بعلبك.
كان موقع مقهى العجميّ استراتيجيًّا، كما زميله مقهى الزين، إذ أشرف على سوق المدينة التجاريّ، لكنّه تحوّل إلى مطعم صغير، بعدما “طار” جزء منه لدى توسعة الطريق، وتشكّل في ذلك التقاطع، الذي يُعدّ رئيسيًّا في المدينة ما يشبه الساحة. ولو شئنا إطلاق تسمية على ذاك التقاطع لقلنا “تقاطع الزحام”، إذ إنّ تقاطر السيّارات إليه يسبب زحمة منهكة، تساهم في جزء كبير منها حافلات الـ”توك توك” المزمجرة.
بالرغم من أنّنا لم نفلح في تعداد جميع مقاهي الزمن الماضي، وقول بضع كلمات بشأنها، وذلك لضيق المجال، فإنّ المكان الأخير الذي شئنا الحديث عنه ليس اعتياديًّا، وهو لا يشبه المقهى تمامًا، لكن الفضول دفعنا إلى زيارته بعدما سمعنا عنه أحاديث كثيرة من سكّان المدينة، وخصوصًا من ساكني المحلّة.
تقع هذه “المؤسّسة” على بعد عشرات الأمتار من ثكنة عسكريّة للجيش اللبنانيّ هُجّرت في بداية الحرب الأهليّة، بعدما جرى نهبها بالكامل، وذلك ضمن مبنى من طبقة واحدة ذي سقف مرتفع. اتّصلنا بإبي سعيد خزعل، صاحب المكان الذي هو عبارة عن منشرة (مؤسّسة لتصنيع المفروشات وما يماثلها)، وهو رجل بسيط ولطيف، فلبّى الدعوة من دون إبطاء. سألناه عن الماهيّة السابقة للمبنى (وكنّا نعرف الجواب سلفًا) فقال، كما قال لنا سواه: “هنا كان يوجد مقهى – بار، إبّان الانتداب الفرنسيّ، أمّا الوظيفة الرئيسة فتتمثّل بأنّه كان، ذات يوم، “بيت عمومي”، أيّ باللغة الشعبية “كرخانة”.
لم يبقَ من آثار الوظيفة السابقة شيء يُذكر، سوى بقايا رسوم جداريّة، وهي التي كانت موضع اهتمامنا في المقام الأوّل. تعرّضت هذه الرسوم لضرر كبير، بفعل الزمن وعوامل المناخ كالرطوبة وسواها، وعدم الاعتناء بها، لكونها لم تمثّل أهمّيّة لأحد. يمكن القول، من خلال معاينة أجزائها القليلة الباقية إنّها نُفذت بشكل نصف احترافيّ، لكن قيمتها التاريخيّة لا خلاف عليها، كونها أحد أشكال ذاكرة المدينة المنسيّة. قمنا بالتقاط صورة أو صورتين لأطلال الرسوم، ثم ودّعنا أبا سعيد ومضينا في سبيلنا.