هل هناك سيدات أعمال في بعلبك؟

السؤال الذي جعلته عنواناً، كان سؤالي على الأرض، هو تعبير عن رغبة بلقاء حواري مع سيدة أعمال بعلبكية أو سيدتين أو أكثر، للوقوف على تجربة المرأة البعلبكية في ريادة الأعمال وقدرتها على اختراق الاحتكار الذكوري لهذا القطاع، وتظهير هذه التجربة في تحقيق صحافي.

ما أحبطني أو ما جعل مهمتي الصحافية متعثرة، هو أنه لم يكن في ذهني إسم واحد لسيدة أعمال في بعلبك. حاولت تقصي بعض الأعمال والمجالات لتفقد النساء فيها، وجدت النساء في مهن كثيرة وهناك مهن تسودها النساء، ولكن بالطبع ليس في ريادة الأعمال.

بحثت في المواقع أونلاين وعبر محرك البحث “غوغل”، فمن الطبيعي والبديهي أن رائدة أعمال تُنشّط صفحة لها على وسائط البحث أو وسائل التواصل الاجتماعي أو هناك لمحة عن مشاريعها في موقع ويكيبيديا أو خبر في مجلة أو جائزة أو إعلان، لكن لم أجد شيئاً، بخلاف أسماء للبنانيات اعتبرتهن مجلة فوربس من أقوى سيدات الأعمال في الشرق الاوسط بالعام 2022.

في محيطي القريب هناك رجال أعمال بمعنى المتمولين الأشداء وهم ليسوا هواة إطلاقاً. كذا في الدائرة الأكثر اتساعاً في البقاع القاري من حدوده الشمالية حتى رياق جنوباً، هناك رجال أصحابُ أعمال، قليلون، لكنهم موجودون بطبيعة الأحوال. هذه الأحوال ذاتها، والبعض منها عكسها، ما أوصل الواقع إلى هذا العقم في وصول المرأة البعلبكية إلى أي ريادة.

المرأة البعلبكية ومفهوم ريادة الأعمال

لا تبدو المفارقة غريبة أو مخيبة في عملية البحث عن سيدات أعمال في منطقتي بعلبك الهرمل. ولا تبدو صادمة أيضاً عند التأكد من عدم وجودهنّ، بل لعل العكس كان سيحدث، وستكون الدهشة أعظم لو وقعنا على سيدة أعمال ترأس أو تدير مشروعاً كبيراً بنجاح مستمد من استقلاليتها الشخصية وثقافتها النسوية. هناك أسباب وعوامل تقف حائلاً أمام المرأة البعلبكية لبلوغ الريادة في الأعمال، يأتي في مقدمها خصوصية ثقافية وإنمائية وأمنية تنفرد بها منطقة بعلبك الهرمل عن سائر المناطق.

لا تبدو المفارقة غريبة أو مخيبة في عملية البحث عن سيدات أعمال في منطقتي بعلبك الهرمل. ولا تبدو صادمة أيضاً عند التأكد من عدم وجودهنّ

في المنطقة الممتدة من مشاريع القاع حتى زحلة-كسارة، يتاح للمرأة فرص الوصول للتعليم الجامعي، وهي أن تتعلم بما تيسّر من كليات وطنية وجامعات خاصة في اختصاصات محدودة لتعمل في مهن مثل التعليم والتمريض والقبالة والتوليد والحقوق وعلم الإجتماع والعلاج الفيزيائي، وربما إختصاصات أخرى مثل البرمجة والإلكترونيات في الجامعات الخاصة للأهل الميسورين المقتنعين أولاً بتعليم المرأة ومن ثم العمل في مجال اختصاصها بعد إنهاء الكلية أو استكمال دراساتها العليا المركزية في بيروت.

وللمحظيات من المتفوقات أو لتواجد ظروف معينة تسمح للمرأة أن تقصد العاصمة للدراسة في كلية العلوم أو طب الأسنان أو الصيدلة، وبعضهن قليلات تمكنَّ من السفر إلى سوريا قبل الحرب هناك، لدراسة طب الأسنان أو إلى دول أوروبا الشرقية لدراسة الطب العام، أو نادراً لدراسة متخصصة في الطب وقلّة قليلة هنَّ من تحملن شهادة من دولة أوروبية أو أميريكية.

مشاريع نسائية صغيرة

سيسأل سائل هل للتعلُّم والشهادة علاقة بريادة الأعمال، وبأن تصبح أية امرأة سيدة أعمال؟ الحياة الواقعية تخبرنا بجواب قطعي لا،! ولكن المرأة في بعلبك لم تجد لها أي وسيلة للتقدم والعمل سوى بالشهادة. صحيح أن امتلاك النساء صالوناً للتجميل أو محلات لبيع الملابس وإنشاء مشاغل الخياطة والأكسسوارات وتصنيع المأكولات والمؤن والمخابز، تعتبر من الأعمال ولكنها مشاريع صغيرة محدودة، ولا تعدو كونها عملاً يومياً يجترُّ نفسه على الدوام، حيث يُقتصر عمل المرأة فيه على بيع منتجاتها وبضاعتها على نطاق ضيق، دون أية نية بتطويرها وتوسيعها، ولا يخفى أن نوعية هذه الأعمال الشائعة مستساغة ذكورياً، ولا تنطوي على معان نسوية.

البيئة الاجتماعية والعائق الأكبر

هنا أيضاً نجد المفارقة العجيبة وظاهرة تختص بها المنطقة عن غيرها، وهي الجمعيات الأهلية التي تدير معظمها هذه المشاريع الصغيرة، حيث تُعتبر المرأة (كذلك الرجل) مؤسِّسة الجمعية “سيدة أعمال”، قيد التبلور فتنطلق من خلال تأسيسها لجمعيةٍ ما إلى افتتاح مشاغل ومشاريع تديرها بذهنية الأعمال (business) أكثر من كونه عملاً مجتمعياً إجتماعياً.
وبهذا المضمار ممكن أن نتحدث عن بضع سيدات في جمعيات ناشئة في بعلبك، تقصد مؤسِّساتها الوصول من خلالها إلى مراكز معينة بغية تمثيل الناس في السياسة أو في البلدية، أو في أقل الطموحات يؤمن نوعاً من ريادة الأعمال محدودة، تصطدم دائماً بالتحجيم الذكوري والسلطوي من قبل الأحزاب المسيطرة في المنطقة، ومنها إنشاء شكل هرمي من العاملين والمستخدمين ترأسهم رئيسة الجمعية في مشاريع تتداخل فيها الصناعة اليدوية والتجارة والخدمات.

إن هذا رغم كونه العمل الأكثر “نجاحاً” ورواجاً في الواقع الحالي، وهو لا يعد عملاً حراً لارتباطه بشروط الممولين ولا يحتاج لشهادة ولكنه ليس عملاً رائداً كما تُفهم الريادة في الأعمال.

مشاريع المرأة البعلبكية الصغيرة والمحدودة، لا تعدو كونها عملاً يومياً يجترُّ نفسه، حيث يُقتصر عمل المرأة فيه على بيع منتجاتها، دون أية نية بتطويرها وتوسيعها، وهذه الأعمال الشائعة مستساغة ذكورياً، ولا تنطوي على معان نسوية

وإذا تساءلنا ما هي الأسباب التي جعلت هذه البيئة عقيمة في ما يخص موضوع ريادة النساء البعلبكيات في مجال الأعمال، فأي مجيب سوف يكون لديه أسباب أساسية معروفة ومستهلكة. يسترسل في الإجابة من خلالها وهي متداخلة بعضها ببعض، مثل أن المجتمع ذكوري معطوفاً على الموروث التقليدي والديني وتقصير الدولة في البيئات الأكثر فقراً عن تشجيع إنشاء المصانع والمعامل، وكذلك سيطرة فئة معينة من أرباب السلطة على كل الأعمال بما فيها المدارس والمستشفيات ومحطات الوقود، ومؤخراً خلال الأزمة السوبرماركات والمطاعم! وغيرها، وكلها أسباب قوية تفرض نفسها وتضغط بثقلها على ميادين العمل وخاصة الريادي منها.

أشعال يدوية

لكن يجب عدم التغافل عن دور البيئة الاجتماعية التي غالباً ما تضع الضوء الأحمر بوجه تطلعات المرأة البعلبكية، التي هي من يرسم لها خياراتها المهنية والعملية والحدود النهائية لطموحاتها، وربما لا تترك لها سوى شق صغير ترى منه الضوء وتتحين الفرص القليلة كي تصل إليه وتعبر منه في مسيرتها التعلمية، وبالتالي تنحصر فكرة الريادة لدى المرأة البعلبكية على مجال واحد هو التفوق في الدراسة واللحاق بوظيفة أو مهنة عالية المواصفات وأن تنجح في مهنتها. وهنا يُطرح السؤال كيف لها أن تكون أكثر طموحاً؟!

العقل الامتثالي للمرأة البعلبكية

لا يترك النظام المذهبي ذو الخلفية الدينية مكاناً للمرأة بأن ترفع سقف توقعاتها عن نفسها بدءاً من طفولتها ومراهقتها، بل يجبرها أن تدور في فلك الزعيم، كأي عنصر متأهب لخدمته والضرب بسيفه ووضع شهادتها الفذّة في سخافة تبعيته، وربما مفاتنها أيضاً مع الشهادة. هذا يحدث عندما تلبس الجماعات السياسية في المنطقة لبوس الحداثة، وتظهر احترامًا شكليًا لحقوق النساء، باتخاذ بعض النسوة ديكورًا في النشاطات والمهرجانات والاحتفالات التي تقيمها، فيما يرفض حزب آخر علنًا إعطاء أدواراً أكبر للنساء في صفوفه. وهنا يبرز التساؤل الأساسي وهو كيف يمكن أن تنزرع فكرة الريادة في مجتمع سلطته ذكورية أبوية، لا تقبل حتى مشاركة الشباب والشابات وتفرض عنجهيتها وتصلبها على الجميع، وعلى المرأة بذكورية فاقعة؟.

تنمية العقل الامتثالي للمرأة البعلبكية، (الامتثال لما تم اختياره لها بالعمل ومجالاته وحدوده) هي عملية يتشارك فيها الأهل والبيئة الاجتماعية وأيضا الدولة رغم مزاعمها الخطابية واللفظية عن تمكين المرأة والتي تتوجه بها إلى الغرب لحصد المساعدات المالية. على هذا، ستدفع المرأة في المنطقة ضريبة باهظة لو حاولت التمرد على هذه الامتثالية، عليها أن تتحول إلى مقاتلة في حلبة الحياة، إلى ثائرة تحارب بضراوة وشراسة الظلم وعدم المساواة بالفرص والتقديمات.

تنمية العقل الامتثالي للمرأة البعلبكية، (الامتثال لما تم اختياره لها بالعمل ومجالاته وحدوده) هي عملية يتشارك فيها الأهل والبيئة الاجتماعية وأيضا الدولة رغم مزاعمها الخطابية واللفظية عن تمكين المرأة

غالبا ما تكون المرأة (ليس في بعلبك الهرمل فحسب، إنما في لبنان بشكل عام)، هي الطرف الضعيف في أي معادلة لتحصيل حقوقها المنصوص عليها قانوناً وشرعاً. لكن ما هو أكثر في منطقتنا هو سهولة التحايل والالتفاف على هذه الحقوق من دون أن ترتّب على المرتكب أي عواقب قضائية، بالإضافة إلى ابتداع اساليب لتعجيز المرأة عن تحصيلها. هذا يحدث دائماً في قضايا الميراث وحصص العمل.

ثقافة تمييزية متجذّرة

حتى في الثقافة البيتية، أو ثقافة الأهل يتضح التمييز الممارس على المرأة، فمقابل تشجيع الذكور على ادخار الاموال وحثهم على تأسيس مشاريع خاصة وتنويع مصادر دخلهم. مقابل هذا، يعيب الأهل على ابنتهم إنشاء ذمة مالية خاصة بها ويصرفون تفكيرها عن تأسيس المشاريع المستقلة، وربط مستقبلها بشريكها الزوجي وتحريضها على الانكماش داخل وظيفة أو مهنة في أقصى الحالات.

برغم كل المظاهر الكاذبة عن تمكين المرأة من التعلم والعمل إلا أن معظم الرجال كمجتمع ذكوري ديني لا يألون جهداً في تحطيمها إن برزت على صعيدٍ ما أو بانت بوادر تفوقها وريادتها. يحاربونها بقوة دفع متأتية من السلطة التي تحكم، من الجهل والذكورية والنظرة الدونية التي يمارسونها عليها، من اجترار الأمثال والنصوص والأحاديث التي تقلل من شأن المرأة وتشوه صورتها عن نفسها وعن قدراتها، فيما يلعب هذا الدور معظم الأهل الذين يضيفون إليه تجريدها من التمكين المادي الذي يدفعون به لإخوتها الذكور، فإن فَكّرت أن تنطلق بعمل ما وكان لديها خططها عن مستقبل بارع، عليها أن تبحث عن تمويل بنفسها من الصفر، ربما تبدأ لكنها لا تستمر للأسباب نفسها التي منعت غيرها من التفكير أصلاً خارج صندوقِ ما يقدم لها كامرأة…

نوافذ الأمل

يبقى السؤال، هل يبقى مجال ريادة الأعمال مقفلا على المرأة البعلبكية؟ بالتأكيد، دوام حال من المحال، وكل شيء في هذا العصر يجري بسرعة. فالمرأة البعلبكية الشابة أو تلك التي في طور النمو، لديها الآن عالم مفتوح بلا جدران إسمه الإنترنت. لم يعد الأهل والبيئة وحدهم من يربي ويشكّل الشخصية، جيل سوف يعرف كيف يختار ويسأل ويبحث ويرى ويتعلم ويعْلَم ويخطط وينتقي. حتى لو كانت خياراته خاطئة، لكن تنبقى مسألة شخصية، لكنه جيل لديه رفاهية الإطلاع والخصوصية، وأيضاً لا محدودية المشاركة مع عالم أكبر بكثير من محيطه.

كذلك النساء صاحبات الخبرات في الحياة، أدركن اللعبة النفسية والاجتماعية والثقافية والذكورية والسلطوية، التي تم التلاعب بهن من خلالها، وبالوعي نفسه سوف تعملن، كلٌّ حسب إمكانياتها، على الانطلاق والانعتاق من هذا السجن الواهي، وإذا كان هدفهنّ الريادة فلا بد ستسطتعن على تجميع المعلومات والموارد البشرية والمادية اللازمة والمبدعة للبدء بمشاريعهنَّ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى