هشاشة العمران في مدينة بعلبك.. فوضى تاريخية

لم يكن تاريخ ٦ شباط من العام الجاري، يومًا عاديًا لدى سواد المقيمين في لبنان فضلاً عن سائر سكان الدول المحاذية له. فهذا التاريخ الذي أضيف لسجل من النكبات المتتالية، كان له الدور الأساس في إماطة اللثام عن أزمات شتى في لبنان تحديدًا، طويت بالتقادم. وفيما احتلت سيرة هشاشة العمران اللبناني أمام الكوارث الطبيعية كالزلزال الذي ضرب الجنوب التركي الشهر الماضي وأسفر عن ارتدادات طبيعية شعر بها سكان لبنان على عدّة أيام، الحصة الأكبر من الذعر العام، تفاقم هذا الذعر والهلع العموميين ليشمل سكان البقاع الشمالي ومدينة بعلبك على وجه التخصيص. فصيت المدينة المفسود بالخطر الأمني والتهالك المعيشي، أفرز منذ عقود هشاشة سكانية اقترنت بعشوائية العمران فيها، وأمام خطر الزلزال المحتمل اليوم، يغمر السكان فضلاً عن المعنيين تخوف وحذر انقلب لترقب مقيت من خطر نكبة جديدة تطال المدينة المنكوبة أساسًا.

وفي حين شهدت مختلف المناطق اللبنانية إخلاءً قسريًا للعمارات السكنية والمنازل التّي اشتبه سكانها بتصدعات في إنشاءاتها، ووصل مشهد الذعر هذا إلى ذروته في طرابلس، شهدت منطقة بعلبك – الهرمل حالة ذعرٍ مختلفة، إذ أن جموع المواطنين والسكّان قد استشعروا بارتدادات الهزات الأرضية المتعاقبة بصورة أكبر وفي حين برز التخوف العلمي والرسمي من تحرك فالق اليمونة الزلزالي شمالي المدينة، وما قد ينتج عنه من كوارث طبيعية كفيلة بالإطاحة بعمران المنطقة عن بكرة ابيه. وبما أن غالبية المباني في المدينة تتخذ طابعًا أثريًا وقد شيدت منذ ما قبل عام 1980, راجت في أوساط السكّان أخذ الحذر والحيطة التّامة والمتمثلة بصيانة التشققات والتصدعات الشكلية، ومتابعة إجراءات السّلامة وإدارة الكوارث في شبه غياب رسمي لمسؤولي المنطقة وفعالياتها.

عمران عشوائي

أدّى تزايد أعداد السّكان في مدينة بعلبك في السنوات الأخيرة والمعطوف على واقع إعلانها مركزًا لمحافظة بعلبك – الهرمل، واندلاع الحرب السورية وما تبعها من لجوء كبير بحكم القرابة الجغرافية، إلى توسع عمراني ضخم في شتى الأماكن المأهولة في المدينة، وتزامن معه توسع العمران العشوائي وامتد إلى محيط المدينة والبلدات المجاورة وزادت معه التعديات طرديًا.

وفي ظلّ غياب كلّي للتنظيم المدني، وتغاضي رسمي وغطاء حزبي أمن الطريق أمام التعديات والمخالفات، باتت المدينة غابة اسمنت عشوائي، ومبانٍ غير صالحة إنشاءً ولا تتطابق مع معايير السّلامة العامة. والتوسّع هذا جاء على حساب الغطاء النّباتي الطّبيعيّ في المرتبة الأولى والمراعي وثانيًا على حساب الأراضي الجبليّة الصّخريّة، ومن ثم على حساب الأراضي الزّراعية التّي شهدت تعدٍ استثنائي ولا يقارن، وإن كانت مساحة هذه الأخيرة ضئيلة نسبة إلى مناطق لبنانية أخرى.

في ظلّ غياب كلّي للتنظيم المدني، وتغاضي رسمي وغطاء حزبي أمن الطريق أمام التعديات والمخالفات، باتت المدينة غابة اسمنت عشوائي، ومبانٍ غير صالحة إنشاءً ولا تتطابق مع معايير السّلامة العامة

وكنتيجة للتحوّلات الديموغرافية والهجرات الداخلية بسبب الحرب التّي كان لها الأثر الأكبر في تغيير معالم ومقومات الطبيعة البعلبكية وتآكل الكثير من المساحات، وشيوع العشوائية العمرانية. عمد السكان لبناء مساكنهم عشوائيًا في العقارات التّي يملكونها لكن لا تستوفي الشروط القانونية لاستحصال رخصة البناء أو لكون بعضهم ملاحق قانونيًا ولا يستطيع تسجيل هذه الأراضي عقاريًا، أو بسبب وجود مخالفات سابقة أو الشيوع في الملكية، فيما معظم الأراضي في مدينة بعلبك والبلدات المحيطة بها مستملكة منذ عقود كاستملاكات عرفية وغير مسجلة وأغلب أصحابها انتقلوا إلى السّكن فيها، ولا تزال المشكلات على ضم وفرز هذه الأراضي مستعصية على الحلّ. الأمر الذي دفع الكثير لتشيد مساكنهم من دون الأخذ بالاعتبار شروط السلامة أو الاستعانة بمهندسين لتخطيط هذا العمران وتنظيمه.

غياب التنظيم المدني

ولعل الملام الأول في أزمة العمران العشوائي كان المديرية العامة للتنظيم المدني والمسؤولين عن الشؤون العقارية في المنطقة، لتقاعسها الممنهج عن أداء واجباتها في تنظيم العمران في مدينة بعلبك، فضلاً عن تقصير الأجهزة الأمنية عن هدم البناء المخالف أو إنذار المخالفين وارتهانها غالبًا لنفوذ قوى الأمر الواقع من ثنائي شيعي وعشائر. وبالرغم من كل محاولات اتحاد بلديات بعلبك لإطلاق خطط للتنظيم المدني والعمراني وكبح العمران العشوائي، الذي وصل إلى التعديات على المناطق المصنفة زراعية، وتوجيه السكن نحو الأراضي الشمالية والشمالية الشرقية وبالبلدات المحاذية للمدينة، مقنة ونحلة. فغالبية هذه المحاولات اختتمت بفشل ذريع وسرعان ما تمّ طيه قيد التناسي.

تقصير الأجهزة الأمنية عن هدم البناء المخالف أو إنذار المخالفين وارتهانها غالبًا لنفوذ قوى الأمر الواقع من ثنائي شيعي وعشائر

وبما أن غالبية هذه الأحياء العشوائية تقع على أراضي مصنفة زراعيًا ولم يتمّ استثمارها بالشكل الصحيح بسبب تمنّع المصارف عن تسليف القروض الزراعية تارةً وفرض شروط صعبة كشرط امتلاك المزارع لسند زراعي يعادل 2400 سهم للحصول على قرض سابقًا قبل الأزمة. وتعثر سياسات التشجيع على الزراعة فضلاً عن تصريف المحاصيل، ناهيك بتقاعس مسؤولي المشروع الأخضر التابع لوزارة الزراعة، والذي عُهد إليهم القيام بالاستصلاحات الزراعية ومساعدة المزارعين لاستكمال الأعمال اللازمة لأراضيهم بغية استثمارها والاستفادة من خيراتها، بحجة أن الأراضي التّي يعمل فيها المزارعون لا يمتلكونها فعليًا. ما دفع البقاعيون للتخلي عن الزراعة واستثمار الأراضي لبناء مساكنهم عليها.

وفيما يستمر تحامل المعنيين وتغاضيهم الموصول عن حاجات السكّان وتطلعاتهم، تحت ذريعة تحويل المدينة لمنطقة أثرية واستقطاب السّياح ما يتماشى مع الخطة التنموية الاستراتيجية، الأمر الذي ينم علانية عن طغيان نظرة تسليعية للآثار تتجاهل خصائص بعلبك الاجتماعية والطبيعية ومقوّماتها الإنتاجية، وفي المقابل يتراكم الاسمنت العشوائي مطوقًا المدينة ومشوهًا معالمها، وواضعًا السّكان في مواجهة الكوارث الطبيعية من دون إدارة لها أو ضمانة فعلية لإصلاح مستقبلي. وفيما أشارت مصادر بلدية أن الوضع لا يزال تحت السيطرة ينفي عموم المواطنين هذا الادعاء مشيرين لكونهم اليوم في دركٍ أسفل لا ينتشلهم منه سوى الرحمة الإلهية لا غيرها.

واليوم وأمام خطر الزلزال، وفي بحر من الصور والأخبار المتداولة عن تصدعات وتشققات في المباني التّي يسكنها البعلبكيون, وفيما تغيب بلدية بعلبك شبه المنحلة أساسًا عن وضع خطط لإدارة الكارثة, وإرسال فرق هندسية للكشف, يعيش المواطنين مرة أخرى حلقة جديدة من مسلسل الانهيار الطويل, بتبرم واستسلام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى