بعلبك-الهرمل بلا فروع للمصارف.. و”الفيزا كارد” مشردة على الطرقات

“نجمع كلّ آخر شهر بطاقاتنا الائتمانيّة (ڤيزا كارد) “لي ولزملائي ونوكل أمرها أحد الأساتذة المتوجّهين إلى شتورا لكي يسحب لنا رواتبنا”.. لعل ما قاله أحد الأساتذة في قطاع التعليم من آل خزعل لـ”مناطق نت” يختصر إلى حدٍ بعيد المعاناة التي يكابدها المواطنون عمومًا والموظّفون خصوصًا، جرّاء إقفال فروع المصارف من المنطقة الممتدة من أقاصي الهرمل وحتّى تخوم زحلة، والباقي منها لا يفي بالحدّ الأدنى المطلوب.

المفارقة أنّ فروع المصارف تلك لم تبدأ بالإقفال بعد الأزمة والانهيار اللذين شهدهما البلد، بل بدأت قبل ذلك حينما أقفل مصرف “جمّال ترست بنك” فروعه بفعل العقوبات الأميركيّة حينذاك، لتكرّ السبحة بعد ذلك بفعل الأزمة، ويزداد الضغط على المواطنين الذين صاروا يحنّون إلى اليوم الذي كانوا فيه يقبضون رواتبهم في ظرف يدويّ يتسلّمونه باليد.

قبل العام 2019، شهدت منطقة بعلبك الهرمل، شأنها شأن معظم المناطق اللبنانيّة، طفرة في افتتاح فروع للمصارف، إذ كان في مدينة الهرمل وحدها أكثر من ثلاثة مصارف، كذلك الأمر بالنسبة إلى بلدة اللبوة التي كان فيها هي الأخرى ثلاثة مصارف. أمّا مدينة بعلبك ومحيطها فكانت تشكّل تمركزًا للمصارف بشكل واسع، إذ جميعها تقريبًا كانت لها فروع في المنطقة.

أفول العصر الذهبي

لكن العصر الذهبيّ للمصارف والذي استمرّ عقودًا طويلة، بدأ بالأفول إذ شهد العام 2021 رحلة معاكسة لإقفال فروع المصارف في المنطقة، والتي لا يُعرف حتّى الآن نهاية طريقها.

لكن العصر الذهبيّ للمصارف والذي استمرّ عقودًا طويلة، بدأ بالأفول إذ شهد العام 2021 رحلة معاكسة لإقفال فروع المصارف في المنطقة، والتي لا يُعرف حتّى الآن نهاية طريقها.

في منطقة الهرمل وجوارها أقفلت أربع مصارف مختلفة فروعها، حيث انتقلت تلقائيًّا حسابات الموظّفين والمودعين فيها إلى فروع في مناطق أخرى تبعد أقربها عن الهرمل نحو ستّين كيلومترًا. أيضًا في بلدة اللبوة أقفل فرعا ”فرنسبنك” و”سوسييتّيه جنرال” أبوابهما، ما رتّب على كلّ زبائنهما من أهالي المنطقة وكلّ القرى والبلدات على امتداد الطريق الدوليّة التوجّه إلى مدينة بعلبك للقيام بمعاملاتهم المصرفيّة.

أمّا الفرع المصرفيّ الأخير الذي كان لا يزال يعمل في مدينة الهرمل وقضائها، فكان البنك اللبنانيّ للتجارة BLC والذي أقفل أبوابه في مطلع حزيران من العام 2021، وكان توقيت الإقفال حرجًا كونه حصل في مطلع الشهر، وهو تاريخ استحقاق رواتب آلاف الموظّفين الحاليّين والمتقاعدين، ممّن وطّنوا رواتبهم في المصرف المذكور، إضافة إلى إعلان إقفاله من دون سابق إنذار.

أبقى المصرف المذكور على ماكينة سحب واحدة في مدينة الهرمل، ثمّ عاد بعد قرابة خمسة أشهر ليقفل تلك الماكينة ويضع الأهالي المودعين أو الموطّنين أمام طريق مسدود. تفتقر منطقة الهرمل وقضاؤها اليوم، بالإضافة إلى جميع البلدات المحيطة بها، إلى أيّ فرع من فروع المصارف التي انتقلت إلى منطقة زحلة والفرزل، فيما بقيت بعض الفروع في مدينة بعلبك.

الوجهة بعلبك…

أدّى اقفال جميع المصارف فروعها في منطقة الهرمل، إلى أن تكون بعلبك هي وجهة المواطنين كي يقوموا بمعاملاتهم المصرفيّة ويقبضوا رواتبهم، لكن بعلبك أيضًا لم تسلم من مسلسل الإقفال، حيث بادرت المصارف إلى إغلاق فروعها الواحد تلو الآخر ليستقر الوضع أخيرًا على فرعين وماكينةATM  للسحب عند أطراف المدينة.

بعد الهرمل وبعلبك جاء دور زحلة التي انتقل إليها المودعون، لكن الأخيرة لم يكن مصير الفروع فيها أفضل حالًا من حال الهرمل وبعلبك، فبعد دخول أحد المودعين مسلّحًا مطالبًا بوديعته من البنك اللبناني للتجارة، أقفل المصرف المذكور أبوابه لينتقل الجميع إلى شتورا جريًا وراء رواتبهم، التي لم تعد تساوي بدل نقل لسحبها، وهنا تكمن المأساة.

صرخة ووجع

يتحدث أحد العسكرييّن المتقاعدين في قوى الأمن الداخليّ من بلدة اللبوة لـ”مناطق نت” عن معاناته للحصول على راتبه، فيقول: “مضطرّ للذهاب إلى رياق أو زحلة من أجل الحصول على راتبي الذي يضيع نصفه بدل نقل على الطرقات”، مشيرًا إلى “أنّ المسافة الطويلة التي أقطعها ذهابًا وإيّابًا باتت ترهقني وتسبب لي مزيدًا من التعب الصحّيّ”.

بعد الهرمل وبعلبك جاء دور زحلة التي انتقل إليها المودعون، لكن الأخيرة لم يكن مصير الفروع فيها أفضل حالًا من حال الهرمل وبعلبك، فبعد دخول أحد المودعين مسلّحًا مطالبًا بوديعته من البنك اللبناني للتجارة، أقفل المصرف المذكور

من جهته يقول الأستاذ المتقاعد في التعليم الاكّاديميّ علي شمص لـ”مناطق نت”: “معاناتنا حقيقيّة لجهة سحب رواتبنا والتي تضيع على الطرقات بسبب بعد المسافة التي نقطعها، ولكن من دون أن يشعر بنا أحد”. يضيف شمص: “لا يزالوا يرفعون الحدّ الأدنى للرواتب بالقطّارة، هذا إن رفعوه، لقد جعلوا الموظّف الذي قضى عمره وأفنى حياته في خدمة الدولة، سواء كان أستاذًا أو عسكريًّا أو موظّفًا إداريًّا موضع سخرية”.

ليس حال العسكري المتقاعد من آل علام أفضل حالِ من الأستاذ شمص، إذ يشكو هو الآخر من المسافة التي يقطعها شهريًّا لأجل راتبه الذي لا يستطيع أن يعتاش منه هو وعائلته، ولولا قطعة الأرض الصغيرة التي يزرعها لتسنده لكان الوضع أسوأ، مع أنّها لا تصلح أن تكون مصدر عيش، مع عدم اهتمام الدولة بالقطاع الزراعيّ ودعمه”.

“ڤيزا كارد” مشرّدة

حتى الـ”ڤيزا كارد” باتت مشرّدة، وقلّة قليلة من تلك البطاقات هي بيد أصحابها الحقيقيّين من موظّفي القطاع العام والمتقاعدين، فمعظمهم للحفاظ على راتبه، لأنّ كلفة النقل باتت عالية جدًّا، يضطرّ أن يرسل بطاقته الخاصّة به مع أيّ فرد من أفراد أسرته، لا سيّما في حال كان عسكريًّا أو سائق ڤان.

يقول أحد المتقاعدين لـ”مناطق نت”: “بات السؤال للأقارب عاديًّا: حدا عندو مشوار ع زحلة، لابعت معو هالبطاقة ليقبضلي؟ وهذه حال كثيرين في المنطقة ممّن لا تسمح أوضاعهم المادّيّة بتكبّد كلفة النقل إلى زحلة أو شتورة.

معاملة سيئة

يشكو غالبية الموظّفين أثناء سحب رواتبهم من المعاملة السيّئة للمصارف. يقول أحدهم: “أقفلوا الأبواب بوجهنا متذرّعين بأسباب أمنيّة، ونضطّر للحديث مع موظّفي البنك من خلال شبّاك صغير، مع كلّ ما يرافق ذلك من ازدحام وعدم مبالاة”، ويضيف بحسرة: “أكثر من حجم هذا الذل على أبواب المصارف لم نشهد، وكأنّنا نشحد رواتبنا”.

يشكو مواطن آخر من هذه المعاملة السيّئة، ومن أنّ كثيرين من كبار السن المتقاعدين يقطعون مسافات طويلة لأجل الحصول على رواتبهم المتواضعة، فيخبرهم الموظف بأنّ عليهم العودة في وقت لاحق، لرفع سقف سحب البطاقة، وذرائع مختلفة.

حتى الـ”ڤيزا كارت” باتت مشرّدة، وقلّة قليلة من تلك البطاقات هي بيد أصحابها الحقيقيّين من موظّفي القطاع العام والمتقاعدين فمعظمهم للحفاظ على راتبه، يضطرّ أن يرسل بطاقته الخاصّة به مع أيّ فرد من أفراد أسرته

الإقفال وتداعياته

لإقفال فروع المصارف في المناطق البعيدة والنائية تداعيات كبيرة على المواطنين، وخصوصًا الموظفين، لا سيّما المتقاعدين ممّن لا تسمح لهم سنيّ أعمارهم من التنقّل، بالإضافة إلى فقدان رواتبهم قيمتها والتي لم تعد تكفيهم بدل دواء وغذاء. لكن تبقى تداعيات أكثر خطورة، هي تفريغ مناطق شاسعة كبعلبك الهرمل من أيّ مؤسّسة مصرفيّة، وما لذلك من آثار سلبية على حياة المواطنين وحركة الاقتصاد، والتداعيات الأخرى الناجمة من الإقفال، وهي صرف موظّفي تلك الفروع وما لها من انعكاسات سلبيّة أيضًا على شريحة كبيرة من الناس.

متروكة الناس لقدرها في ظلّ غياب أيّ معالجة لتلك المشاكل الحيويّة التي تمسّ حياتهم. يقول أحد مديري المصارف التي أقفلت في البقاع “إنّ هذا الإقفال غاية في الخطورة. بعض المناطق لم يعد فيها مصارف، والمصارف الأخرى زاد الضغط عليها لتأمين خدمات إلى زبائن إضافيّين، بالإضافة إلى معاناة الموطنين”.

يطارد قسم من الموظفين رواتبهم من منطقة إلى أخرى، لعلّهم يظفرون بها، بينما يعاني قسم آخر من بطاقاته المشرّدة وهي تبحث عن يدٍ لتأخذ بها وتعيد لأصحابها بعضًا من مال لا يسدُّ رمقًا، ولا يسمن من جوع. وحده الصمت يلفّ المسؤولين فيلوذون به، لا تحرّكهم مصيبة ولا تعنيهم مشكلة، ووحدهم الموظفون وخصوصًا المتقاعدين أبناء الأطراف البعيدة، يلوذون بالمعاناة، يتعايشون معها ولسان دعائهم يقول “أليس الصبح بقريب؟”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى