حكي مناطق: حصاد السنة

في الطائرة التي أقلّتني السنة الماضية إلى باريس، وكان مرّ على الحرب شهران، تسألني السيدة الجالسة بجانبي، وهو لسان حال جميع اللبنانيّين الذين يتعرّفون على الآخر كي يبنوا على الحديث مقتضاه: “من وين حضرتك؟”. فأجيبها أنّني من الجنوب، ليبدأ بعدها الحديث “الاطمئنانيّ” عن وضع الجنوب في ظلّ الحرب وكيف نتدبّر أمورنا!

وعلى رغم أنّني أوضحت لها أنّ بلدتي تبعد عن المواجهات التي كانت محصورة آنذاك في قرى وبلدات الحافّة الأماميّة، مسافة أربعين كيلومترًا، وأنّ الحياة فيها تسير بشكل طبيعيّ، (لاحقًا ومع توسعة الحرب أصابها كثير من الدمار) إلّا أنّ ذلك لم يقلّل من توضيح المشهد، إذ تابعت حديثها وكأنّ الجنوب كلّه خطّ نار، ولتفاجأني أنّها لا تعرف الجنوب ولم تزره طوال عمرها.

كلام السيدة، وهي أستاذة جامعيّة تحطّ رحالها في العاصمة الفرنسيّة باريس من أجل محاضرة دُعيت إليها، كان قد سبقه كثير من الأحاديث مع أصدقاء من مناطق مختلفة يتّصلون ويطمئنّون بعد اندلاع الحرب، إذ كان الانطباع بالنسبة إليهم هو نفسه، بأنّ الجنوب كلّه خطّ نار.

قادتني الأحداث في بدايتها إلى مسألة التنميط في المخيّل الجمعيّ اللبنانيّ، وخصوصًا المناطقيّ منها، حيث الجنوب يعني حدودًا، يعني حربًا، يعني شيعة، يعني ثنائيًّا (حزب الله وحركة أمل)، يعني زراعة التبغ، يعني المقاومة ويعني كثيرًا من الأشياء التي تقع فورًا تحت خانة التنميط ما أن نذكر الجنوب. وعلى الرغم من أنّ ذلك فيه كثير من الحقيقة، إلّا أنّه فيه كذلك كثير من المبالغة والاختزال، وهذا يقلّص من عين الواقع ويجعله مغايرًا.

فالجنوب على لسان أحد نوابه: أربعون في المئة من أبنائه ليسوا شيعة، بل مسيحيّون ودروز وسنة يتوزّعون على أقضيته المختلفة، وزراعة التبغ فيه ليست حصريّة، بل تنتشر في الضنّيّة وعكّار وغيرهما من المناطق، ولها باع طويل في ذلك، والجنوب ليس بعيدًا من مناطق لبنان الطبيعيّة الجميلة، بل في قلبها، من إقليم التفّاح وجزّين وجبل الريحان والمناطق الحدوديّة ومجرى الليطانيّ والساحل البحريّ، وصولاً إلى الناقورة وما بينها من وديان وسهول، هي في الحقيقة لوحات طبيعيّة تصلح لسياحة مستدامة لو أُحسن الاستثمار فيها.

تنميط الجنوب أيضًا يؤدّي إلى طمس تراث جبل عامل وتاريخه الغنيّ في المجالات جميعها، الثقافيّة والشعريّة والأدبيّة والعلميّة والفكريّة والفنّيّة والسياسيّة والنهضويّة، وما صنعه ذلك في المشهد اللبنانيّ العام.

يغلب التنميط المناطقيّ ويتخطّى المكانة “الجهويّة” الجغرافيّة، بما هي مناطق لها حيثيّتها وهويّتها الاجتماعيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والمجتمعيّة، من عادات وتقاليد، وهو لا ينحصر بمنطقة دون أخرى بل يطال كلّ المناطق، لكن التنميط يغلّب مناطق دون أخرى، وهو ما ينطبق على منطقة بعلبك الهرمل التي ما أن يحضر اسمها حتّى يحضر الطفّار والثأر والفوضى والممنوعات وسرقة السيّارات والمطلوبون وسواها، ومعها يطغى التنميط على جماليّات منطقة بعلبك الهرمل وعلى تراثها الغنيّ في شتّى المجالات، أسوة بمناطق أخرى.

في العادة تغيب المناطق والأطراف عن الإعلام، وتحضر على نحو متفرّقات لاستكمال مروحة الأخبار، لكنّ الحرب قلبت القاعدة رأسًا على عقب، تسيّدت المناطق بفعل الأحداث نشرات الأخبار. حلّت بمآسيها ونكباتها خبرًا أوّلًا وثانيًا وثالثًا، صارت أسماء القرى والبلدات المنسيّة في أقاصي الجنوب والبقاع، وحتّى في مناطق متفرّقة أخرى، على كلّ منصّة ومحطّة ووسيلة إعلاميّة، ليس في لبنان فحسب بلّ في محطّات عربيّة وأجنبيّة غالبًا ما يتلعثم المذيعون بأسماء بلداتها وقراها.

صارت أسماء حولا ومركبا والعديسة وربّ ثلاثين والقنطرة وديرسريان والضهيرة والقوزح ودبل وكفرحمام وغيرها كثير من أسماء قرى في الجنوب تعرّضت للتدمير الممنهج، يتمّ تداولهم على مدار الساعة. وأيضًا بوداي وشعث واللبوة ويونين وتمنين وسرعين ودورس وغيرها كثير في منطقة بعلبك. طغت أخبار الأطراف وأحداثها التي امتدت أكثر من 14 شهرًا على أخبار المركز. صارت هي الحدث، فيها تبدأ الأخبار وبها لا تنتهي.

المفارقة أن مناطق الأطراف لا تحضر إلّا كخبر، ولا تستوي كقضية. تحضر حربًا وتغيب سلمًا. أمس، قال لي أخي إنّه لم يعد أحد يسمع ببعلبك، فبعدما حضرت على شكل مأساة في زمن الحرب عادت وغابت مهمّشة منسيّة في زمن السلم.

في “مناطق نت” قرّرنا أن نخوض حربًا ضدّ التنميط وضدّ الإقصاء، وضدّ أن تكون المناطق خبرًا يحضر في الحرب، وقضيّة تغيب وتتلاشى في السلم. قرّرت “مناطق نت” أن تكون عابرة للتنميط، تكشف خبايا المناطق وغناها على مختلف المستويات. قرّرت أن تحكي عن النبطية وإرثها الثقافيّ الغنيّ والتي لا يضاهيها فيه أحد، فالذي أنجبته النبطية وأعطته على مستوى الثقافة والفنّ والشعر والمسرح والسينما والغناء والفكر لم تعطه أيّ مدينة أخرى، مدينة تستحقّ أن تعود عاصمة ثقافيّة بامتياز. قرّرنا أن نحكي عن صور وغناها وتنوّعها وإرثها الذي لا يضاهى، عن الخيام وبنت جبيل، وميس ومرجعيون ورميش وكفرشوبا. قرّرنا أن نحكي عن بعلبك وشعرائها وأدبائها وتراثها وصحفها وقاماتها الشعريّة والأدبيّة والفنّيّة، عن زحلة وعن البقاع الغربيّ وعن حاصبيا وعن طرابلس وعكّار والمنية والضنّيّة وعن جبل لبنان وعن القلب بيروت.

العام 2024 كان عام مآسٍ وحروب واكتشاف المناطق التي كانت نسيًا منسيًّا، كان عام المناطق و”مناطق” بامتياز، به عبرنا إلى حيث الوجع والحبّ والأمل، مع تلك الوجوه التي وجدت في “مناطق” ملاذًا دافئًا فتحدّثت وأفاضت، ومنبرًا حرًا فعبّرت وجاهرت، ومكانًا آمنًا فصرخت وغنّت وبكت. في “مناطق نت” قصص ووجوه وحكايا وصور وسيَر تحاكي مناطقها وتعبّر عنها، في الثقافة والتراث والقضايا الاجتماعيّة والزراعيّة والاقتصاديّة، وقضايا البيئة والتلّوث والتعليم والفنّ والشباب وغيرها.

في العام 2024 كانت الحرب وكانت “مناطق نت” تغطّي تداعياتها بكلّ نواحيها ومآسيها، من قضايا النزوح والشهداء والصامدين والدمار وخسران المنازل إلى قضايا المفقودين في القرى والبلدات ومشاكل الخدمات. في العام 2024 كانت “مناطق نت” صوت الموجوعين والمنكوبين والحالمين بالعودة إلى منازلهم، وفي العام 2025 ستبقى صوتًا لأبناء المناطق، معهم تقبض على الحلم والأمل وتسير نحو عام جديد.

المواضيع الأكثر قراءة:

مشروع “مشبوه” يُحاصر محميّة شاطئ صور ومخاوف من تعدّيات بالجملة

مجزرة البابلية حكايات من تحت الركام

وُلدت في مركز نزوح بحرب 2006 واليوم تعود إليه نازحة

الاحتلال يمحو معالم القرى الحدودية.. جريمة حرب موصوفة

علّمينا يا بعلبك كيف لا نبكي المدن الجميلة

حسيبة هاشم بدير قارئة عزاء “حسينيّ” من زمن عفويّ

شرطة بلديّة أم “ميليشيات محليّة”: دور البلديات بين السلامة العامة وانتهاك حقوق الانسان

حين تبرّعت جمعية الإتحاد الوطني في بشتفين بليرتين للأسطول العثماني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى