الزراعة في البقاع بلا ريّ واليباس يجتاح المواسم!
الانهيار جعل من كلمة “تداعيات” عابرة لكل القطاعات. فلم توفّر قطاعاً إلا ودخلت عليه لتصبح تلك المفردة ملازمة للاقتصاد اللبناني برمته الذي يرزح بقطاعاته كافة تحت وطأة الانهيار. وعليه فإن تداعيات فقدان مادة المازوت وانقطاع التيار الكهربائي لفترات طويلة ترك أثراً كبيراً ليس فقط على المستشفيات والمعامل والمصانع والنقل فحسب. بل أيضاً على الزراعة في البقاع التي يعتبر أساسياً وحيوياً في الحياة الاقتصادية وفي الأمن الغذائي.
الزراعة في البقاع في حالة مأساوية بكل ما للكلمة من معنى والسبب انقطاع التيار الكهربائي من جهة، وعدم توفر مادة المازوت للمولدات الكهربائية لري المزروعات من جهة ثانية. وبالتالي فإن جزءاً كبيراً من الأراضي الزراعية والمواسم أتلفت، والجزء الآخر في طريقه نحو التلف.
بالعودة للأشهر السابقة، كان لجائحة كورونا تأثيراً ايجابياً على القطاع الزراعي. والسبب في ذلك كان النزوح الجماعي نحو القرى والأرياف بهدف العزلة التي فرضتها الجائحة والذي أدّى إلى فراغاً في الوقت ملأته الناس بالأرض والاهتمام بها وزراعتها. ترافق ذلك مع بدء الأزمة الاقتصادية. الأمر الذي جعل أهالي البقاع ينظرون إلى العمل في المجال الزراعي على انه عمل رديف لعملهم في الميادين الأخرى، من شأنه أن يوفر مدخولاً إضافياً لا بأس به. وبالتالي ازدادت نسبة العائلات التي تعتمد على القطاع الزراعي كمورد عيش لها. لكن اليوم للأسف وفي ظل الواقع الذي وصلنا اليه ازدادت نسبة المتضررين من مأساة القطاع الزراعي.
نكبة زراعية في البقاع
فقدان مادة المازوت التي تشكل عصب الحياة في القطاعات كافة دون استثناء، أدى إلى نكبة في الزراعة في البقاع. المثال على ذلك سهل القاع أو المنطقة المعروفة بمشاريع القاع، وهي منطقة زراعية بامتياز في البقاع الشمالي. حيث تتجاوز نسبة الأراضي المزروعة فيها الـ ٦٠ في المائة. اليوم هناك أكثر من ٢٠ بالمائة من تلك المساحة تم تلفها. والسبب في ذلك عدم القدرة على توفير مادة المازوت لري المزروعات. حيث تركت لتلاقي مصيرها من اليباس لا بل أكثر من ذلك جعلها مراعي للماعز والاغنام.
المشهد لا يقتصر على سهل القاع وحده، فالعديد من البلدات والقرى التي تُعتبر زراعية وتعتمد دورتها الاقتصادية على ذلك تعاني الواقع ذاته. والخطير في الأمر أن هذه النسبة مرشحة يومياً للزيادة وبوتيرة سريعة. واذا ما بقيت الاوضاع على ما هي عليه، فكل الأراضي دون استثناء ستكون مهددة بالتلف بشكل كامل، وقد تصل نسبة التلف إلى ١٠٠٪ من الأراضي المزروعة. المؤسف أن النكبة التي أصابت الزراعة في البقاع الشمالي تحدث دون ضجيج، ولا مبالاة من المسؤولين ووسائل الإعلام.
مازوت السوق السوداء للري
يتحدث علي علوه وهو صاحب العديد من المشاريع الزراعية في منطقة السلمان قرب الحدود اللبنانية – السورية. وفي منطقة سهل القاع أن الوضع مأساوي ومزري. إذ لم يعد لدى المزارعين طاقة لتحمل الأوضاع وما آلت اليه. منذ فترة يعمل المزارع على تأمين مادة المازوت ليحافظ على موسمه ورزقه. وهو يكافح من أجل ذلك، فتارة يستطيع وبجهد من الحصول عليها وفي الغالب يفشل في ذلك. حينها لا يعود له سوى السوق السوداء يلجأ إليها وهي بسعر يتجاوز الـ ٣٥٠ الف ليرة للصفيحة الواحدة.
ويشير علوه إلى أنه اشترى بالأمس برميل المازوت بـ ٣،٥٠٠،٠٠٠ ليرة من أجل ري مزروعاته التي أصبحت في مرحلة القطاف والتصريف. وأضاف أنه اضطر لذلك والا ذهب تعب الموسم بأكمله، فالبندورة والباذنجان والفليفلة كلها مزروعات تحتاج يومياً للري. وهذا الأمر أصبح مستحيلاً في ظل الأزمة الخانقة التي يعانيها المزارعون. فقلة قليلة منهم اليوم تستطيع توفير مادة المازوت لري مزروعاتها وبطريقة متقطعة، ونسبة كبيرة منهم استسلمت وتركت المزروعات لأن التكلفة أصبحت أكثر بكثير من المردود الذي يمكن أن توفره هذه المنتوجات.
وأشار علوه إلى أن العديد من المشاتل ستتلف، والسبب في ذلك عدم القدرة للاستمرار بالعمل في الظروف الراهنة. حيث يملك هو مشتلاً للملفوف والبروكلي (حوالى ١٠٠،٠٠٠ شتلة) سيتم تلفهم لأن الخوض في تشتيلهم وزراعتهم مجازفة كبيرة في ظل عدم توفر مستلزمات الري من مازوت وكهرباء.
تلف المزروعات
مساحات شاسعة من الأراضي المزروعة بالبندورة في مشاريع القاع تلفت قبل أن ينتهي موسمها. بالإضافة إلى الملوخية التي هوت على الأرض بسبب العطش وجفاف أرضها. كذلك الباذنجان وهو الموسم الذي يعتمد عليه الكثير من المزارعين لأنه يدخل في إطار التحضير لمونة الشتاء سيتعرض للتلف، وهو نتيجة عدم الري بدأ بالذبول. تقول إحدى المزارعات أن الشتول ذبلت، وثمار الباذنجان بدأت تفقد جودتها وتصبح مرّة “تمرمر” لأن عامل الري أساسي للحفاظ على نكهة هذه الثمار. تضيف “الكهرباء غير متوفرة وفي حالة انقطاع دائم، تكاد لا تثبت لنصف ساعة بشكل متواصل”.
مزارعة أخرى في منطقة الشلمان تقول أن بساتين الزيتون يبست بسبب عدم القدرة على ريّها. حيث أنهم لم يستطيعوا سقايتها ولو لمرة واحدة هذا الصيف، مع العلم أن الاشجار المثمرة تحتاج للري مرة كل ثلاثة أيام . وهذا ما أصبح مستحيلاً في الوضع الراهن.
نقل المزروعات
لا تقف أزمة الزراعة في البقاع عند مشكلة عدم ري المزروعات بسبب انقطاع الكهرباء وفقدان مادة المازوت. الحقيقة أن الأزمة أكبر من ذلك بكثير. وإذا استطاع المزارع تخطي الأزمة وري مزروعاته، فإن أزمة أخرى تنتظره وهي أزمة نقل منتجاته الزراعية إلى الأسواق، فلا أسواق محاذية، وعملية نقل الإنتاج من القاع إلى الفرزل وقب الياس وطرابلس مكلفة. وتواجه المشكلة نفسها لجهة عدم توفر مادة المازوت لوسائل النقل التي تحمل الإنتاج من منطقة إلى أخرى. واذا ما توفرت فبأسعار عالية. يقول علوه إن تكلفة نقل ٣٠٠ شرحة هي مليوني ليرة،. فصاحب البيك أب هو أيضاً مرغم على تعبئة المازوت حسب سعر السوق السوداء. وبالتالي تصبح الكلفة عالية، فالصفيحة ب٣٥٠ ألف ليرة على الأقل وهو بحاجة إلى ما يقارب ٤ صفائح.
توقف المعامل عن العمل
الأزمات لم تتوقف عند هذا الحد، فالمزارع البقاعي يتلقى الضربة تلو الضربة، ولا زال يقاوم حتى النفس الأخير. فقدان المازوت أدى أيضاً إلى إقفال العديد من المعامل التي تعنى بصناعة المواد الغذائية وتوقفها عن العمل. هذه المعامل كانت تقوم بشراء المنتجات الزراعية كالبندورة لصناعة “الرُب”، والباذنجان لصناعة المكدوس والمتبلات. معظمها اليوم إما توقف عن العمل وإما مهدد بالتوقف. فالآلات بحاجة للكهرباء من جهة وللمازوت من جهة ثانية وكلاهما غير متوفر.
المزارع في البقاع الشمالي وصل إلى حد الاختناق والموت البطيء، الأرزاق والمواسم التي تعب عليها تتعرض للتلف أمام عينيه دون أن يكون باستطاعته أن يفعل شيئاً. الأمور خرجت عن سيطرته وفاقت قدرته على التحمل. لا مقومات للصمود لديه مع ما يعانيه، وأزمة الزراعة في البقاع تكبر مع الوقت، فاليوم تم إتلاف العديد من المزروعات ويبست بساتين من الأشجار، ولكن ما هو أخطر أنه في الأيام المقبلة سيصبح العمل في القطاع الزراعي في خبر كان. لا أحد سيجازف ويزرع فلا مقومات للزراعة، لأن الري وتراكتورات الفلاحة وكل ما هو مرتبط بهذا القطاع يحتاج إلى توفر مادة المازوت. هذه الأخيرة التي لا أحد يعرف كم سيصبح ثمنها بعد رفع الدعم عن المحروقات؟!.