الحرب تحرم ثمانية آلاف مزارع في الجنوب من موسم التبغ

تتواصل خسارات الجنوبيّين في الأرواح والممتلكات ومصادر رزقهم، بفعل الحرب الدائرة منذ نصف عام على الحدود مع فلسطين المحتلّة، وفي مناطق داخليّة في نطاق ما يسمّى بـ”جنوبيّ نهر الليطاني” وكذلك في شماله، وصولًا إلى مناطق البقاع وبعلبك.

في كلّ يوم يزيد من أيّام الحرب هذه، تتعاظم الخسائر البشريّة والمادّيّة وخصوصًا في مناطق خطّ النار الأوّل الملاصق للحدود، لكنّ أكثر ما يصيب الناس في الصميم هو ضياع مصادر أرزاقهم التي كانت تتشكّل أساسًا من العمل في الزراعة وتربية الماشية والدواجن، ومن بعض الحرف والوظائف.

وقد تعطلت أو تراجعت هذه المصادر إمّا بفعل القصف والتدمير والاحتراق، أو بسبب نزوح نحو 90 ألف مواطن من قراهم وبلداتهم، حملوا معهم هموم النزوح والبطالة والبحث عن أماكن آمنة تقيهم شرّ العدوان، لكنّهم لم يتمكّنوا بطبيعة الحال من أن يحملوا معهم أراضيهم التي يعتاشون من خيراتها وأرزاقها ونباتها وشجرها، فباتوا كالعراة تحت قبّة السماء.

من زراعة التبغ في الجنوب (صورة أرشيفية لكامل جابر)
ميقاتي: الجنوب منكوب زراعيًّا

في جلسة مجلس الوزراء المنعقدة بتاريخ الرابع من نيسان/ أبريل الجاري كشف رئيس الحكومة اللبنانيّة نجيب ميقاتي عن آثار المواجهات مع إسرائيل منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، قائلًا: “إنّها تسبّبت في نزوح حوالي 100 ألف لبنانيّ في الجنوب، ومقتل 313، بينهم 66 مدنيًّا، ونحو ألف جريح”.

وأضاف ميقاتي: “الكارثة الكبرى هي في الأضرار بالقطاع الزراعيّ، فهناك 800 هكتار (الهكتار الواحد يساوي 10 آلاف متر مربّع) تضرّرت بشكل كامل، وفُقدت أعداد كبيرة من رؤوس الماشية، كما فقد حوالي 75 بالمئة من المزارعين مصدر دخلهم النهائيّ”. ورأى ميقاتي وجوب أن تعلن الحكومة منطقة الجنوب منكوبة زراعيًّا، خصوصًا أنّ المشكلة ستنسحب على السنوات المقبلة”.

يشكّل موسم التبغ مصدرًا أساسًا لحوالي 16 ألفًا إلى 17 ألف مزارع جنوبيّ وعائلاتهم، يزرعونه في مساحة تبلغ نحو خمسة ملايين و500 ألف دونم. يبدأ موسم التبغ بفلاحة الأرض والحقول بين شباط/ فبراير وآذار/ مارس من كلّ عام ثلاث مرّات قبل غرسها بشتول التبغ المنقولة من مشاتل معدّة سلفًا. وتداركًا لزراعة الموسم في أوانه، وفي ظلّ عدم تمكّن المزارعين من بذر المساكب والمشاتل بسبب الحرب الدائرة، بادرت إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانيّة المتمثّلة بالريجي إلى إعداد وتجهيز مشاتل بديلة في بلدة معروب (صور) والسعديّات قرب بيروت، كي تساعد المزارعين.

يشكّل موسم التبغ مصدرًا أساسًا لحوالي 16 ألفًا إلى 17 ألف مزارع جنوبيّ وعائلاتهم، يزرعونه في مساحة تبلغ نحو خمسة ملايين و500 ألف دونم.

خسائر مادّيّة ومعنويّة

وللسبب عينه، أيّ الحرب، لم يتمكّن مزارعو التبغ من حراثة الأرض وإعدادها، وكذلك من زراعة شتول التبغ على رغم توافرها، وبات الموسم الذي يفترض أن ينتج أكثر من خمسة ملايين كيلوغرام من التبغ لهذا العام في مهبّ الحرب والخسران، أيّ أنّ هذا الموسم خسره المزارعون، تمامًا مثلما خسروا قبله موسم الزيتون والأشجار المثمرة والمزروعات الموسميّة على أنواعها، ومواشيهم ومزارعهم المتنوّعة.

نطرح السؤال على رئيس ومدير عام إدارة حصر التبغ والتنباك اللبنانيّة “الريجي” المهندس ناصيف سقلاوي، هل بات مزارعو التبغ والريجي على أبواب خسارة مادّية وربّما معنويّة؟

يقول: “نحن كريجي، نشتري التبغ من المزارعين مدعومًا، ونحن عندما نشتريه نخسر بالمعنى المادّيّ، لكن لا نخسر لناحية تأمين فرص عمل ودورة اقتصاديّة في الريف. ما نقدّمه هو بمثابة عقد ماليّ للمزارعين في المناطق النائية”.

ويضيف: “لا خسارة بالمعنى المادّيّ لنا، هناك خسارة معنويّة لعوائل مزارعي التبغ، إذ جزء كبير منها في 41 بلدة تقع على خطّ المواجهة ثمّ في الخطّ الثاني الموازي. إنّ جزءًا كبيرًا من المزارعين لم يستطيعوا زراعة أراضيهم خوفًا من القصف الإسرائيليّ عندما يكونون في حقولهم”.

ويوضح سقلاوي لـ”مناطق نت”: “أنّ الخسارة الماليّة هي خسارة المزارع للعائد الماليّ الذي كان يسكّر من خلاله قسط مدرسة أو دين دكّان، أمّا المعنويّة فهي أنّ أكثر من نصف المحصول الذي استلمناه السنة الماضية مرشّح أن يكون غير موجود في هذه السنة”.

الريجي حاولت، ولكن؟

ويشير المهندس سقلاوي إلى مشاتل زرعتها الريجي في معروب والسعديّات “كي نوزّع على المزارعين القادرين على زراعة حقولهم، لكنّهم وبسبب الخوف لم يتمكّنوا خلال شهرين، في الوقت المتاح، من زراعة هذه الشتول. قلنا نوزّع عليهم كي يزرعوا في المناطق التي نزحوا إليها أو في مناطق الخطّ الثاني الخلفيّ الذي يلي الخطّ الأوّل الذي يتعرّض للقصف، على نحو تولين والصوّانة اللتين لم تتعرّضا للقصف لكنّهما في منطقة تماس، وهناك كذلك لم يتمكّنوا من النزول إلى حقولهم خوفًا من القصف الإسرائيليّ”.

مشاتل التبغ والتي يُصار لاحقًا إلى قلعها وزراعتها في الحقول

وحول عدد المزارعين ممّن تخلفوا عن الزراعة بسبب الحرب يقول سقلاوي: “ليس لدينا من الأرقام الدقيقة شيئًا، نحتاج إلى شهرين أو ثلاثة أشهر حتّى نحصي من زرع ومن لم يزرع من المزراعين الواردة أسماؤهم في لوائح تسليم محاصيلهم سنة 2023 في الموسم الفائت”.

وهل هناك اتّجاه للتعويض؟ يجيب: “لا شيء لدينا قبل أن تتوافر الأرقام ويتبيّن عندنا كم هو حجم الكارثة. عندها نضع المعطيات كلّها بانتظار القرار السياسيّ الذي يتيح التعويض. إن تكلّمنا اليوم بالتعويض فعلى أيّ كمّيّة؟ وعلى أيّ عدد؟ لا معطيات عندنا حتّى الآن، والتعويض في نهاية الأمر يحتاج إلى قرار سياسيّ”.

ويختم سقلاوي: “بالمحصّلة، سنقاتل من أجل المزارعين، وعدم خسارتهم من الخطوط الحمر، ولن نتخلّى عنهم، إذ إنّ حجمًا كبيرًا من الموسم لم يتمكّنوا من زراعته”.

نصف المزارعين لم يزرعوا

يشير رئيس اتّحاد نقابات مزارعي التبغ في لبنان، نائب رئيس الاتّحاد العمّاليّ العام حسن فقيه إلى “أنّ نصف المزارعين تقريبًا لم يتمكّنوا من زراعة موسم التبغ لهذا العام، وربّما أكثر، لأنّ المزارعين أصلًا لم يتمكّنوا من حراثة حقولهم، ولم يزرعوا كذلك لأنّهم مهجّرون من قراهم”.

ويضيف في حديث إلى “مناطق نت”: “يمكن أن نستثني رميش إذ فيها نحو 65 من أهلها، وقد زرع بعضهم في الحقول المجاورة، لكن هذا يعني كذلك أنّ عددًا كبيرًا منهم لم يتمكن من زراعة موسم التبغ. عيتا الشعب مهجورة تمامًا وأهلها جميعهم خارجها، وربّما هناك بضعة مزارعين فقط زرعوا الموسم في عيترون، القرى الحدوديّة بأكملها تهجّرت ولم تتمكّن من أن تزرع موسم التبغ لهذا العام”.

يؤكّد فقيه أنّ زراعة التبغ في المنطقة الحدوديّة “تعتمد بثقلها على عيترون وعيتا الشعب ورميش، هذه البلدات إذا ما استثنينا النسبة المتبقّية في رميش هي بلدات مهجورة، وكان نصف المحصول الجنوبي يخرج منها ومن القرى التي هي في خطّ المواجهة الأوّل”.

حسن فقيه: نصف المزارعين تقريبًا لم يتمكّنوا من زراعة موسم التبغ لهذا العام، وربّما أكثر، لأنّ المزارعين أصلًا لم يتمكّنوا من حراثة حقولهم، ولم يزرعوا كذلك لأنّهم مهجّرون من قراهم

ويضيف: “لا يمكن أن نعطي أرقامًا دقيقة، لكن من المؤكّد أنّهم لم يفلحوا الأرض والحقول. كنّا نأمل أن تكون هدنة في أوّل رمضان، وبناء عليه قامت الريجي بزراعة مشاتل، وأخبرنا الناس في الخطّ الثاني أن تزرع مشاتل إضافيّة كي تزوّدها للمزارعين ممّن لم يتمكّنوا من رمي البذور والمشاتل، لكنّ الحرب لم تتوقّف ولم يعد من مجال للزراعة”.

تعويض على “الفيشة”

حول حتميّة خسران عديد من المزارعين موسم هذه السنة “بدأنا نناقش الوضع مع الريجي وعقدنا اجتماعًا تمهيديًّا، على افتراض أن يكون هناك تعويض على الموسم الذي لم يزرع، تمامًا كما جرى في الموسم الماضي، وأن يقبض المزارع على الفيشة كما لو أنّه زرع، وبقدر المبلغ عينه وربّما أكثر، إذ إنّنا سنطالب بزيادة الأسعار لجميع المزارعين وليس فقط للتعويض، إنّ الفيشة التي قبض عليها المزارع في الموسم الماضي سيقبض عليها تعويضًا هذا الموسم” بحسب فقيه.

وأكد فقيه أنّ المزارعين لم يخسروا شيئًا من الموسم الفائت، “إذ تمكّنوا من تسليم المحصول كلّه بمساعدة قوّات الطوارئ الدوليّة العاملة في جنوب لبنان والجيش اللبنانيّ، خصوصًا في القرى التي كانت محاصرة بالنار والقصف، فنجا هذا الموسم من الاحتراق، وكانت الأوضاع أقلّ ممّا هي عليه حاليًّا، وبالتعاون مع الريجي جرى تقديم موعد تسليم المحصول في النبطية”.

إحدى ورش زراعة التبغ في الجنوب (صورة أرشيفية لكامل جابر)
الخسارة فادحة

وعن تقديره حجم الخسارة يقول فقيه: “هناك خسارة نصف الموسم على الأقلّ، ويجب على الحكومة أن تتحمّل مسؤوليّتها تجاه هؤلاء المزارعين وأن تعتبرها جزءًا من الأضرار المباشرة، إذ هناك عدد كبير من الناس لا مورد لهم سوى شتلة التبغ وهم يتّكلون على المحاصيل آخر كل سنة”.

يضيف: “هناك 16 ألف مزارع في الجنوب، منهم نصفهم، أيّ 8 آلاف مزارع لم يزرعوا موسم التبغ، في نحو 500 ألف دونم. كان الجنوب يسلّم خمسة ملايين كيلوغرام من التبغ، نصف هذه الحيازات لن تسلّم هذا العام، وإذا سلّم الباقون مليوني كيلوغرام من موسم هذه السنة يكون بيتنا في القلعة (مثل متداول)”.

ويتابع فقيه: “دعونا ننتظر الهيئة التي ستعوّض، حتّى الآن الحكومة في حيص بيص، مجلس الجنوب يعوّض عادة على الأضرار المباشرة في البيوت والمباني وعلى الشهداء. كانت أضرار المزروعات في الحروب السابقة تُعدّ لها نصوص مختلفة، كانوا أحيانًا يكلّفون الجيش اللبنانيّ بالكشف والإحصاء. لكنّ زراعة التبغ لها قيود وقطاع منظّم وبواسطة زرّ واحد نخرج إحصائيّة كلّ بلدة وما فيها من مزراعين وحقول، فضلًا عن القيودة الموجودة لدى الريجي”.

يختم فقيه: “الخسارة فادحة، وكلّ قرية في خطّ المواجهة لها حصّتها الوافرة من زراعة التبغ، هناك خسارة مباشرة على المزارعين وكذلك خسارة مباشرة على الريجي، لذلك يجب على الدولة أن تدرس كيفيّة التعويض عندما يصبح ذلك ممكنًا”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى