هكذا واجهت آمال فياض الأزمة الاقتصادية وهذه هي مملكتها!

“أميرة ارجعي لورا.. ناصر إبعد عن الصبيرة”.. للحظة تعتقد وأنت تشاهد آمال وتسمعها وهي توزع أوامرها هنا وهناك، أن مسًّا أصابها، أو أنها انفصلت عن الواقع، لكن ما أن تشاهد “أميرة” و”ناصر”، يذعنان لأوامرها حتى تُدرك أن ما يجري أمامك ما هو إلا تعليمات حقيقية، تُصدرها آمال لأفراد قطيع الماعز الذي تقتنيه، وهو مؤلف من “زيزي”، “بطة”، “نورا”، ”أميرة” و”ناصر” وغيرها من الأسماء، تقودهم آمال إلى المراعي وتمضي بينهم ومعهم معظم وقتها، معتزلة الدنيا، متخذة من قطعة أرضٍ معزولة على أطراف بلدة “أنصار” مكاناً لتلك العزلة.

إضافة لقطيع الماعز؛ كان لدى آمال ثلاثة أبقار صغار، باعت منها اثنتين وبقيت واحدة تُطلق عليها “غندورة”. لكن ليس هذا كل ما تقوم به آمال، فقطعة الأرض التي اشترتها حديثاً وتبلغ مساحتها الألف متر تقريبًا، حوّلتها آمال إلى حديقة غنّاء تضم جميع أنواع الأشجار والمزروعات، من خضار وحشائش وفواكه موسمية. بالإضافة إلى تنور تُعد عليه خبز المرقوق والمشاطيح. عدا عن المونة البلدية التي تُحضرها آمال، من زعتر بري وأعشاب وغيرها.

قبل “عزلة” آمال وانحيازها إلى الطبيعة، كان لديها متجر صغير لبيع المواد الغذائية، لكن مع تدهور الأوضاع الاقتصادية، واجهت آمال ضغوطًا وأعباءً مالية لم تستطع السيطرة عليها، مما انعكس على صحتها، لذا قرّرت بيع المتجر بما فيه، بأسعار زهيدة.

جانب من مملكة آمال

قررت آمال اعتزال كل شيء والتفرغ لاستصلاح قطعة أرض اشترتها قبل حلول الأزمة. باشرت في ذلك فأمّنت لها المياه والكهرباء. ومن ثم بدأت بعملية زراعة الأشجار، من تين وصبير وعنب وإجاص ودراق وحمضيات، ثم قامت بمفردها بتمديد شبكة ري المياه، وزرعت الخضار من ملوخية وبامية وبندورة وكوسى وخيار وباذنجان وفليفلة وحر وعرانيس الذرة وغيرها الكثير، بحيث أنّ كلّ ما يخطر في البال موجود في “حاكورة” آمال.

لاحقًا بدأت بشراء الماعز، وتعلمت بنفسها كيفية العناية بها وترويضها، كذلك ربّت بومًا وباشقًا. تقول آمال إنه لم يعد للمال قيمة، فكانت تشتري بكلّ ما تجنيه، صغار الماعز لتربيها وتعتني بها حتى تكاثر عددها. في البداية كان يموت عدد منها، ولم تكن تعرف السبب، ومع السؤال والخبرة صار لديها المعرفة والقدرة الكافية للتعامل مع الأمراض التي تصيبها، وإعطائها اللقاحات والأدوية المناسبة.

فليفلة وملوخية

تقول آمال لـ “مناطق نت” التي زارتها في مملكتها، إنّها تشعر بأنها امرأة قوية “زيادة”، تعمل على مبدأ إتقان العمل الذي تقوم به. وعن كيفية العناية بماشيتها تعلق: “أنا برعاهن وهني بدبرو حالن”، في إشارة إلى أنها لا تشتري العلف بل تطعمها من بقايا الأطعمة والمزروعات، وكذلك بقايا الخضار الذي تجلبه من عند البائع.

“معزايات آمال”.. أسماء وحكايا
بطة تبين أسنانها

لكل عنزة اسمها الذي يميزها، “حتى لو كان حيوان بحب عيطله ويرد عليي” تقول آمال. سمّت إحدى العنزات “أميرة الجقجاقة” لأنّها عندما تشاهد شخصين يتحدثان تقترب منهما لتعرف ماهية الحديث. أمّا “بطة” وهي صغيرة الماعز ومدللتها، تناديها فتأتي مهرولة، تأمرها بإظهار أسنانها فتفتح الجديَة فمها لتريها أسنانها حديثة البروز في مشهد أليف ولطيف. تدلل حيواناتها بالحديث إليها، ولا تستفيد من حليبها حيث تقول إنها لم تستطع تعلم كيفية حلب الماعز فكانت تستعين بأحد المعارف لحلبها عندما يضطرب وضع إحداها.

عن الاكتفاء الذاتي تُشير آمال إلى أنها تبيع ما تزرعه من ملوخية وبامية، وبعض أنواع الخضار، كذلك تستفيد من تجارة المواشي وتخترع كل ما تحتاجه من مدّ شبكة المزروعات والريّ وتستخدم مخلفات الحيوانات كسماد طبيعي.

تحب آمال الإتكال على نفسها منذ الصغر، فتقول إنها تعيش بكرامتها وأنّها لا تحتاج أحدًا، على الرغم من أنّها ليست مرتاحة ماديًّا، فالوضع الاقتصادي لم يعد يسمح لها بالتفرغ لنفسها وممارسة أنشطتها المعهودة مثل الخروج والترفيه عن الذات. غيّرت الأزمة الإقتصادية الكثير من عاداتها فصارت تحسب حسابًا لكل شيء؛ من كلفة الوقود حتى كلفة الدخول إلى المطاعم وكلفة شراء الأشياء. لذلك تعمل حاليًا على بناء بيت صغير لها في الأرض لتخفف من أعباء صرف الوقود.

تثق آمال بقدراتها فهي تخترع أشياءها من لاشيء. لا تقول “لا أعرف” بل تسأل “كيف أفعلها؟”. مع غلاء أسعار علب السجائر كان اللف العربي نافعًا لها، فلجأت إليه لتدخن منه. والملفت أنّها تدخّن بمبسم السيجارة المصنوع من عود القصب، وذلك بعد أن كان لديها مبسم ثمين، لكنه وقع في فتحة صخر كبيرة أثناء الرعي، فحاولت إيجاد مبسم يماثله دون جدوى. ثم حاولت استخدام الفلاتر البلاستيكية، حتى اهتدت إلى القصبة.

شجرة الباشن فروت وجزء من الحرج التي تُطل عليه حديقة آمال
مهارات متعددة وطهي على الحطب

في حوزة آمال الكثير من المهارات، منها التفنن في الطبخ، واستخدام الموقدة عوضًا عن الغاز من أجل الطهي. كذلك استعمال مكنسة البلّان، إضافة إلى الإهتمام بمزروعاتها وتتظيمها، ومد شبكة الريّ. تقول إنها التقطت مهاراتها من أصحاب المهن، لذلك صارت تمدّ الكهرباء بنفسها وتدهن الجدران بنفسها، وكلّ ذلك لأنّها تأخذ الأفكار ولا تخشى تجربتها.

عند زيارة حديقة آمال لا بد أن تدقق في أصغر التفاصيل فهذه المرأة التي لم تسمح للأزمة أن تسحقها سحقت المستحيل وسخرت من الأشياء فذللتها.  تحت الزنزلختة التي زرعتها وكبّرتها حتى ظلّلت مساحة كبيرة من الحديقة، وضعت مقاعد وطاولة بمثابة صالون في الهواء الطلق، ومدت بين فروعها الكثيفة وصلة كهربائية لتشريج الهواتف وغيرها من الاستعمالات. في أعلاها مصباح كهربائي محاط بهالة لطيفة هي عبارة عن نصف غالون بلاستيك، وفي جذع الشجرة ثبّتت رفوفًا للاستخدامات المتنوعة.

آمال أثناء اهتمامها بقطيع الماعز

“لا أحب القيود مثل الباشق” تقول. تحب آمال التميز وصنع بصمتها الخاصة، وكذلك الحال خلال الحديث عن المستقبل. تخطّط لمشروع زراعة توت العليق الأسود Blackberry، والتوت البري الأزرق Blueberry، إضافة إلى أشجار استوائية أخرى مثل الباشن فروت Passion Fruit والتي صنعت لها خيمة بعد أن اشترت شتلة وعملت على تكاثرها من البذور. وتفكر في عمل خيمة زراعية ريثما تتواضع أسعار النايلون، كذلك شراء المزيد من العجول لسهولة العمل معها كما تقول.

الحاجة أم الاختراع والسعي أولى علامات الوصول لتحقيق الهدف. تذكر بأن الكثيرين يثنون على عملها ويحسدونها، فتجيبهم: “اعملو متلي” لإيمانها بأنّه على  الإنسان أن يثق بنفسه وألّا يخجل من شيء ويخلق من اللاشيء شيئًا. وفي لفتةٍ طريفة تقول: “أردت البحث عن رقم كارمن لبس التي قالت إن أمنيتها أن يكون لديها مزرعة حيوانات صغيرة، أريد أن أدعوها إلى مزرعتي”.

تتعامل آمال مع الأحداث -مهما عظمت- بخفة، وتهوّن على نفسها بالإبداع والخروج من الصندوق. تحب ما تقوم به، ولو أن الأزمة الاقتصادية أنهكتها وأبعدتها عن العناية بنفسها كما تقول إلا أنها تجد متنفسها في الطبيعة، وفي أرضها بين مزروعاتها وحيواناتها المدللة.

تقود عنزاتها إلى المراعي
آمال بين أشجار الصبير
استراحة تحت الزنزلختة مع آمال والدخان العربي اللف، مع مبسم قصب وصحن سجائر صنعته آمال من خشب الشجر
رفوف وضوء في جذع شجرة الزنزلخت وبين أغصانها
تخبئ بطيختها من الواوي
زراعة البامياء في حديقة آمال

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى