جنوبيّات في قرى المواجهة تحت القصف وبين الدمار

انقلبت حياة الجنوبيّين رأسًا على عقب، لم تعد يوميّاتهم كتلك التي كانت قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. خمسة أشهر وخمسة أيام مرّت على الحرب، وهم لا يدرون إذا كانت ستجرّ معها العديد من الأيام والأسابيع والأشهر الأخر. وحده الدمار الذي حلّ بالقرى يشهد على مأساة الحرب، التي عطّلت كلّ أشكال الحياة في قرى الحدود، بعدما شهدت نموًّا لافتًا منذ ما بعد التحرير في العام 2000 وبعد حرب تموز 2006، حيث يُقدّر إنتاج أصغر بلدة بنحو أربعة إلى خمسة ملايين دولار سنويًّا، وفي مختلف المجالات سواء زراعيّة أو تجاريّة أو حرفًا أخرى.

باتت يوميّات ممّن لا يزالون في القرى الحدوديّة (وهم قلّة) أو قريبة منها، تنحصر بمتابعة وقائع الحرب اليوميّة، ساعة بساعة، فلا أحد يمكن له توقّع ما يحمله اليوم التالي، وبرغم هذا القلق المتفاقم، يمضي الصامدون في تلك القرى في حيواتهم، يتحمّلون وزر الحرب وتبعاتها، لا يُحسدون على واقعهم الخطير، وبالرغم من ذلك آثروا الصمود.

تحدي الحرب بالزراعة

ترفض نجيّة منصور أو “المختارة” كما يحلو لها أن تعرّف نفسها مغادرة بلدتها عيناثا، وهي تواظب على الزراعة برغم أنف الحرب، إذ إنّها كانت قبلها (الحرب) مزارعة تختبر زراعات جديدة في بلدتها، من بينها القطن والشاي الأحمر، ونجحت في زراعة دونمات منها، إضافة الى زراعة الكمّون واليانسون وغيرها من زراعات لم تكن مألوفة بين أبناء تلك القرى، ممّن مرّغت أيديهم لقمتهم فغدت مرّة من زراعة التبغ.

حتّى اليوم لم تتخلَّ منصور عن زراعاتها. صحيح أنّها لا تتوجّه نحو حقولها البعيدة عن منزلها الواقع وسط البلدة، لكنّها تتابع إنتاج محاصيلها من البيوت البلاستيكيّة التي نصبتها في الحقول المحاذية لمنزلها، وزرعتها بشتّى أنواع الخضار. في حسابات السيّدة الخمسينيّة “أنّ الحرب لا بدّ لها أن تنتهي، وأنّ الصمود والتشبث بالأرض شكل أساس من أشكال المقاومة”.

تتحدّث “المختارة” إلى “مناطق نت” فتقول: “أنتظر انتهاء الحرب، وفي الوقت نفسه سأبدأ الزراعة في أرضي البعيدة نسبيًّا عن منزلي، لأنّ الزراعة جزء من الصمود في مواجهة التهجير”.

المختارة نجية منصور أثناء عودتها من “التسليق”
مواصلة الحياة بثبات

قدر الجنوبيّات، خصوصًا اللواتي لم يزلن في منازلهنّ في الجنوب، مواصلة الحياة بثبات، معظمهن في القرى الحدودية يعملنّ في الزراعة، وتحديدًا زراعة التبغ، التي لم تنصفهن يومًا، ولم تقدّم لهنّ أيًّا من حقوقهنّ، بل أسهمت الريجي في تغييب هذه الحقوق وعدم إبرام أيّ قانون ينصفهن بما يستحقّنّ لقاء تعبهنّ، بل اعتادت سرقته بـ”تراب المصاري” كما يردّدن.

ترفض نجيّة مغادرة عيناثا، ما زالت صامدة مع عائلتها وأولادها، وتقول: “لا أحد يترك منزله المليء بالذكريات، تعلّقي بمنزلي مثل تعلّقي بأرضي، لا أتخلّى عنهما، وأفضل الموت هنا على الابتعاد عنهما”.

غادر معظم سكان عيناثا بلدتهم، لم يبقَ فيها غير أفراد قليلين، ودكّان يؤمّن بعض متطلباتهم ولكن ليس بالشكل المطلوب.

قدر الجنوبيّات، خصوصًا اللواتي لم يزلن في منازلهنّ في الجنوب، مواصلة الحياة بثبات، معظمهن في القرى الحدودية يعملنّ في الزراعة، وتحديدًا زراعة التبغ، التي لم تنصفهن يومًا، ولم تقدّم لهنّ أيًّا من حقوقهنّ.

خبز تحت دويّ القصف

تخبز نجيّة على الصاج لتوفير الخبز، توزع بعضه على من يحتاجه لدعم بقائه أكثر، إلى جانبه تعدّ الكعك والمعمول وتوزّعه على الصامدين من أبناء بلدتها.

في أوقات الهدوء، تخرج نجيّة مع بعض النسوة إلى حقول عيناثا لانتقاء نبتات “العنّة” و”العلت” (الهندباء) و”الحمّيضة”، و”الزعتر” و”الخبّيزة” لتحضير أطباق “العصّورة” و”البقلة” و”العجّة”، عنها تقول نجيّة: “نريد أن نؤمّن طعامنا، وأرض عيناثا معطاءة ولا تبخل علينا في مواجهة أعباء الحرب وتداعياتها الكارثيّة على الجميع”.

لم تغب صور تالين وليان وريماس شور وجدّتهم عن بال المختارة، بعدما قضين بغارة إسرائيليّة استهدفت سيّارتهم على طريق عيناثا- عيترون تقودها أمّ البنات، التي أصيبت بجروح مختلفة.

نجية منصور (المختارة) أثناء إعدادها الخبز المرقوق في منزلها في بلدة عيناثا الجنوبية

برغم تجاوز عدد نازحي الجنوب مئة ألف نازح، يتوزّعون بين النبطيّة وصور وباقي المناطق، إلّا أنّ القرى لم تفرغ تمامًا من أهلها، فبلدة حولا التي دفعت غاليًا جرّاء الحرب وسقط فيها العديد من الشهداء، وحلّ في أحيائها دمار كبير، بيد أنّ عددًا من أبنائها لا يزالون يقيمون فيها برغم المخاطر الكبيرة التي تتهدّد حياتهم.

حولا تصارع البقاء

تكاد لا تهدأ أصوات القصف في بلدة حولا، البلدة المشرفة مباشرة على مواقع البغداديّ، كريات شمونة ومستعمرة مرغليوت وأجزاء من المنارة، ومع ذلك يمضي عدد من أبناء البلدة في عيشهم، لم تجبرهم الحرب على النزوح، ما زالوا على إصرارهم: “يا حولا ما منتخلّى عنك”.

أجزاء من أراضي حولا لمّا تزل محتلّة، وتحديدًا تلك الواقعة ضمن الخطّ الأزرق، القريبة من موقع العبّاد وبلدة هونين المحتلّة، إحدى القرى السبع. كانت نعيمة شبيب الستّينيّة، تعمل في تلك الأراضي في صباها، “كنا نزرع القمح والبقوليّات” تقول. والدها كان من أكبر المزارعين في خمسينيّات القرن الماضي، تتذكر شبيب جيدًا تلك الأرض، ما زالت تشتاق إلى رائحتها، فهي ولدت وترعرعت وعاشت في كنفها. تقول مبتسمة “كانت إيّام عز”، أشترى والدها الأرض من أهل هونين وبنى عليها بيتًا، هذه الأرض “محتلّة اليوم”.

الدمار في حولا

أثناء تجوالك في حولا تتعرّف على أبنائها وتتلمّس تمسكهم ببلدتهم، “هذه الحرب لن تهزمنا” تقول زينب فارس الصامدة في حولا حتّى الساعة. لم تترك فارس وهي أمّ لأربعة أبناء أكبرهم في الثانية عشرة من العمر، مسقط رأسها، برغم كلّ الدمار الذي حلّ فيها، والظروف الصعبة التي تعيق تنقّلهم أو تحرّكهم بحرّيّة، خشية القصف المستمرّ وغارات المسيّرات والطائرات الحربيّة.

جرّبت زينب النزوح مدة خمسة أيام إلى جوار النبطية، ثم ما لبثت أن عادت الى بلدتها مثل كثيرين من أبنائها، “لأنّ كلفة النزوح باهظة، والوضع المعيشي لا يسمح بذلك، ففضلنا الصمود على ذلّ النزوح وعدم القدرة على متطلّباته واحتياجاته”، وتردّد “هذه الأرض أرضنا، وهي أفضل حضن لنا، ولن نتركها مهما حصل” تقول زينب.

لا يصل الخبز يوميًّا إلى البلدة، بسبب خطورة الطريق، بعض الأهالي يتدبّرون أمرهم ممّن يصل إليهم. أمّا احتياجات زينب وأولادها، فمرهونة بعودة زوجها من عمله في بيروت “يعمل زوجي في بيروت وفي كلّ مرّة يأتي فيها يجلب كلّ الضروريّات التي نحتاجها”.

جرّبت زينب النزوح مدة خمسة أيام إلى جوار النبطية، ثم ما لبثت أن عادت الى بلدتها مثل كثيرين من أبنائها، “لأنّ كلفة النزوح باهظة، والوضع المعيشي لا يسمح بذلك، ففضلنا الصمود على ذلّ النزوح وعدم القدرة على متطلّباته واحتياجاته”

تستفيق فارس على القصف، وتنام على صوت الغارات، وبينهما، تستغلّ وقت الهدوء للاعتناء بأرضها وأولادها، تتواصل مع من بقي في البلدة، يجترحون يوميّات صعبة محمّلة بكل المفاجآت التي قد تحصل.

في حولا تتعرّف على القاطنين فيها تحت ظروف صعبة جدًّا، على عائلات رفضت المغادرة لأن النزوح مؤلم ومكلف، هنا تصادف رعاة الماشية ممّن يسرحون بمواشيهم برغم الغارات، يرفضون النزوح، فحسن حسين وزوجته وإبنهما دفعوا ضريبة صمودهم.

يأمل أهالي حولا استعادة أرضهم المحتلة، والتي ما زالت تقبع خلف الشريط الشائك. يقول رئيس بلدية حولا شكيب قطيش، “ما تدفعه حولا اليوم هو ضريبة استعادة الأرض”.

بحسب قطيش أراضي حولا المحتلة كبيرة، حين وُضع الخط الأزرق قضم جزءًا من أراضي حولا ونأمل أن نستعيدها في هذه الحرب”.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى