بتّيخ.. وتَريء.. ومَترأة… 
قاموس اللهجات الجنوبيّة

من لطائف فن التمثيل، انه يحفَظ اللهجات، خاصة تلك المناطقية، التي تذوي شيئاً فشيئاً، حتى تكاد تحتضر في بعض القرى. هكذا ساهم الفنان صلاح تيزاني وفرقته، بتكريس ونشر اللهجة الشمالية، تحديداً الطرابلسية. الأمر نفسه حصل مع نبيه أبو الحسن، الذي أتقن تجسيد شخصية “أخوت شانيه”، الحاملة للّهجة الجبلية الدرزية، وفيما بعد سمعنا اللهجة المتنية مع “يوسف قليقل” التي جسدها الفنان فادي رعيدي، في حين تكثّفت اللهجة البيروتية في شخصية “أبو العبد” التي أدّاها  فنانين عدة، مثل محمد شبارو، وأحمد خليفة، وكذلك قامت بالمهمة ذاتها شخصية “أبو رياض” التي أداها الفنان عادل كرم. بينما هناك يُتم ما مع اللهجة البقاعية، حتى وصلتنا متأخرة وملطّفة مع الكوميديين الجدد: عباس جعفر، وأمل طالب، وعلي اتحاد.

تكفّل ابن “يحمر” الفنان المسرحي رفيق علي احمد بنقل صورة المواطن الجنوبي، وأبدع في تقليد لكنته، ولا ينافسه على ذلك سوى ابن بلدة “العيشية” الفنان منير كسرواني. قارب الفنانان ومعهما “إم طعّان”، تلك اللهجة، بنموذجها العام، السائد في جلّ القرى، وليس كلّها، فالجنوبيون يعرفون ان لهجة أهل الخيام متباينة عن غيرها، وهو حال أهل جويّا، ويارين، وكفرشوبا وعيترون والمجادل.

تكفّل ابن “يحمر” الفنان المسرحي رفيق علي احمد بنقل صورة المواطن الجنوبي، وأبدع في تقليد لكنته، ولا ينافسه على ذلك سوى ابن بلدة “العيشية” الفنان منير كسرواني

أمّا إذا ما دلفنا باتجاه الساحل، فسنجد ان لهجة أهل صيدا لا تشبه أيّ من تلك القرى العالية، وسوف تكون المفارقة كبيرة إذا ما أنصتنا إلى طريقة الفنان “أبو طلال” بالحكي بتلك اللهجة الصيداوية المحبّبة. مع ذلك سنجد شبهًا قليلاً مع الغازية، جارة صيدا، ثم يتضائل الشبه في الصرفند، ليعود ويتضح الشبه أكثر مع لهجة أهل صور، التي يظنها السامع فلسطينية، حيث ان نهايات الكلمات هنا مرفوعة لا مكسورة، فمثلاً الصوريين يقولون “تفاح”، بينما أهالي القرى يلفظونها “تفّيح”، والحال نفسه مع “مفتاح” و”بنات”، و”راهبات”، ليُنطقوا في القرى: “مفتيح”، و”بنيت”، و”راهبيت”.

من أسباب هذا التباين الحاد، ان المدن والبلدات الساحلية، تعيش ثقافة بحرية، والبحر بوّابة على الصيد، والسفر، والتجارة، كما وان الساحل الجنوبي كان طريق القوافل القادمة من تركيا باتجاه سوريا، فلبنان وفلسطين، ومصر، وبالعكس.

في الساحات تُحفظ اللهجات، وعند خلوها تموت.. الصورة من ساحة حولا لمجموعة من رجال البلدة (تصوير كامل جابر)
المهاجرون والشريط

تكاد اللهجات الجنوبية، بل الريفية على العموم، بأن تختفي، بعوامل التقاطع مع أهل المدينة، وتأثير المسلسلات والبرامج التلفزيونية، واتساع سوق العمل، والهجرات ضمن المناطق، والأهم، تجنّب التنمّر الذي يتعرّض له المتكلم بلهجة مناطقية.

في الوقت عينه، سنجد ان المغتربين الأوائل، هم أكثر فئة حفظت لهجات القرى، إذ تركوا قراهم نحو “الببّور” مباشرة، ليبلغوا الشواطئ الاسترالية، والاميركية، والبرازيلية، والارجنتينية، دون المرور عبر “المطهر” البيروتي. هكذا نقلوا ألسنتهم بما لهجت به، وراحوا يستعيدون الكلام الخام مع الأولاد والاحفاد، فلَم تتعرّض للمؤثرات التي قد تحفّ أطرافها، وتبري معالمها، فالمهاجر اللبناني، يتقن لغة البلد الذي قصده، انكليزية كانت أم برتغالية، أم لاتينية. بينما محكيّته القروية، تعيش في وجدانه، وعلى لسانه، على أن يستخدمها حين تقتضي الحاجة.

ضمن الطرح ذاته، ثمّة أمر عجيب، فرضته الضرورة، فحُفظت اللهجة الجنوبية، حتى دون الاضطرار الى السفر، كما هو حال المهاجرين أعلاه. فالسرّ كلّ السرّ يكمن في ذلك الاجراء الهمجي، والعنصري، الذي فرضه الاحتلال الاسرائيلي على تلك القرى التي عزلها عن باقي بلدات الجنوب، بواسطة شريط فاصل، فاصطلح على تسميتهم بـ “قرى الشريط”. إذ كان واقع الأمر، يمنع التداخل، والتلاقح مع اللهجة المدينية، فتخطّي المعبر الفاصل، كان يتطلب تصاريح، وتقارير، وكان هناك توجّس من عبور “المخربين” كما يفترض الاسرائيلي، ما أدّى لبقاء الشيوخ، والعجزة في بيوتهم، وفرغت القرى من عنصر الشباب، والمهن المتنوعة، واقتصرت الحركة التجارية على بعض الافران والدكاكين. كانت هذه العوامل كافية لحفظ اللهجة الجنوبية، بنموذجها الأقرب إلى المحكيّ منذ ثمانين سنة، وأبعد.

أحاديث على “المصطبة” في بلدة حولا الحدودية (تصوير كامل جابر)


الأقرب إلى الفصحى

يلاحظ اللغويون التقارب الكبير بين اللهجة الجنوبية، واللغة الفصحى، فهنا تلفظ الكلمات بشكلها الصحيح، مع تلاعب في التنغيم، فالجنوبي يقول: هذا، ذاب، ذيب، ثور… أما خاصيّة اللهجة العاملية فيما يتعلّق بقلب حرفي “ض” و”ظ”، كأن يقولوا: ظوّ، بدل ضوّ، أو ظمان، بدل ضمان، فلذلك فصول وفتاوى لغوية تشير ان قلب هذين الحرفين، أمر شائع عند الكثير من القبائل العربية القديمة.

من جانب آخر، ثمّة تخفيف وترقيق لحرف “ط” في الجنوب، فيلفظ “ت”، على الشكل التالي:

طريق = تريء
طاقة = تيئة
بطيخ = بتّيخ
طقية = تئيّة

وتشذّ عن هذا بلدة عيتا الشعب، حيث تبقى الـ “ط” بكامل ايقاعها الصوتي، كإثبات على خصوصيات القرى، والخلفيات الثقافية والتلاقحية، المؤثرة في كلماتها، ومخارج حروفها.

المكان الذي نعكسه ويعكسنا

في كتابه “السيميولوجا والتمدّن” يرى رولان بارت، ان المكان عبارة عن خطاب، وهذا الخطاب هو لغة المكان. فالمدينة تتكلم عن سكانها، ونحن نتكلّم مدننا، إذ نشكّل كمجموع انعكاس صورتها\صورتنا. نعكسها عبر مخيالنا، ولغتنا، واستعاراتنا، فالمدينة لا تكاد تنوجد إلّا من خلال البعد التلفظي، وفي النطق، تحتشد الذات الجمعية.

يرى رولان بارت، ان المكان عبارة عن خطاب، وهذا الخطاب هو لغة المكان. فالمدينة تتكلم عن سكانها، ونحن نتكلّم مدننا، إذ نشكّل كمجموع انعكاس صورتها\صورتنا

بهذا المعنى، يعيش الجنوبيون حالة “الورشة” الدائمة التفاعل، حركيّاً، وفكرياً، وهذا لا يتّضح دون رصد الخطاب العام، ولا يتحقق سوى بالتفحّص الشامل للحالة، على أن يكون التشخيص بوعي ألسنيّ، وسيميائي، وانثروبولوجي، كما ذكر إدوارد هال في كتابه “اللغة الصامتة”، وتوسّع مفترضاً للمكان لسان، وهو الجزء الذي تصنعه الثقافة الخاصة، لترسيم حدودها على الأرض، باعتبارها مقوّماً سيادياً، ولذلك نستطيع الجزم بأننا نعيش اغتراباً لسانياً مخيفاً، ففي تلك القرى، نشهد تشظٍّ للخصوصية، بين الكلمات الاجنبية التي تجتاح المدن والارياف، وكذلك هناك المؤثر الديني الذي ينشر مصطلحاته، وخصوصياته.

قد يقول قائل بأن التغيير حق، حتى لو فيه بعض القضم من مخزوننا الخاص، فاللغة عنصر حيّ، متفاعل، متغيّر، وهو قدر جميع اللغات، فكيف الحال باللهجات المناطقية، التي تعيش على الأطراف، ولا تشكل مركزية هويّة البلد؟

هكذا تنسحق الثقافات النابضة ضمن البلدان، بينما هي نبض حيوي، يغني، ويثري، فالكلمات ليست مجرد حوامل للرموز والدلالات، بل في تراكيبها فنون، وموسيقى، وانعكاس لأنماط العيش، برحابتها، وقسوتها، وفظاظتها، ومدّها، وخطفها، وتفخيمها، وترقيقها.

اللهجة، ثقافة، وذوبان تلك اللكنات القديمة، أشبه ما يكون بعنوان كتاب ماركيز، “قصّة موت معلن”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى